ولقد تزامن مع تردي الأوضاع -الآنفة الذكر- قلق أشد في جانب التجارة البحرية في مينائي عدن والمخاء، حيث بات الهولنديون والإنجليز يتطلعون بشكل أكبر نحو سواحل هذين المينائين بهدف الحصول على امتيازات تجارية لصالحهم. ويبدو ذلك واضحاً حين سمحت الدولة العثمانية للإنجليز في إبريل 1618م بالاتجار في أي ميناء من الموانئ اليمنية، فيما أصدر السلطان عثمان الثاني(1617-1622) مرسوماً سلطانياً في رجب 1027ه/يوليو1618م -عقب مفاوضات أجراها مع السفير الهولندي في استانبول (كورنيلى هاخا)- للوالي محمد باشا يتم بموجبه السماح للسفن الهولندية القادمة من الهند الشرقية الاتجار عبر موانئ ولاية اليمن. ويبدو أن ذلك المرسوم جاء لتحسين العلاقات بين الدولتين العثمانية والهولندية، خاصة وأن هولندا كانت قد هددت بضرب التجارة المارة في البحرين العربي والأحمر، إذا لم يتم السماح لها بمزاولة التجارة عبر موانئ هذين البحرين، وفي حقيقة الأمر فقد تضررت تجارة العثمانيين البحرية جراء فرض الهيمنة التجارية تلك من قبل الدولتين -خاصة وأنه لم يعد هناك وجود فعال للبحرية العثمانية عند السواحل اليمنين.
صلح (1028ه/1619م) بين الإمام القاسم والوالي العثماني محمد باشا ونتائجه
هكذا فرضت الأوضاع الاقتصادية -كما أشرنا آنفاً- آثارها على الجانب البشري والسياسي، بل وامتدت نتائجها سلباً على الحرب القائمة -وقتئذ- بين الجانبين -الزيدي والعثماني- وأخذت الولاية تشهد ارتفاعاً كبيراً في الأسعار وقلة في المتوفر من حاجاتها المعيشية، وبدأ الوضع لا يحتمل مزيداً من الحروب بين الطرفين، وهو الأمر الذي أملى آخر المطاف، حسب مؤرخ محدث إلى: "نشدان تسوية سياسية طويلة الأمد". أفضى إليها صلح (1028ه/1619م) بين الإمام القاسم، ومحمد باشا -كما سنتبين-.
أدرك محمد باشا خطورة الوضع القائم -وقتئذ- لذلك فقد دعا إلى اجتماع ضم كبار مستشاريه من الأمراء وقادة الجند، وعرض عليهم ما أملته الضرورة بشأن عقد صلح مع الجانب الإمامي، مؤكداً لهم أن استمرار الحروب ضد القوات الإمامية، لم يسفر عنها تحقيق أي انتصارات تذكر رغم تشديد الإجراءات العسكرية ومضاعفة أعداد الجنود، ويبدو أن مستشاريه كانوا كذلك قد أدركوا معاناة العثمانيين جراء تلك الحروب وتردي الأوضاع الاقتصادية التي صاحبتها والتي أدت إلى مزيد من التقهقر، وربما أدى الوضع هكذا إلى إحداث خلخلة وفوضى في صفوف العثمانيين وإلى ضعف مركز الحكم العثماني في صنعاء، وقد أكدوا صراحة للباشا محمد، أن الجانب الإمامي قد اتسعت دائرة نفوذه وكثر مؤيدوه ومناصروه، وأصبح يمثل قوة ضاربة لما تحت يده من عتاد عسكري وبشري لم يكن متوفراً له في الماضي، وأن استمرار الحروب ضده لن تؤدي إلى نتيجة يتوخاها الجانب العثماني، سوى خسائر جديدة في صفوف قواته، ونفقات مالية تزيد من أعباء الإدارة العثمانية في اليمن، ولعل ما جاء في معرض رد الهيئة الاستشارية لمحمد باشا هو ما كان يؤمله لإتمام عقد الصلح. حيث أسند إلى الأمير علي بن المطهر بن الشويع والأمير شالق مصطفى مهمة مخاطبة الإمام لعقد الصلح. وفي حقيقة الأمر لم يتردد الإمام هو الآخر في مقابلة مبعوثي الوالي -محمد باشا- حيث أحسن استقبالهما: "وبذل لمن أعان على الصلح: .
وبعد مفاوضات مع المبعوثين العثمانيين حول بنود الصلح لم يتوان الإمام -لما تقتضيه مصلحة الجانبين- من إرسال مبعوثه عبد الله بن شمس الدين بن الحسن الجحافي إلى محمد باشا في صنعاء: "وكان من أهل الكمال ومعرفة الخطاب". لإقرار بنود الصلح والتوقيع عليه.
اشتمل الصلح الذي وقعه الجانبان في شهر جمادى الأولى من سنة (1028ه/مايو1619م) على البنود التالية:
1) تكون مدة الصلح عشر سنوات ابتداء من شهر جمادى الأولى (1028ه/إبريل /مايو1619م).
2) تعترف الدولة العثمانية اعترافاً ضمنياً بشخصه السياسي، وباعتباره إماماً للزيدية.
3) اعتراف ضمني بمراكز نفوذ وسيطرة الإمام القاسم، كحاكم فعلي لما تحت يده من مناطق النفوذ التي اشتمل عليها صلح (1025ه/1616م) الذي عقد مع جعفر باشا، إضافة إلى المناطق التي امتدت يده إليها خلال حروبه مع محمد باشا، وقد حددت: "إجمالاً نقاط الحد أو الخط الذي يفصل بين أراضي الإمامة وأراضي العثمانيين، ويبدأ الخط من جنوب هضبة الشرف، فيمر أسفل الأجزاء الشمالية الشرقية من إقليم حجة الكبير، ويمر بالأطراف الغربية لإقليم شظب، ثم يمتد إلى الشمال من بلدة السودة، فجنوب جبل غربان، ثم يخترق ظاهر خمر ليمر جنوب ذي بين، فينحدر إلى الشمال قريباً من مدينة عمران، ثم يذهب شرقاً ماراً بالأطراف الجنوبية لقبيلة أرحب، حتى يحاذي أراضي قبيلة نهم شمال شرق مدينة صنعاء.
أما بالنسبة للأراضي الإمامية الواقعة إلى الغرب من صنعاء فتشمل الأجزاء الجنوبة للحيمة وإقليم حضور وتشمل كذلك مناطق بني مطر وبلاد الثلث والحدب وبني سوار وبني سياغ العارضة والأجبوب وبني النمري وعانز وحراز وحصبان وجبل بني إسماعيل وبني حسن وبني سعد".
4) اعتراف ضمني من قبل الإمام بالسيادة العثمانية وسلطتها الكاملة في بقية أقاليم البلاد (الشافعية).
5) إطلاق سراح جميع الأسرى من كلا الجانبين.
6) يبقى الحسن بن الإمام القاسم أسيراً في سجنه بالدار الحمراء، كما حدده بنود صلح (1025ه/1616م)، كون أمره قد رفع إلى السلطنة، ولا بد من مرسوم سلطاني لإطلاق سراحه.
7) يسحب الجانبان الفرق أو الحشود العسكرية التابعة لكل منهما في آن واحد، بحيث تنسحب قوات الإمام إلى شهارة، فيما تنسحب القوات العثمانية إلى مركز الحكم العثماني في صنعاء.
8) إرساء علاقة بين الطرفين أساسها عدم السماح لكل مامن شأنه تعكير الأجواء مجدداً بينهما.
9) في حال حدوث أية إشكالات أو تعد على جانب من الطرف الآخر، يتم إحالتها للنظر إلى صاحب الحل والعقد الوالي محمد باشا.
وفي واقع الأمر فقد كان الصلح مطلباً ملحاً أملته الظروف القائمة -وقتئذ- وأكدته كذلك مصلحة الجانبين اللذين كانا في حاجة ماسة إليه، ليتمكن كل منهما من إعادة ترتيب أوضاعه وتنظيم شؤونه في مناطق نفوذه بموجب بنود الصلح.
ولقد مثل الصلح بالنسبة للإمام القاسم ضرورة ملحة وحتمية فرضتها الأوضاع المحيطة به، يأتي في مقدمتها الحالة الاقتصادية، حيث شهدت مناطق الشمال الجبلي خلال حروب المرحلة الرابعة من ثورة القاسم، ظروفاً اقتصادية صعبة، حين ضرب القحط والجدب غالب تلك المناطق جراء شحة سقوط الأمطار -كما أشرنا آنفاً- وهو الأمر الذي أدى إلى تذمر الأهالي واضطراب أحوالهم، وقد خشى الإمام مع قلة سقوط الأمطار: "قنوط الناس" -كما ذكر ذلك المؤرخ الجرموزي ما قد يشكل إخلال في تماسك مجتمع الشمال الجبلي، ولعل صورة حية شخصها لنا المؤرخ الشرفي، توضح الوضع الاقتصادي القائم -وقتئذ- حيث يقول: "واشتد القحط ودارت رحى الموت في شهر شعبان ورمضان وشوال وذي القعدة من سنة 1028ه/يوليو/أغسطس/سبتمبر/أكتوبر 1619م في صنعاء وكوكبان ونواحيها وهرب أهل خولان ونهم وكثير من جهات الظواهر إلى جهات المغارب وبلادها وجبل تيس ولاعة وقراضة وحجة وما يولي هذه الجهات".
وقد ادت تلك الحالة الاقتصادية المتردية إلى ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية وبالذات مادة الحبوب، الأمر الذي اضطر الأهالي إلى بيع: "النفيس من السلاح بالثمن اليسير، كالدروع والرماح والسيوف والبنادق، وغيرها من الحلي والفضة"، بل وأدت الحالة إلى اضطراب في صفوف الأهالي حيث: "نهب القوي والضعيف في جهات المشارق وبرط وبلاد سفيان وعيان ومشارف صعدة". وقد اضطر عدد غير قليل من أهال المناطق الشمالية حسب مؤرخ معاصر إلى الهجرة إلى: "جهات حضرموت وما يصاليها" سعياً وراء الغذاء.
ولقد ادى النقص الشديد في المواد الغذائية -كما يذكر نفس المؤرخ- إلى موت عدد غير قليل من الأهالي جوعاً و:"كان يحمل من صنعاء على النعش الواحد جماعة من الموتى، وكان يموت في اليوم الواحد خلق كثير، وأكثر الموت وقع في الخارجين من بيوتهم الطالبين للمعاش، ووقع في غيرهم من أهل السكون في صنعاء وكوكبان وشهارة، أقل من ذلك بسبب أكثر الموت من الجوع" ولقد اتخذ الإمام القاسم إزاء تلك التطورات عدداً من الإجراءات -خاصة مع استقرار الأوضاع عقيب الصلح- لتأمين وصول الغذاء للمناطق التي ضربها الجفاف وأضير فيها الأهالي، أدت بالتالي إلى التخفيف إلى حد ما من معاناتهم، حيث طلب من المناطق التي لم يصبها القحط والجدب سرعة المبادرة في إرسال الإمدادات الغذائية إلى شهارة ليتم توزيعها على المحتاجين في غالب المناطق التي تضررت جراء شحة الأمطار وندرتها.
كما أنه قام من جانب آخر بفتح المخازن التي كانت ممتلئة بالطعام في شهارة -وهي المخازن التي كانت تمثل احتياطاً للمواد الغذائية خلال حروبه مع العثمانيين- وأمر بتوزيعها على المحتاجين، خاصة وقد لاذا بشهارة عدد غير قليل من الأهالي من المناطق المجاورة طلباً للغذاء لتأمين معيشتهم.
ولقد عمد الإمام كذلك -مع اشتداد الأزمة الغذائية- إلى سياسة الاقتراض الغذائي من مناطق لم يضر بها الجفاف، ففي رسالة بعثها إلى أحد وجهاء منطقة المداير قال فيها: "حصل الخلل العام فأقرضنا ما تجد من الطعام أو أقترض لنا".
ويبدو أن الصلح قد أزاح عن الجانب الإمامي تلك المعاناة، التي لقيها جراء السياسة القبلية التي لجأ إليها محمد باشا حين استمال عدداً غير قليل من القبائل المجاورة لصنعاء، مثل قبائل خولان العالية، وبني سحام وبني شداد وبني جبر، بالإضافة إلى بعض القبائل الواقعة في إطار الأقسام الحادشية والبكيلية، الأقرب إلى خط خمر -ريدة، لموالاة الجانب العثماني، وطلب من تلك القبائل عدم تأييد الإمام بأي شكل من الأشكال، مقابل ما كان يصرف لهم من الأموال والرواتب الشهرية المجزية، إلا أن الجانب العثماني بعد توقيعه الصلح استغنى عن خدمة تلك القبائل، بل حسب الجرموزي فقد: "انقطعت عنهم مواد العجم واستخفوا بهم وأهملوهم".
ولقد جسد الصلح كذلك منعطفاً حاسماً في تطور إمامة القاسم بن محمد، كونه قد أفضى إلى اعتراف ضمني به كسلطة سياسية حاكمة، واضحة المعالم نسبياً، وهو تطور في حقيقة الأمر يظهر بصورة جلية ضعف مركز الحكم العثماني في اليمن. فيما بيّن -الصلح- تمسك الإمام بما تحت يده من مناطق النفوذ وعدم التفريط في أي منها لصالح الجانب العثماني، ولعل ذلك يتضح في رفضه تلك المساومات التي أبداها محمد باشا، والتي أراد من خلالها ضم منطقة حضور -أحد مراكز نفوذ الإمام بموجب بنود الصلح- الواقعة إلى الغرب من صنعاء، والتي تشكل أهمية استراتيجية للعثمانيين -كما أشرنا آنفاً- مقابل الإفراج عن ولده الحسن المسجون في صنعاء.
ولقد مكن الصلح -أيضاً- الإمام القاسم الوقوف بوجه معارضيه وإحباط محاولات الإطاحة به، فقبيل وفاته بقليل خرج عن طاعته أحد السادة الزيديين وهو ناصر صبح الغرباني، والذي أعلن في شهر محرم من سنة 1029ه/يناير1620م في الحيمة الإمامة لنفسه: "وأظهر للناس أنه لا ولاية للإمام القاسم". وزعم أنه المهدي المنتظر. وعمد إلى مراسلة زعماء قبائل إقليم الحيمة، لمؤازرته وتأييده. وفي حقيقة الأمر فقد خشي الإمام، مع ما دعا إليه الغرباني اضطراب الأمور بين مؤيديه وأنصاره، وأن يؤدي ذلك أيضاً إلى نقض الصلح مع الجانب العثماني. لذلك فقد سارع إلى: "تأثيم الداعي الغرباني" في رسالة بعثها إلى قبائل الحيمة حذر من خلالها الأهالي من اتباعه والانجرار إلى ما ذهب إليه قائلاً حسب الجرموزي: "وأصاب الله من كان صبح إمامه، وأصاب من اتبع هذا الضال".
ولم يكتف الإمام بتحذيراته -الآنفة الذكر- بل أرسل قوة عسكرية إلى إقليم الحيمة لإعادة الاستقرار والهدوء فيه والقبض على الداعي الغرباني.
وفي حقيقة الأمر فقد أقلق أمر هذا الداعي مركز الحكم العثماني في صنعاء وحسب المؤرخ الجرموزي فقد"توهموا أن الإمام قد فعل ذلك حيلة في إنقاض الصلح الذي بينهم وبينه". إلا أنهم تأكدوا بعد إرسال أحد مبعوثهم إلى الحيمة للتحقق من مجريات الأمور، أن الغرباني مخالف للإمام، لذلك فقد تظافرت جهود الجانبين الإمام القاسم ومحمد باشا، والتي أدت في نهاية المطاف إلى محاصرة الداعي صبح الغرباني والقبض عليه لينهي الطرفان بذلك أزمة سياسية ربما كانت ستؤدي إلى نقض أحد الطرفين الصلح والعودة من جديد إلى ميدان القتال.
ولقد مكن الصلح الإمام القاسم من إقامة إدارة مركزية إمامية، استطاع من خلالها تنظيم الأمور المالية والإدارية في مراكز نفوذه. فبالنسبة للجانب المالي، بدأ الإمام بضبط أوجه الإنفاق المالي على الأقاليم التابعة لنفوذه، والتي كانت في الأساس مجموع الضرائب المفروضة على تلك الأقاليم إضافة إلى النذور والهبات التي كانت تعطى للإمام. ويبدو أنه لأول مرة حسب مؤرخ محدث يصبح: "التصرف في عائدات الضرائب في قبضة الإمام عقب الصلح الأخير". وفي حقيقة الأمر فقد حدد الإمام أوجه الإنفاق المالي لإدارته، حيث خصص عشر الضرائب لمشائخ القبائل. نظير ما يقومون به من الأعمال الموكلة إليهم من قبل أمراء الأقاليم لتسيير شئون قبائلهم، فيما أولى اهتماماته في الجانب المالي للإنفاق على الفرق القبلية العسكرية حيث أكد على ضرورة: "توفير المطالب لأهل المراتب، وأهل الجهاد المحتكمين". فيما أسند إلى أمراء الأقاليم صرف مقررات مالية: "للفقراء الذين لا حيلة لهم".