بدأ الإمام بتحريك قواته إلى مناطق الظهراوين، وظلامة والسودة وشظب القريبة من معقله بشهارة لتأمين خطوط المواجهة الأمامية خلال معاركه مع الجانب العثماني، والتي استمرت قرابة تسعة أشهر. وكان عليه أيضاً أن يؤمن خطوط جبهات القتال حول المعاقل الإماميةفي الركن الشمالي الشرقي من إقليم حجة الهام. حيث أوكل مهمة الدفاع عن الإقليم إلى ابنه الحسين في أواخر شهر رمضان 1026ه/ سبتمبر1617م فيما توجه عدد غير قليل من كبار قادته لتأمين خطوط الإمدادات إلى حجة عبر مناطق خولان الشام، بني جيش، وسحار، وقد استطاع الحسين بن الإمام القاسم تحقيق انتصارات تذكر على الجانب العثماني -خلال تقدمه إلى إقليم حجة- تمكن خلالها من مد النفوذ الإمامي في بلاد قراضة ولاعة ومسور وذلك في أواخر ذي القعدة 1026ه/اكتوبر1617م، فيما أبدت القوات العثمانية مواجهات أشد لإحباط تقدم قوات الجانب الإمامي إلى إقليم حجة، تساندها قبائل المناطق -الآنفة الذكر- استطاعت خلالها وقف زحف قوات الإمام للسيطرة على الإقليم. وبذلك خابت آمال الإمام في تحقيق نصر يذكر لمد نفوذه على إقليم حجة، ويبدو ان النفوذ المذهبي للإمام القاسم حسب مؤرخ محدث: "كانت له نطاقات لم يستطع أن يتجاوزها إلا على نحو محدود، ولعل محمد باشا كان مدركاً لأمر كهذا".
وفي هذه الأثناء أخفقت محاولات القائد الإمامي أحمد بن عوَّاض في مد أي نفوذ للإمامة في مناطق بلاد الظواهر وبلاد حاشد وبكيل، وخولان وسفيان، ويبدو أن السياسة القبلية التي عمد إليها محمد باشا، قد لعبت دوراً ملحوظاً في الحيلولة دون مشاركة تلك القوى القبلية في الحرب أو الثورة إلى جانب الإمام. كون مناطقها باتت تشكل مواقع استراتيجية لحماية مركز الحكم العثماني في صنعاء. حيث ارتكزت سياسة -محمد باشا- تلك على الإغراءات المادية التي أدت بالتالي إلى: "إفساد كثير من القبائل" ولم يكتف بذلك بل ضم تلك القوى القبلية إلى سجلات القوات العثمانية ليصرف لهم من خلالها مرتبات شهرية مجزية.
المؤرخ الجرموزي وصف تهافت تلك القبائل إلى موالاة العثمانيين نظير ما يدفع لهم من الأمول .. بقوله: "لقد كانوا .. يصلون من بيوتهم .. ويقبضون جامكية كثيرة .. وإن الرجل صار يكتب ابنته جامكية ويسميها ولداً في الدفتر بأن يحذف هاء التأنيث على نحو سعيدة". وبتلك السياسة استطاع محمد باشا إقامة عازل قبلي بين مناطق الإمامة ومراكز النفوذ العثماني في الأقاليم الممتدة حوالي صنعاء، ليضمن بذلك ولاء تلك القبائل لمركز الحكم العثماني.
ورغم الإجراءات العسكرية المشددة والإغراءات المادية، التي عمد إليها الوالي محمد باشا لإقامة ذلك الحزام الأمني لحماية مدينة صنعاء إلا أن الإمام استطاع أن يخترق ذلك النطاق عن طريق بعض القبائل التي أعلنت موالاتها له مثل قبائل ذيفان والصيد وبني زهير حيث شهدت مناطقها مواجهات أشد مع القوات العثمانية، بل إنها استطاعت قطع الإمدادات -الغذائية والعسكرية- العثمانية التي كانت تمر عبر أراضيها إلى الحاميات العثمانية في إقليم الشمال الجبلي. ولقد حرص الإمام على مساندة تلك القبائل من خلال مواصلتها بالإمداد العسكري والغذائي لاستمرار مقاومتها للجانب العثماني.
فيما مثل إقليم الحيمة بمناطقه حضور وحراز وآنس مركزاً هاماً للمقاومة خلال المرحلة الرابعة -والأخيرة- لثورة الإمام القاسم، وقد أبدى الإمام اهتماماً ملحوظاً بالإقليم، حيث حرص على مؤازرة القوى القبلية وعلى تعزيز جبهات القتال فيه، والتي باتت تشكل خطراً على العثمانيين خاصة منطقة حضور ذات الاستراتيجية العسكرية بالنسبة لمدينة صنعاء، ولقد خاضت قبائله مواجهات عنيفة خلال محاولات القائد العثماني الأمير محمد بن سنان لبسط السيطرة عليها دون طائل، نتيجة المقاومة والصمود التي أبدتها قبائل حضور أمام القوات العثمانية.
دفع الإمام بمزيد من قواته إلى الإقليم في 12 شوال من سنة 1026ه/سبتمبر 1617م لتعزيز قائده العسكري عبد الله الطير، فيما عزز محمد باشا جانبه في الإقليم بقوات وصل قوامها إلى قرابة ستة آلاف جندي، وقد خاض الجانبان معارك اتسمت بالضراوة دامت حوالي تسعة أشهر تمكن في نهاية الأمر الجانب الإمامي من إحكام قبضته على الحيمة في جمادى الآخرة من سنة 1027ه/مايو1618م. وقد باءت كل محاولات محمد باشا لمد النفوذ العثماني على الإقليم بالفشل، رغم محاولاته استمالة بعض زعماء قبائل الحيمة من خلال مدهم بالأموال وتقرير رواتب شهرية لهم ومنحهم ألقاب عثمانية ولم تستطع القوات العثمانية كذلك من تحقيق نصر يذكر في جبهات القتال في إقليمي حراز وآنس بالرغم من تحالفها مع قبائل الحدا وذمار، ولقد استمرت المواجهات بين الجانبين -في الإقليمين- بشكل متقطع دامت قرابة العامين إلى أن عقد الصلح بين الطرفين -كما سنتبين-.
بينما شهد إقليم صعدة -هو الآخر- خلال المرحلة الرابعة للثورة تحركات من قبل الإمام لإعادة بسط السيطرة عليه، ويبدو أنه كان مع بدايتها -المرحلة الرابعة- مهملاً من قبل الطرفين، ولم يبادر أي منهما إلى أجراءات عسكرية لإحكام قبضته على الإقليم. وكانت قبائل صعدة قد وضعت يدها على الإقليم بعد مواجهات مع قوات صلاح بن أحمد المؤيدي، الذي عينه جعفر باشا حاكماً على الإقليم بموجب صلح 1025ه/1616م -كما أشرنا آنفاً- إلا أن الإمام وبعد انقضاء مدة الصلح، ومع تزامن حدة المعارك مع الجانب العثماني رأى أنه من الضرورة بمكان تأمين جانبه في إقليم صعدة، قبل أن يشرع العثمانيون إلى ذلك، خاصة وقد أعلنت قبائل الإقليم موالاتها له، و:"الجهاد بالأموال والأنفس" ضد العثمانيين.
وإزاء تلك التطورات أصدر الإمام أمراً في رجب من سنة 1027ه/يوليو1618م بجعل ولاية: "جهات صعدة وخولان وبني جماعة" لابنه أحمد، والذي سارع إلى تنظيم أمور الإقليم: "وضبط القبائل فانقادوا له رغبة وهيبة لجانبه". وقد مثل ذلك حسب مؤرخ محدث: "نصراً سياسياً هاماً للإمام طالما تمناه من قبل إذ به تكتمل سيطرة إمامته في الشمال الأعلى".
وفي حقيقة الأمر فإن الجانب العثماني تردد في مد أي نفوذ له على إقليم صعدة، ويبدو أن الوالي محمد باشا قد أدرك أن فتح جبهة صعدة سيؤدي إلى تشتيت مجهوده الحربي، خاصة مع احتدام الصراع في جبهات القتال في إقليم الحيمة ومناطق الشمال الجبلي الأخرى.
استمرت المواجهات بين الجانبين -الإمامي والعثماني- في أكثر من منطقة في الشمال الجبلي -كما ذكرناها آنفاً- لم يستطع خلالها الجانب العثماني إحراز أي انتصارات تذكر، وفي محاولة ربما كانت خاتمة المعارك التي جرت بين الطرفين، حاول العثمانيون في جمادى الآخرة من سنة 1027ه/مايو1618م السيطرة على جبل بني علي ذي الاستراتيجية، كون حصنه يشرف على العديد من المناطق الشمالية، مثل جنب وقدم وجهاتها، وعلى الطرق الرئيسية المؤدية إلى إقليم حجة، وهي غالباً مراكز للنفوذ الإمامي، حيث تمكن القائد العثماني الأمير محمد خمخم من إحكام الحصار على الطرق الرئيسة المؤدية إلى أعلى الجبل بعد أن تم تعزيزه بقوات من الحاميات العثمانية المرابطة في منطقة السودة، وبعض القبائل الموالية للعثمانيين.
أدرك الإمام القاسم -حينئذ- خطورة الموقف في حال سيطرة العثمانيين على حصن جبل بني علي، فأمر بإمدادات عسكرية تحت قيادة ولده أحمد لمؤازرة القوات الإمامية المرابطة في الجبل لمنع أي تقدم من قبل الجانب العثماني للسيطرة على الحصن.
وفي حقيقة الأمر فقد كان لسرعة الإجراءات العسكرية من قبل الجانب العثماني، الذي دفع بقوات يزيد قوامها على خمسة آلاف جندي لإحكام السيطرة على جبل بني علي، وقعها الفاعل في السيطرة السريعة على الحصن.
ويبدو أن العثمانيين قد أنساهم انتصارهم في إحكام قبضتهم على جبل بني علي على تأمين مؤخرة قواتهم، وكذلك منافذ الطرق المؤدية إلى الحصن. وهو الأمر الذي استغله الإمام حين دفع بمزيد من قواته من مراكز نفوذه القريبة والتي تمكنت من إحكام الحصار على القوات العثمانية من خلال سيطرتها على منافذ الطرق المؤدية إلى أعلى الجبل، وبعد حصار لأمد غير قليل ونقص في المواد التموينية -ماء غذاء- في الحصن، لم يكن أمام القائد العثماني الأمير محمد خمخم، من سبيل لإنقاذ قواته من الهلاك، سوى طلب الأمان من قادة القوات الإمامية، مقابل تسليمهم الحصن وخروجاً آمناً لقواته إلى مركز الحكم العثماني في صنعاء. ويبدو أن معركة جبل بني علي كانت خاتمة المعارك التي جرت وقائعها بين الجانبين.
ولقد كان لهذه المعركة أثرها الكبير على الجانب العثماني، كما كان الأمر في معركة غارب آثلة -التي أشرنا إليها في الفصل الثالث- ويبدو أن محاولة العثمانيين -الآنفة الذكر- قد أظهرت عدم قدرتهم على اقتحام مركز النفوذ الإمامي المركزي في شهارة، ووصف المؤرخ الجرموزي ذلك بقوله: "ولقد أيس الترك من الطمع في بلاد الإمام". أما المؤرخ الشرفي فقد أكد بأن معركة جبل بني علي كانت:"خاتمة الوقعات الكبار". ولم تحدث بعدها معارك تذكر بين الطرفين، إلى أن تم التوصل إلى صلح بين الجانبين كما سنتبين فيما بعد.
أدت المعارك التي استمرت بين القوات الإمامية والعثمانية قرابة ثلاث سنوات، والتي شهدتها المرحلة الرابعة لثورة الإمام القاسم، إلى تشتيت المجهود الحربي لكلا الطرفين، وإلى إنهاك في صفوف قواتهما خاصة في الجانب العثماني، الذي كان يجهل التضاريس الجبلية لليمن، والتي مثلت على الدوام عاملاً في الهزائم التي مني بها مدة بقائه في البلاد خلال الحقبة الأولى من السيطرة العثمانية (1538-1635م).
ولقد أدرك محمد باشا عند مباشرة مهامه في الولاية، أن معرفته وإلمامه بشئون اليمن أثناء عمله كوالي لمصر -من خلال التقارير التي كانت تصله عن مجريات الأحداث في الولاية- قد خيّبت آماله على أرض الواقع. ولعل ذلك الأمر هو ما جعله يعدل عن رفضه للصلح -كما اعتمله في بداية قدومه إلى البلاد- ويعود إلى الموافقة عليه مع الإمام -كما سنتبين فيما بعد- بعد حروبه -الآنفة الذكر- والتي لم يحقق خلالها أي نصر يذكر بينما تمكن الجانب الإمامي من توسيع نفوذه خلال هذه المدة في مناطق الشمال الجبلي على حساب العثمانيين.
وكان للظروف الاقتصادية التي تزامنت مع المواجهات بين الجانبين، أثرها البالغ على جبهات القتال، حيث أدت الأمطار وشحتها في غالب اليمن، خاصة في مناطق وسط البلاد -ذمار وإب- والتي كانت تمثل على الدوام المخزون الرئيسي للمواد الغذائية في الولاية. إلى حدوث جدب في المناطق الزراعية وقلة في المحصول الغذائي، خاصة مادة الحبوب المادة الرئيسية للغذاء، وهو الأمر الذي أدى إلى شحة في الإمدادات لهذه المادة إلى قوات الجانبين -الزيدي والعثماني- خلال معارك المرحلة الرابعة لثورة الإمام، كما أنه أدى أيضاً إلى ارتفاع أسعار الحبوب، وحسب الجرموزي فقد: "كاد الطعام يُعدم".
وفي حقيقة الأمر فإن شدة الجدب في بعض المناطق الشمالية كان قد أدى إلى ضعف المقاومة في صفوف جبهات القتال بالنسبة للقوات الإمامية نتيجة الحاجة الماسة للغذاء لمواصلة معاركها أمام الجانب العثماني، ولقد وصف المؤرخ الشرفي الظروف المعيشية للأهالي في تلك المناطق جراء النقص الشديد لمادة الحبوب -الغذاء- بقوله: "لاذ بالإمام إلى شهارة الضعفاء والمساكين والنساء والأرامل والأيتام وغيرهم من أهل الفاقة خلق كثير، وكان الوقت غلاء وشدة في جهات المشارق". في ما أفضت الحالة الاقتصادية المتردية -وقتئذ- إلى مطالبة بعض مستشاري الوالي محمد باشا إلى ترك حروبه مع الجانب الإمامي في مناطق الشمال الجبلي، كونها فقيرة اقتصادياً: "وهي تكلف العثمانيين للاحتفاظ بها أكثر مما كانوا يحصلون عليه منها". ودعوه إلى تكثيف إجراءاته العسكرية للسيطرة وإحكام النفوذ العثماني على الأقاليم الواقعة في وسط البلاد -ذمار- خاصة أقليمي ريمة ووصاب الغنيين زراعياً.
ولقد صاحب تردي الأوضاع الاقتصادية، إنحسار شديد في تحصيل الضرائب من أقاليم النفوذ العثماني، والتي كانت مردوداتها تصرف في تغطية نفقات جبهات القتال -رواتب الجنود ومعيشتهم- وهو الأمر الذي يفسر لنا مطالبة الجنود العثمانيين للوالي محمد باشا بمخصصاتهم المالية، بل وأدى ذلك إلى اضطراب وفوضى في صفوفهم.