بينما نالت الناحية الإدارية كذلك جانباً من اهتمامات الإمام القاسم حيث عهد إلى أبنائه وكبار رجاله تسيير أمور الأقاليم والمراكز الإدارية التابعة لنفوذه، فقد أناط إدارة إقليم الشرف إلى ابنه الحسين، فيما ولّى ابنه أحمد على إقليم صعدة، وجعل: "ابنه (الأكبر) محمد ينوب عنه في بعض الشؤون الإمامية في المركز الإمامي بشهارة". وقلد كذلك العديد من كبار رجال إمامته مناصب إدارية شملتها غالب مناطق الشمال الجبلي التابعة لنفوذه، وقد وجه جميع هؤلاء بتنفيذ الأحكام "الشرعيَّة بموجب الشريعة المحمدية"، وشدد عليهم بمتابعة شؤون الأهالي وتنظيم أمور حياتهم لإقرار العدل بين الناس، وألزمهم بضرورة الرجوع إلى الإدارة الإمامية في الأمور والقضايا التي تستعصي عليهم.
أما بالنسبة للجانب العثمانين، فقد مثّل له الصلح هو الآخر متنفساً لإعادة تنظيم أوضاعه في الولاية، فقد عمد محمد باشا إلى ترميم الهيئة العثمانية التي أصابها الضعف -جراء الحروب الطويلة خلال المرحلة الرابعة لثورة الإمام القاسم- وحاول تشجيع العثمانيين في البلاد، لاستعادة الثقة؛ بأنفسهم من جديد.

وفي حقيقة الأمر فقد أدرك محمد باشا أن ما كان يؤمله عند قدومه إلى اليمن من إحراز نصر عثماني كبير وحاسم ضد الإمام القاسم، لرفع مكانته لدى السلطنة وبالتالي تحجيم الإمامة سياسياً، كان مخيباً لآماله عامة، خاصة وقد دخل في أتون حرب ضارية مع الإمام، أفقدته الكثير من قادته وجنوده، بالإضافة إلى ما حدث في اضطرابات في صفوف قواته، التي ملت الحروب وطالبته بمخصصاتها المالية، بل وأدى الأمر أن بعضهم قد: "هم بقتله" لذلك فقد مثل الصلح ضرورة حتمية لإعادة الاستقرار والهدوء في صفوف قواته خاصة والولاية بشكل عام.
في ما هيأ الصلح كذلك لمحمد باشا، وضع حد لتمرد بعض أقاليم وسط البلاد (وصاب وعتمة وريمة)، المشهورة بجبالها العالية ومناطقها الوعرة، والتي كانت على الدوام مصدر إزعاج وقلق لسلطة الحكم العثماني في اليمن -كما أشرنا آنفاً- ويبدو أن الجانب الاقتصادي هو الآخر كان عاملاً هاماً في إحكام السيطرة العثمانية على تلك الأقاليم كونها: "بلاد الخراج والأموال الواسعة والخيرات المتتابعة" لذلك فقد سارع محمد باشا في إرسال قوة عسكرية كبيرة تحت قيادة الأمير تيمور لإعادة السيطرة على الأقاليم الآنفة الذكر.
ويبدو أن الصلح قد مكن -أيضاً- الوالي محمد باشا من وضع حد لتمرد واسع النطاق كانت مجريات أحداثه هذه المرة وسط الأقاليم الجنوبية، تحديداً منطقة الحجرية والتي استغل حاكمها الأمير على الشرجبي، احتدام الصراع بين الإمام ومحمد باشا في أوائل سنة 1025ه‍/1616م ليعلي من شأنه وليوسع من دائرة سيطرته.

ولقد بلغ هذا الأمير حسب مؤرخ محدث: "منزلة كبيرة خاصة خلال الولاية الثانية لجعفر باشا عندما كان هذا الوالي في أتون صراع ضارٍ مع قوى الإمامة" كما أن محمد باشا كان قد أولاه هو الآخر رعاية كبيرة وأبقاه في منصبه.
وفي واقع الأمر فإن خطورة تمرد الأمير علي الشرجبي تكمن في كونه قد حاول مد سيطرته إلى مناطق بالغة الأهمية بالنسبة للعثمانيين. حيث أرسل قوات يصل قوامها إلى ثلاثة آلاف جندي للسيطرة على إقليم خدير -الواقع شرق مدينة تعز- الذي كان تحت نفوذ الأمير اليمني العثماني حيدرة بن إسماعيل السلمي، ولم يكتف بذلك بل عمد إلى قطع: "طريق عدن تعز وطريق المخاء من طريق موزع". الأمر الذي يعني قطع أي إمدادات عسكرية وغذائية قادمة من السلطنة عبر مينائي عدن والمخاء إلى مركز الحكم العثماني في صنعاء.
أدرك محمد باشا خطورة الوضع القائم -وقتئذ- مع خشيته امتداد تمرد الأمير على الشرجبي إلى غالب المناطق الجنوبية، لذلك أمر بإرسال جميع قواته حسب الموزعي: "المرابطة من كوكبان إلى عدن" إلى التقدم إلى منطقة الجند لوضع حد للتمرد إلا أن تلك القوات لم تستطع تحقيق أي نصر يذكر خاصة وأن عدداً غير قليل من القبائل الجنوبية قد انظمت إلى قوات الأمير الشرجبي وتمركزت على طول الطريق من الحجرية غرباً إلى دمنة خدير شرقاً.

أيقن الوالي محمد باشا أن استمرار تفاقم الأوضاع في الأقاليم الجنوبية بتلك الصورة القائمة قد يؤدي إلى عصيان واسع النطاق في تلك الأقاليم، وإلى زعزعة النفوذ العثماني في الولاية. لذلك سارع إلى مطالبة السلطنة بتعزيزه بقوات عسكرية لكبح تمرد قبائل الجنوب -شرعب وما والاها- من جهتها لم تتوان السلطنة العثمانية في إرسال الإمدادات العسكرية التي طلبها واليها في اليمن، فلقد رأت أن الوضع في الأقاليم الجنوبية للولاية أصبح بالغ الخطورة، خاصة مع خشيتها أن يستغل الإمام القاسم ذلك ويعمد إلى نقض الصلح المبرم مع محمد باشا، وهو أمر إن حدث سيؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها في ولاية اليمن. فكان أن أمرت بإرسال قوة عسكرية من ولايتها في مصر تحت قيادة الأمير صفر.
وصلت الحملة العسكرية العثمانية إلى مدينة تعز في شهر صفر 1028ه‍/1619م فعمد محمد باشا إلى تعيين قائد تلك الحملة الأمير صفر حاكماً على: "تعز وما إليها وجبل صبر وأعمالها وشرعب وتوابعها" ويبدو أن إجراءاته السريعة تلك كان الغرض منها إضفاء مزيد من الهيبة على القوة العسكرية القادمة من السلطنة من جانب، ومن جانب آخر إعطاء صلاحيات واسعة للقائد العثماني الأمير صفر لإحكام قبضته على التمرد القائم في الأقاليم الجنوبية من البلاد، خاصة وأن الأمير صفر كان ملماً بأوضاع اليمن من خلال خدمته مع جعفر باشا عندما كان والياً لليمن.

وفي واقع الأمر فقد كثف الأمير صفر إجراءاته العسكرية من الجنود والعتاد الحربي، واستطاع بعد معارك ضارية خاضتها قواته مع قوات القبائل من مدينة تعز إلى إقليم الحجرية وتمكن من محاصرة الأمير الشرجبي في منطقة الأعلوم القريبة من الحجرية، وكان الشرجبي قد استدعى غالب قواته المرابطة في إقليم دمنة خدير لمواجهة القوات العثمانية في الحجرية.
وفي خطوة كان الغرض منها قطع الإمدادات على الأمير الشرجبي في مركز تحصنه في الأعلوم، التقي الأمير صفر بمشائخ بلاد الحجرية: "ومشائخ السامعية وشيخ الصلو وشيخ بني حماد وشيخ الأعروق".وغيرهم من مشائخ تلك الجهات الواقعة إلى الشرق وإلى الغرب من مدينة تعز، واستطاع بعد مفاوضات أجراها معهم أن يعيد موالاتهم ثانية للنفوذ العثماني، وحسب الموزعي فقد: "راعاهم وأحسن إليهم".
لقد أدت تلك الإجراءات التي عمد إليها الأمير صفر إلى نتائج إيجابية، حيث امتنعت جميع قبائل الحجرية والأقاليم المجاورة لها من مؤازرة الأمير علي الشرجبي أو تقديم الإمدادات -عسكرية غذائية- إليه، وهو الأمر الذي أدى في نهاية المطاف في شهر رمضان 1029ه‍/1620م بعد حروب استمرت قرابة السنتين شهدها إقليم الحجرية إلى إنهاء تمرد الأمير علي الشرجبي، الذي لاذا للاحتماء بحصن الجاهلي المنيع في جبل المقاطرة، وظل هناك إلى أن طلب الأمان من محمد باشا، ومن ثم انخراطه من جديد تحت راية النفوذ العثماني في شهر رمضان من سنة 1030ه‍/1621م.

مما لا شك فيه أن الصورة التي رسمناها لمجريات الأحداث السابقة الذكر توضح بجلاء، كيف كان الصلح مطلباً ملحاً وضرورة اقتضتها حاجة الجانبين لبلورة سياسة جديدة اعتملها الطرفان عقيب الصلح -كما أشرنا آنفاً- أدت بالتالي إلى نتائج توخاها الجميع على أرض الواقع هيأت من خلالها للإمام القاسم والوالي محمد باشا بدء مرحلة بناء وتحديث في مراكز كل منهما -بعد أن أنهكت قدراتهما حروب سنوات عدة.
وفي واقع الأمر فقد أظهر الصلح حقيقة هامة وهي أن الإمام بات يمثل قوة عسكرية وسياسية حقيقة -رغم الظروف التي عانى منها- وأثرت في مجريات الأحداث -للخارطة السياسية لليمن وقتئذ- بل وتملي شروطها كهيئة حاكمة أصبحت نداً للسلطة العثمانية في البلاد، انتزعت شرعيتها باعتراف ضمني بها من قبل السلطنة، كما بين الصلح حقيقة أخرى وهي ضعف الحكم العثماني واهتزاز بنيته في الولاية.
وهكذا مثل صلح 1028ه‍/1619م، المحطة الأخيرة، لنهاية المرحلة الرابعة والأخيرة من مراحل ثورة الإمام القاسم التي خاضها عبر سنوات عدة ضد الوجود العثماني في اليمن كما أوضحتها فصول الرسالة.

وفاة الإمام القاسم
توفي الإمام القاسم بن محمد بعد عقد الصلح بسنة، وذلك في 12 ربيع أول 1029ه‍/ 16 يوليو 1620م، ودفن إلى جوار جامع شهارة. وعقب وفاته بايع أتباعه أكبر أبنائه -محمد- والذي تلقب بالإمام المؤيد بالله، فيما سارع الوالي محمد باشا بإرسال رسالة إلى الإمام الجديد -المؤيد بالله- عبر فيها عن بالغ الأسى والحزن لوفاة الإمام القاسم، وأكد في رسالته تمسكه بصلح 1028ه‍/1619م وسريان مفعوله كما حددته بنوده.
ويبدو -للباحث- بأن الرسالة كانت بمثابة اعتراف ضمني من قبل الدولة العثمانية بإمامة المؤيد بالله محمد، وبمدى قوة الجانب اليمني، كما أن تمسك الوالي محمد باشا بالصلح أوضح بجلاء ضعف الجانب العثماني في الولاية.
وفي حقيقة الأمر فقد كانت مبايعة الإمام المؤيد بالله من العوامل الهامة التي أظهرت وحدة القوى الزيدية وتماسكها، ولقد خاض المؤيد بالله فيما بعد حروباً ضارية ضد الوجود العثماني الأول في اليمن، أدت في نهاية الأمر إلى انتصاره عليهم وإخراجعهم منها للمرة الأولى في عام 1045ه‍/1635م.

ولعلنا في الخاتمة نستطيع القول أنه باستقراء دقيق لمجريات أحداث ثورة الإمام القاسم -كما أوضحتها الرسالة- تكون الإمامة الزيدية قد أكملت دورة حياتها. ولعل الإمام القاسم قد انفرد بذلك دون غيره من الأئمة الزيديين، حيث استطاع أن يؤكد قدرة الحكم الإمامي على التجديد بالرغم من تطور المصالح العثمانية في اليمن. ولقد بيَّنت إمامة القاسم والثورة التي قادها ثم الحكم الإمامي الذي ظهر عقيب صلح 1028ه‍/1619م أبعاده السياسية التي مهدت للأحداث من بعده، والتي وضعت اللبنات الأولى في مدامك الدولة القاسمية (الزيدية) في اليمن حين أكمل دعائم إقامتها ولدا الإمام القاسم، المؤيد بالله محمد (1029-1054ه‍/1620-2644م، ومن بعده أخيه الإمام المتوكل على الله إسماعيل (1054-1087ه‍/1644-1676م) توحدت اليمن في ظل حكم الأئمة الأوائل من أسرة آل القاسم لتستمر بين مد وجزر عبر مسار تاريخي. انتهى بزوال نظام الإمامة وقيام النظام الجمهوري الحديث في اليمن عام1962م.

الفصل السادس (دراسة تمهيدية عن المؤرخ ومخطوطته)
ترجمة المؤرخ: المطهر بن محمد الجرموزي
تمهيد
تعد الفترة الزمنية (1538-1635م) إحدى الفترات التاريخية الهامة في تاريخ اليمن الحديث؛ إذ ارتبطت مجريات أحداثها ووقائعها، والتي تصل إلى قرابة مائة عام هي فترة الوجود العثماني الأول في اليمن- بأحداث سياسية هامة نتجت عن ذلك الصراع الذي احتدم بين العثمانيين واليمنيين- خاصة الأئمة الزيديين -حيث برزت الإمامة الزيدية- وقتئذ كقوة رئيسية واجهت العثمانيين الذين قاموا: بـ"قيادة الثورات الوطنية حينذاك ضد العثمانيين"، الأمر الذي مكنهم في النهاية أن يقوموا بدوررئيسي في تاريخ اليمن الحديث بل والمعاصر.
ولم تكن العلاقة بين القوتين -الآنفتا الذكر- حسب مؤرخ معاصر: "حرباً دائماً أو سلاماً دائماً". بل كانت مزيجاً من الإثنين، فلقد كان همّ العثمانيين إقامة عمق استراتيجي داخل اليمن لما من شأنه إحكام نفوذهم وسيطرتهم عليه، فيما رأى الأئمة في الوجود العثماني -حينئذ- عقبة أمام مد نفوذهم في كل أنحاء البلاد ومن ثم الاستقلال عن دار الخلافة، وذلك ما تم كنتيجة لثورة الإمام القاسم بن محمد ومن بعده ابنه المؤيد.

ولقد تأثرت حركة التأليف في اليمن، في واقع الأمر بالأوضاع السياسية الناجمة عن ذلك الصراع، نتج عنه تصادم آخر في النواحي الثقافية والفكرية أدت بالتالي إلى اشتراك القلم في رصد وقائع الأحداث ومجرياتها -في الحرب والسلم على السواء- وظهرت كتابات ومؤلفات، عالجت النواحي المختلفة الخاصة بتلك الفترة، ورسمت خطوطها السياسية بشكل واضح وذلك في أبعاد متفاوتة، ومن وجهات نظر مختلفة كانت مصدراً هاماً يستند إليه كل من أراد أن يؤرخ لهذه الفترة ويعول بالتالي على مصداقيته باتجاه طرح رؤاه وتحليلاته عنها.
وما زال غالب تلك المؤلفات والكتابات حبيس المكتبات العامة أو الخاصة منها، وهي بلا ريب تمثل تراثاً وطنياً ثرياً، ومن الأهمية بمكان القيام بتحقيقها ونشرها ليتمكن المهتمون والباحثون، من دراستها وتحليلها ولعل مخطوط (النبذة المشيرة إلى جمل من عيون السيرة) -موضوع الدراسة- للمؤرخ المطهر بن محمد الجرموزي، يعد واحداً من نماذج مؤلفات ذلكم العصر كونه -الجرموزي- أحد معاصري فترة لنشوء الدولة القاسمية (الزيدية) التي أرسى دعائم بنائها الإمام القاسم بن محمد آخر سنوات الوجود العثماني الأول في اليمن.
ولقد كتب المؤرخ الجرموزي ثلاثة مؤلفات -سنأتي على ذكرها- أولها موضوع دراستنا -النبذة المشيرة إلى جمل من عيون السيرة- وهي سيرة أحداث ووقائع الإمام القاسم بن محمد فيما تناول في مؤلفيه الآخرين سيرة كل من ولدي الإمام القاسم، وهما الإمام المؤيد بالله محمد (ت1054ه‍/1664م)، والإمام المتوكل على الله إسماعيل (ت1087ه‍/1676م).
ولعلنا فيما يأتي نوضح بالتفصيل ترجمة عن المؤرخ الجرموزي، مستقصين أخباره بما حصلنا عليه من مصادر.

16 / 109
ع
En
A+
A-