وجه جعفر باشا قوات عسكرية تحت إمرة قائده العسكري الأمير حيدر يصل قوامها إلى: "سبعة عشر ألف خيلا ورجلا". لتخوض معارك ضارية مع الجانب الإمامي في مناطق عمران ونواحي كوكبان وثلا، استطاع خلالها من تحقيق نصر يذكر على القوات الإمامية، بل وأسر الحسن بن الإمام وإرساله إلى صنعاء حيث تم التحفض عليه في سجن الدار الحمراء، وقد تمكنت القوات العثمانية كذلك من استعادة سيطرتها على بلاد الشرف وجهاتها وعفار وجنب والمحابشة، ولقد ساعدت الإغراءات المادية التي عمد إليها الأمير حيدر على كسب قبائل تلك الجهات، التي أعلنت ولائها للعثمانيين، وأجبرت القوات الإمامية على التقهقر إلى مراكز النفوذ الإمامي.
وفي هذه الأثناء استطاعت القوات العثمانية من إحكام سيطرتها على إقليم الحيمة، دون مقاومة تذكر، حيث والت غالبية قبائل الإقليم العثمانيين، ويبدو أن حروب المرحلتين الأولى والثانية من ثورة الإمام القاسم، وعمليات البطش والتنكيل التي اعتملها العثمانيون هناك قد تركت أثرها على تلك القبائل التي سارعت إلى إعلان ذلك الولاء لحماية أهاليها وممتلكاتها.
وفي شهر ذي الحجة من سنة 1022ه/يناير 1614م تمكنت القوات العثمانية من السيطرة على مدينة وادعة، والتي حسب المؤرخ الشرفي قد: "انتهبوها وأخربوها". ولم يكن أمام قبائل وادعة حيال أعمال السلب والنهب التي تعرضت لها مدينتهم سوى إعلان الولاء والطاعة للعثمانيين، تفادياً للمزيد من التخريب والبطش للأهالي والمدينة.
وفي إجراءات عسكرية مشددة فقد دفع الأمير حيدر كذلك بقواته لتأمين جبهات القتال في إقليم صعدة، ولم يكتف بذلك بل عمد إلى بذل الأموال للقبائل -الساعية وراء الغنائم- ولقد أثمرت تلك الإغراءات أكلها حيث تخلت غالب قبائل صعدة عن الوقوف إلى جانب القوات الإمامية، وكان لذلك أثره البالغ في اختلال جبهات القتال لقوات الحسين بن الإمام القاسم، الذي لم يستطع الصمود طويلاً، أمام الضربات العسكرية لقوات العثمانيين. وفي واقع الأمر فقد كان على القوات الإمامية في جبهة صعدة أن تخوض غمار المواجهات العسكرية في أكثر من منطقة في الإقليم، خاصة وقد انظم غالب قبائل تلك الجهات إلى الجانب العثماني، وهو الأمر الذي أدى إلى تشتيت المجهود الحربي في صفوف قوات الإمام وأنهك قواها.
وكان الأمير حيدر قبل ذلك قد استولى على منطقة الهجر من وادعة، وأبقى الأمير عبد الله بن المعافا على رأس قوات عسكرية عثمانية هناك لحماية مؤخرته خلال تقدمه إلى صعدة يسانده في ذلك مشائخ قبائل عذر والأهنوم التي أعلنت طاعتها للعثمانيين.
ومن الأهمية بمكان أن نذكر، أنه رغم الصعوبات التي واجهتها القوات الإمامية خلال معاركها في إقليم صعدة مع القوات العثمانية، إلا أنها استطاعت أن تكبد الجانب العثماني خسائر غير قليلة في صفوف قواته في معركة العرو التي وقعت في ربيع الأول سنة 1023ه/يونيو1614م بين الجانبين.
كما أحكمت القوات الإمامية كذلك، حصارها على قوات العثمانيين في منطقة الحضائر، ولم يستطع الأمير حيدر -قائد الجند العثماني- إزاء ذلك من فك الحصار، خاصة ولم تصله أي إمدادات عسكرية من منطقة الهجر من بلاد وادعة، والتي كانت تشكل -كما ذكرنا آنفاً- مؤخرة لإمداد الأمير حيدر بما يحتاجه من قوات في جبهات صعدة، ولقد فقد الجانب العثماني خلال معركتي العرو والحضائر قرابة (1500جندي) وأحد كبار قادته العسكريين، وهو الأمير أحمد الأخرم.
أدرك الإمام أن الوضع القائم إزاء تدهور الجانب العسكري في صفوف قواته، وتقهقرها في أكثر من منطقة في الشمال الجبلي، قد يؤدي إلى نتائج غير متوخاة في مسار المرحلة الثالثة من ثورته ضد الوجود العثماني، كما كان الأمر خلال المرحلة الأولى للثورة، لهذا فقد قام في أواخر شهر ربيع الأول من سنة 1023ه/يونيو1614م بتفقد جبهات القتال في مناطق عذر والعصيمات وقطبين وبير أثلة، وجبل سيران، وجهات حجور والشرف، إلى أن استقر به الأمر إلى منطقة الأهنوم. وعمد خلال زياراته تلك على تحفيز قواته ومؤيديه وأنصاره بمواصلة المقاومة ضد القوات العثمانية.
ويبدو أن تحركاته -الآنفة الذكر- كان لها مردودها الإيجابي، فهي قد أعادت الثقة للمقاتلين في استمرارية الصمود والمقاومة، لتخليص البلاد من السيطرة والنفوذ العثماني -الهدف الرئيس لثورة القاسم- وهي -الزيارات- إلى ذلك قد قوت جانبهم المعنوي.
ولعل ذلك يتضح بجلاء عندما استعادت تلك القوات نشاطاتها العسكرية من جديد حيث أحكمت حصارها على الأمير عبد الله بن المعافا ومن معه من القوات العثمانية في منطقة الهجر من بلاد وادعة، لقطع الإمداد العسكري العثماني إلى إقليم صعدة خلال معاركه مع الجانب الزيدي -كما ذكرنا آنفاً- ولم تجد محاولات العثمانيين في فك الحصار على قواتهم في الهجر، بل أدت إلى نتائج وخيمة حيث خاض الجانبان معارك ضارية في الهجر قتل خلالها قائدا الحملة العثمانية الأمير عبد الله درويش والأمير عبد الله بن المعافا، وعدد غير قليل من الأمراء وقادة الجيش العثماني والجنود، وتم أسر أعداد كبيرة من تلك القوات خلال معركة غارب أثلة التي وقعت أحداثها في يوم الأحد 13 شهر جمادى الآخرة 1023ه/23 إبريل1614م.
وفي واقع الأمر فقد كان لهذه المعركة نتائج إيجابية، كونها أعادت الثقة إلى القوات الإمامية لاستمرار المقاومة ضد الوجود العثماني بعد أن كان اليأس قد أصابهم خلال الانتصارات التي حققها الجانب العثماني -عليهم- في غير منطقة من مناطق الشمال الجبلي -كما أشرنا آنفاً- في ما كانت نتائجها سلبية في الجانب العثماني، حيث أدت إلى تذمر الجنود العثمانيين الذين: "ضاقوا من طول الحروب".
أيقن جعفر باشا أن مواصلة الحرب ضد الجانب الزيدي، مع انهيار الجانب المعنوي في صفوف قواته، لن يؤدي إلى تحقيق أي انتصار يذكر في مواجهات جديدة مع القوات الإمامية، ولعله أدرك بأنه قد ارتكب خطأً فادحاً نتيجة نقضه صلح 1016ه/1607م. كونه قد تورط في أتون حرب مع القوى القبلية أثارت بالتالي شهية هذه القوى للغنائم التي قد تؤول إليها من الفرق العثمانية الجيدة التجهيز، لهذا فقد بادر إلى الإمام لطلب العودة إلى الصلح (الآنف الذكر).
لم يجد طلب جعفر باشا آذاناً صاغية لدى الإمام الذي رأى في واقع الأمر أن العودة إلى الصلح، يعني تنازله عن المناطق التي كان قد استولى عليها عقب نقض الصلح، وذلك استناداً إلى بنوده التي حددت مناطق نفوذ كلا الجانبين.
لقد أدت الإجراءات العسكرية التي عمد إليها الإمام القاسم، في بداية المرحلة الثالثة من ثورته لأحكام سيطرته على مناطق الشمال الجبلي إلى إكسابه التأييد السياسي والمذهبي في أوساط العديد من قبائل تلك المناطق، وقد تزامن ذلك مع تحقيق قواته لعدد من الانتصارات العسكرية في المناطق المحيطة بالأهنوم، كان أهمها حسب مؤرخ محدث: "ما حدث في غارب أثلة شمال جبال الأهنوم -الآنفة الذكر- والتي أدت إلى زعزعة الحكم العثماني في البلاد وأوجدت تذمراً واسع النطاق في صفوف القوات العثمانية.
إزاء ذلك بدأ الإمام القاسم يرنو إلى توسيع نفوذه إلى مناطق لم تصلها يده خلال المرحلتين الأولى والثانية من ثورته، ولهذه الغاية فقد وجه قواته في ربيع أول 1023ه/يونيو1614م إلى جهات الشرف لخوض معارك أشد مع القوات العثمانية، تمكنت خلالها من الاستيلاء على مناطق خمر والسنتين وعيال يزيد وبلاد الخشب -القريبة من صنعاء- وسفيان ومرهبة.
في ما تمكن ابنه الحسين من هزيمة الحاميات العثمانية المرابطة في جهات حجة ونواحي بلاد لاعة، استطاع إثرها من الاستيلاء على حصون كوكبان ومبين من بلاد مسور ذات الأهمية الاستراتيجية العسكرية.
وفي هذه الأثناء كان قائده العسكري عبد الله الطير، قد أحكم قبضته على إقليم الحيمة -ساندته في ذلك قبائل الحيمة- واستولى كذلك حسب مؤرخ معاصر على: "البلاد الحضورية جميعها، وأمدت يده إلى سنع وحَدَّه" كما أنه استولى على منطقة عصر الواقعة أعلى صنعاء إلى الغرب: "ولم يبق بينهم وبين صنعاء سوى ثلاثة أميال أو أربعة". مما شكل تهديداً مباشراً لمركز الحكم العثماني.
وامتدت المواجهات العسكرية بين الجانبين -الإمامي والعثماني- إلى بلاد آنس حيث خاضت القوات الإمامية تحت إمرة الشيخ يوسف الحماطي في منتصف سنة 1023ه/يونيو/يوليو1614م معارك ضارية مع القوات العثمانية أدت في نهاية المطاف إلى انهزام الجانب العثماني وتقهقر قواته إلى صنعاء، وتوالت مجريات الأحداث لتؤكد تحقيق نصر آخر يذكر للقوات الإمامية في منطقة غربان ذات الأهمية الاسترتيجية، ولَّى على إثرها الأمير حيدر وجميع جنوده منهزماً إلى منطقة خمر.
وشهد إقليم صعدة هو الآخر مواجهات عسكرية بين القوات الإمامية والعثمانية، ويبدو أن معركة غارب أثلة -الآنفة الذكر- والتي أدت إلى قطع الإمداد العسكري العثماني إلى الإقليم كانت قد شجعت علي بن الإمام القاسم -الذي كان يضرب حصاره على صعدة- في مد نفوذ يذكر للإمامة إلى داخل مناطق الإقليم، خاض خلالها معارك اتسمت بالضراوة الشديدة مع قوات الجانب العثماني، أدت في نهاية الأمر إلى مقتله وقرابة ثلاثمائة جندي من قواته في معركة الشقات التي جرت وقائعها في 19جمادى الآخرة سنة1023ه/29إبريل1614م، ولعل كثرة أعداد القوات العثمانية والعتاد العسكري الكبير الذي كان في معيتها، بالإضافة إلى موالاة غالب قبائل صعدة للجانب العثماني، كانت من الأسباب الهامة في تحديد تلك النهاية القاتمة لعلي بن الإمام القاسم.
ولم يكن إقليما ريمة ووصاب -اللذان شكلا خلال المراحل الأربع لثورة الإمام مصدر إزعاجاً وقلقاً للعثمانيين- بعيدين عن مجريات الأحداث، فقد استغلت قبائلهما انشغال قوات جعفر باشا في معاركها ضد الإمام في مناطق الشمال الجبلي، وأعلنت التمرد على الحاميات العثمانية المرابطة في الإقليمين التي كانت تحت إمرة القائد العثماني الأمير محمد، وفي حقيقة الأمر لم تستطع القوات العثمانية من تحقيق نصر يذكر خلال المواجهات العسكرية التي خاضتها مع قبائل ريمة ووصاب، حيث أدت تلك المواجهات إلى وقوع خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد الحربي في صفوف قوات الجانب العثماني. وهو الأمر الذي جعل القائد العسكري الأمير محمد يفر وبعض من قواته من أرض المعركة إلى زبيد.
وباستقراء الأوضاع القائمة -وقتئذ- سنرى أنه بمصرع علي بن الإمام القاسم في معركة الشقات في إقليم صعدة -كما أشرنا آنفاً- تمكن الوالي جعفر باشا من وضع حد للتوسع الإمامي خاصة في قطاع الشام -صعدة- ولم يتداع أي من الطرفين إلى مواجهات جديدة، سوى معركة جرت وقائعها في منطقة الفايش القريبة إلى غربان -وهي من المناطق ذات العمق الاستراتيجي بالنسبة لمدينة صنعاء- ويبدو أن الإمام قد أراد من خلال تلك المعركة الاستيلاء على حصن الفايش الاستراتيجي لإحكام قبضته على المناطق المجاورة والتي كانت قد امتدت يده إليها.
وفي حقيقة الأمر فقد خاضت القوات الإمامية معركة ضارية ضد القوات العثمانية، حققت فيها نصراً يذكر، قتل خلالها قرابة مائة من القادة والجنود العثمانيين.
صلح (1025ه/1616م) بين الإمام القاسم والوالي العثماني جعفر باشا ونتائجه
أدرك الجانبان الزيدي والعثماني، أن ظروف كلا منهما باتت لا تتحمل الاستمرار في مواجهات جديدة، حيث ادت الحروب بينهما إلى تشتيت مجهودهما الحربي وإنهاك صفوف قواتهما. لذلك فقد بادر الطرفان حين دعا أحدهما -جعفر باشا- خلال سنة 1025ه/1615م إلى عقد صلح إلى الموافقة عليه. خاصة بعد أن أصبح للسيطرة الإمامية حسب مؤرخ محدث: "ممثليها في بقاع لم يتضمنها صلح 1016ه/1607م، وصار بإمكان الإمام أن يفاوض جعفر باشا باعتباره زعيماً لتكتل قبلي ومذهبي مؤثر وسط الشمال الجبلي.
ويبدو أن الصلح كان من الأهمية بمكان للجانب العثماني، خاصة مع قرار عزل الوالي جعفر باشا عن ولاية اليمن، وتعيين محمد باشا بدلاً عنه، والذي خشى كما يذكر الجرموزي: "أن يسير والفتنة في إثره". لذلك فقد طلب من الحسن بن الإمام القاسم، المأسور لدى مركز الحكم العثماني في الدار الحمراء بصنعاء، تحرير رسالة إلى والده لإطلاعه على نوايا الوالي قبل رحيله عن الولاية، ويبدو أنه -جعفر باشا- قد عمد إلى ذلك لإدراكه أن الرسالة سيكون وقعها إيجابي بالنسبة للإمام، خاصة وأنها من ابنه -الحسن- أحد أركان حكمه، وهي كذلك لن تجافي الحقيقة.
وكيفما كان الأمر، فقد كتب الحسن قصيدة حملت في مدلولها السياسي نشدان الصلح وما سينتج عنه من استقرار للأوضاع في البلاد، حيث قال:
مولاي إن الصلح أعذب مورداً .... فاسلك له سبلا سوياً أجردا
أرسل دلاء الحلم في صافيه كي .... تروي ضماة المسلمين عن الصدى
واجعل رفيق القسط فيه مانحاً .... والرفق يمنح والسماحة مرقدا
فالصلح فيه للأنام صلاحه .... والحرب أوهن ذا الأنام وأفسدا
ولقد كان للقصيدة وقعها على الإمام، رغم أنه لم يعرف كاتبها كون وابنه الحسن لم يمهرها بتوقيعه. إلا أن الضرورة كانت تقتضي الصلح، لهذا كانت الاستجابة من قبل الجانب الإمامي، لما دعت إليه رسالة الوالي جعفر باشا والمتمثلة في القصيدة -الآنفة الذكر- ويتضح ذلك عندما طلب الإمام من القاضي يحيى بن صلاح الثلائي -أحد مستشاريه- الرد على القصيدة بقصيدة مماثلة يؤكد من خلالها موافقته على طلب الصلح، إلا أن القصيدة أوضحت كذلك جانب القوة والمنعة الذي وصل إليه الجانب الزيدي، وأن قبوله الصلح لا يعني بالتالي أنه ناتج عن ضعف موقفه، وإنما مقتضيات الضرورة ونشدان أن الصلح خير، وليعم السلام بعد حروب طال أمدها حيث قال الثلائي في مطلع قصيدته:
يا مانحاً محض النصيحة مرشدا .... إن الهدى عندي لمن يبغي الهدى
والحلم نحن بحاره نروي بها .... ظامي الحشا وبنور عدل نقتدى
نحمي حما الإسلام أن يسطى به .... ونذود كل المسلمين عن الردى
والسلم إن تدعوننا نجنح لها .... والقول ما قلنا وإن رغم العدا
إلى أن قال:
إن تقبلوا صلحاً فإني قابل .... أو تحجمون فما عدا مما بدا
بدأ الجانبان مفاوضات لم يطل أمدها أدت في النهاية إلى قبول الطرفين الصلح، حيث بعث الإمام أحد مستشاريه وهو العلامة عامر بن أحمد الذماري إلى صنعاء، مقر إقامة الوالي جعفر باشا لإتمام عقد الصلح كانت أهم بنوده: