ولقد كان لموقف الأمير شلبي هذا بالغ الأثر لدى جعفر باشا، خاصة وأنه كان قد عينه خلال فترة ولايته لليمن نائباً له، وأصبح ذو مكانة رفيعة في مركز الحكم العثماني بصنعاء، وقد وصفه أحد المؤرخين المعاصرين بأنه كان: "صاحب الحل والعقد" في تسيير أمور الولاية -وقتئذ-.
سارع إبراهيم باشا بتعيين الأمير عبد الله شلبي قائداً عسكرياً، وأمره بالتقدم إلى صنعاء، لتسيير الأمور في مركز الحكم العثماني إلى حين وصوله -إبراهيم باشا- ويبدو أن الوالي الجديد قد عمد إلى إجراءاته تلك، كون شلبي خبيراً بشؤون الولاية -كما أشرنا آنفاً- بالإضافة إلى علاقاته الواسعة مع زعما القبائل في مناطق النفوذ العثماني في الشمال الجبلي.
وعقيب وصوله صنعاء حشد الأمير عبد الله شلبي القوات العثمانية المرافقة له وعززها بقوات إضافية من القبائل المجاورة -بحسب توجيهات إبراهيم باشا- وجعلها في حالة استنفار في مخيم نصبه لذلك إلى الغرب من باب شعوب. ولقد كانت تلك الإجراءات والتحركات العسكرية التي أمر بها إبراهيم باشا بمثابة رسالة موجهة إلى الإمام القاسم، تؤكد إحكام السيطرة العثمانية قبضتها على مناطق النفوذ العثماني. وليمنع كذلك أية محاولة قد يقوم بها الإمام -مع الظروف القائمة وقتئذ- للتقدم بقواته إلى صنعاء.
لم تستطع الإدارة العثمانية الجديدة مباشرة مهامها، وما كانت تؤمله من إجراءات ربما أرادت من خلالها مواصلة جهود الجانب العثماني الرامية إلى القضاء على ثورة الإمام القاسم في مناطق الشمال الجبلي، فلقد حالت الأقدار دون أن يشهد إبراهيم باشا ذلك حيث قضى مع قرب وصوله إلى صنعاء في 27جمادى الأولى 1022ه/17مايو1613م، وتم مواراة جثمانه في مدينة ذمار.
خشي كبار الأمراء الذي قدموا في معية إبراهيم باشا -كهيئة استشارية- لمساندته في إدراة شؤون البلاد، أن تحدث وفاته فراغاً سياسياً وعسكرياً يؤدي إلى اضطراب شؤون الولاية، وهو الأمر الذي قد يشجع الإمام القاسم بتوجيه قواته لاقتحام صنعاء، والسيطرة عليها. لذلك قرروا بعد عقد اجتماع لهم استدعاء جعفر باشا الذي أوشك على الرحيل من البلاد -لإدارة شؤون الولاية بالوكالة إلى حين تعيين وال جديد.
أدرك جعفر باشا خطورة الوضع القائم -وقتئذ- وأن الضرورة تقتضي تحركات عاجلة لاستقرار الأوضاع في البلاد، خاصة وأن الأمير عبد الله شلبي -الذي تنكر له عقب عزله عن الولاية- قابضاً على مجريات الأمور في مركز الحكم العثماني بصنعاء، وهو المتطلع لزعامة سياسية عثمانية في الولاية.
وفي محاولة كان الغرض منها استمالة شلبي فقد بعث جعفر باشا برسالة إليه يؤكد فيها إبقاؤه في منصبه الذي أقره إبراهيم باشا قبل وفاته.
وفي واقع الأمر لم يكن ما عمد إليه -جعفر باشا- موضع ترحيب لدى شلبي، وهو العارف بدهاء وسياسة جعفر باشا بحكم ملازمته له لأمد غير قليل أثناء فترة توليه ولاية اليمن -كما أشرنا آنفاً- وأيقن أن الخطر بات يحدق به مع تقدم جعفر باشا بقواته إلى صنعاء. فلم يكن أمامه سوى اللجوء إلى تقوية جانبه العسكري، حيث قام باستدعاء الأمراء والقادة العسكريين المرابطين في صنعاء، وأوضح لهم خطورة الوضع القائم -وقتئذ- وأمر جميع القوات أن تكون في حالة استنفار لمواجهة محتملة مع قوات جعفر باشا.
ولكسب الولاء والطاعة من قبل هؤلاء فقد أكد لهم -شلبي- أن الحشود العسكرية على صنعاء التي يعتملها الجانب الآخر، تعد انتهاكاً صارخاً للآوامر السلطانية، خاصة وأن جعفر باشا قد عزل عن الولاية بموجب مرسوم سلطاني. والضرورة في أمر كهذا تقتضي ردع أية محاولة من شأنها إحداث فوضى واضطراب في صفوف القوات العثمانية إلى حين تعيين والٍ جديد.
ويبدو أن الدولة العثمانية قد أدركت خطورة الأوضاع في اليمن وأن الاضطراب في صفوف قواتها هناك، سيؤدي إلى نتائج تنعكس سلباً على نفوذها في الولاية، وهو الأمر الذي قد يستغله الجانب الزيدي لتوسيع نطاق نفوذه، لذلك فقد سارعت بإقرار ولاية ثانية لجعفر باشا لتهدئة الوضع القائم.
إزاء تطورات الأحداث -الآنفة الذكر- قام الأمير شلبي بالاتصال بالإمام القاسم، وأطلعه في رسالة بعث بها إليه على مجريات الأوضاع موضحاً أن استقراء الأحداث تؤكد أن جعفر باشا في حال انتصاره سيعاود الحرب على الإمام لاستعادة مناطق نفوذه التي استولى عليها الجانب الزيدي -كما أشرنا آنفاً- ولم يكتف شلبي بذلك بل عمد إلى مولاة الإمام في محاولة سياسية كان الغرض منها كسب الجانب الإمامي ليكون حليفاً قوياً في حال اندلاع المواجهات مع جعفر باشا ولتعزيز جانبه العسكري كذلك، فقد استدعى جميع القوات العثمانية المرابطة في أقاليم النفوذ العثماني في المناطق الشمالية إلى صنعاء.
حاول جعفر باشا الاتصال مرة ثانية بالأمير عبد الله شلبي، لتهدئة الأمور بين الطرفين، خاصة وقد تناهت إليه تحركاته العسكرية.
ويبدو أنه أراد تفادي ما ستؤول إليه المواجهات بين الجانبين، وما سيترتب عليها من نتائج لا يحمد عقباها في صفوف القوات العثمانية حيث بعث برسالة إليه -شلبي- بواسطة الأمير علي بن شمس الدين، يقر فيها الأمير شلبي حاكماً على إقليم صعدة مع تعزيزه بكل القوات المتحالفة معه ليستعيد بذلك الإقليم من تحت أيدي القوات الإمامية التي كانت قد استولت عليه أثناء رحيله عن صنعاء في ولايته الأولى، ومن جهة ثانية يكون قد حسم عدم احتراب الجانبين.
لم تؤد محاولات جعفر باشا -السابقة الذكر- إلى إحراز تقدم يذكر من جانب الأمير عبد الله شلبي لتفادي المواجهات، بل أدت إلى ازدياد تدهور الموقف بين الجانبين، حيث اتخذ شلبي موقفاً معارضاً لما أراده جعفر باشا، إلا أنه اقترح عليه في معرض رده على خطابه -الآنف الذكر- تقسيم الولاية بينهما، على أن يكون له -شلبي- صنعاء وما يليها شمالاً، وأن تكون الأقاليم الممتدة من ذمار إلى عدن جنوباً لجعفر باشا.
أدرك جعفر باشا -حينئذ- أن المواجهة العسكرية هي الخيار الوحيد، لوضع حد لتمرد الأمير عبد الله شلبي لإعادة هيبة الدولة العثمانية على الولاية، وإلى منع أي إجراءات قد يحسمها الإمام القاسم لصالحه خاصة مع اتساع حدة الخلاف بين الجانبين -جعفر باشا وشلبي-. لذلك فقد أمر قائد جيشه الأمير حيدر بالتحرك لحصار صنعاء.
وخلال تقدم الأمير حيدر إلى صنعاء، برزت انقسامات في صفوف جانب الأمير شلبي، تزعمها بعض من الأمراء الزيديين والعثمانيين، أمثال الأمير درويش، الأمير عبد الله بن المعافا، الأمير صلاح المؤيدي، والأمير علي بن الشويع. الذين أدركوا ان الأمور باتت تسير لصالح جعفر باشا، لذلك فقد قاموا بمراسلة الأمير حيدر -سراً- طالبين الأمان لتسليم أنفسهم وقرابة: "ألف نفر" من جنود الأمير شلبي إلى أيدي قوات جعفر باشا شريطة عدم إحداث أعمال سلب ونهب وتخريب لمدينة صنعاء أو الإضرار بأهلها عند دخولها.
وفي واقع الأمر فقد أضعفت تلك الانقسامات -الآنفة الذكر- في صفوف قوات الأمير شلبي موقفه العسكري من جانب، ومن جانب آخر مكنت قوات الأمير حيدر من إحكام السيطرة والحصار على مدينة صنعاء، ثم خوض معركة لم يمتد أجلها أدت إلى دخول المدينة وإلقاء القبض على الأمير عبد الله شلبي ومن في معيته من الأمراء والجنود.
أمر الوالي جعفر باشا بتشكيل مجلس عسكري يتألف أعضاؤه من كبار الأمراء والقادة العسكريين الذين في جانبه لمحاكمة الأمراء الذين تم أسرهم خلال الحرب مع عبد الله شلبي. في ما أصدر أوامر إلى الأمير حيدر بإعدام الأمير شلبي وكبار مستشاريه. وبهذه النتيجة القاتمة استطاع جعفر باشا أن يضع حداً لتمرد كاد يزعزع السيطرة العثمانية في الولاية.
نقض صلح (1016ه/1607م) وتوسيع نفوذ الإمام القاسم
مما لا شك فيه أن صلح 1016ه/1607م، كان قد وضع حداً لحروب طال أمدها بين الجانبين الزيدي والعثماني، وأدى بالتالي إلى استقرار يذكر في أقاليم البلاد -كما أشرنا في الفصل الثالث- إلا أن قرار عزل جعفر باشا عن الولاية مثَّل بداية فعلية لخرق صلح 1016ه/1607م. من قبل الإمام القاسم الذي خشي أن يلجأ الوالي الجديد إبراهيم باشا إلى الحرب ثانية للاستيلاء على ما تحت يده من مناطق الشمال الجبلي، كما حددها بنود صلح 1016ه/1607م، وبالتالي عدم الاعتراف بإمامته، وهو الأمر الذي إن حدث سيؤدي إلى اضطراب في صفوف مؤيديه ومناصريه خاصة وأنهم قد استراحوا إلى الدعة أيام الصلح.
استدعى الإمام القاسم كبار مستشاريه: "الذين يباشرون الحرب". لإطلاعهم على تطورات الأحداث، وما هو عازم عليه، لاتخاذ قرار بشأنه، ويبدو أن هؤلاء كانوا قد أدركوا خطورة الوضع القائم -حينئذ- فلم يكن هناك ثمة معارض لإعلان الحرب، بل وطلبوا منه سرعة التحرك بقواته لإحكام السيطرة على مناطق النفوذ العثماني في الشمال الجبلي، خاصة مع الاضطرابات القائمة في صفوفهم -كما أشرنا آنفاً-.
وتجدر الإشارة إلى أن الأمير عبد الله شلبي، كان قد عرض على الإمام أن يقف إلى جانبه، ليكون حليفاً له ضد قوات جعفر باشا خلال المواجهات الآنفة الذكر مقابل أن يمكنه: "من أكثر البلاد" كما أنه سحب غالب قواته من مناطق الشمال الجبلي إلى صنعاء لمواجهة جعفر باشا. إلا أن الإمام لم يثق بعروض شلبي ويبدو أنه أدرك أن العثمانيين إذا: "ما انتظم أمرهم ثاروا عليه جميعاً".
وفي حقيقة الأمر فقد مثل انسحاب القوات العثمانية إلى صنعاء من المناطق الشمالية، عاملاً هاماً أدى إلى سرعة تحرك الإمام لمد نفوذه وإحكام سيطرته على مناطق نفوذ العثمانيين دون مقاومة تذكر من جانب، ومن جانب آخر أدى كذلك إلى انضمام غالب قبائل تلك المناطق إلى الإمام، وأعلنت مبايعتها وموالاتها له.
شن الإمام الحرب ثانية على العثمانيين، ليبدأ بها المرحلة الثالثة من ثورته، مستغلاً حالة الفراغ السياسي والعسكري الناشئ حوله في صفوف العثمانيين لبسط نفوذه وسيطرته على رقعة أوسع من أقاليم الشمال الجبلي. وقد عمد مع خطواته تلك إلى تحويل هيئته الدعوية إلى قيادة سياسية وعسكرية تحمَّل غالب صلاحيتها أبناؤه -محمد وعلي والحسن والحسين- وأحمد بن الإمام الحسن بن علي المؤيدي.
وفي خطوات متسارعة لتنفيذ إجراءاته تلك لإحكام السيطرة الزيدية ومد نفوذها، فقد وجه ابنه الحسن إلى الاستيلاء على مناطق شطب وبلاد جنب يساعده في ذلك عدد من قادته العسكريين. في ما وجه ابنه علي إلى الشرفين، وأوكل مهمة السيطرة على حجة إلى ابنه الحسين، بينما أرسل أحمد بن الحسن المؤيدي إلى مواجهات عسكرية مع القوى العثمانية في مناطق عمران وبلاد لاعة وجبل تيس. وأصدر أوامره كذلك إلى قائده العسكري أحمد بن عواض الأسدي بالتحرك إلى جهات: "المشارق وبلاد حاشد وبكيل". ذات العمق الاستراتيجي والبشري والتي أعلنت مولاتها له.
أما إقليم الحيمة والذي بات يشكل له أهمية سياسية وعسكرية -كما أشرنا آنفاً- فقد أناط مهمة القيادة فيه إلى بعض الفقهاء وشيوخ القبائل هناك، أما مناطق بلاد نهم وخولان وظفار داود فقد أوكلت مهام مد النفوذ الإمامي إليها إلى القائد العسكري أحمد القطابري.
ولم يكن إقليم صعدة النائي والذي استعصى عليه خلال المرحلتين الأولى والثانية من ثورته -كما أشرنا آنفاً- بعيداً عن تلك الإجراءات فقد ولَّى عليه محمد بن أحمد بن عز الدين، ولمزيد من إحكام السيطرة على الإقليم أصدر توجيهاته لابنه الحسين في التوجه إلى صعدة: "لحفظ المدينة وإقرار الأحكام" وتسيير الأمور فيها.
وكيفما كان الأمر فقد استطاع الإمام من مركزه بشهارة الدفع بقادته العسكريين على رأس فرق قبلية محاربة من إقليم الشمال الجبلي، تساندها شيوخ القبائل وأعداد من السادة والفقهاء الزيديين، واكتسح غالب المناطق الشمالية وإلحاقها بالنفوذ الإمامي -كما أشرنا آنفاً- ويبدو حسب مؤرخ محدث أن: "انتهاز الفرص للقيام بأعمال النهب والسلب قد أغرت الكثير من القبائل للالتحاق بالثورة مما وسع نطاق الأحداث آنذاك". والتي استولت خلال انتشارها السريع في غالب المناطق الشمالية على عدد غير قليل من الغنائم، خاصة منها العتاد العسكري الذي خلفته الحاميات العثمانية أثناء التحاقها بعبد الله شلبي في صنعاء لمواجهة جعفر باشا -كما أشرنا آنفاً- أو تلك التي أرغم ما تبقى منها في الشمال الأعلى على تركه مقابل انسحاب آمن لها كما حدث في مدينة صعدة.
وفي حقيقة الأمر لم يستطع الإمام القاسم، رغم إجراءاته -الآنفة الذكر- من تحقيق أهدافه -كما كان يتوخاها- وقد كانت على مرمى حجر من التحقق في سلطة حاكمة، فلقد حالت التطورات المتسارعة -وقتئذ- دون ذلك. حيث لم تنته الأشهر الأخيرة من سنة1022ه/1614م إلا وقد انقلب الموقف إلى النقيض، حين استطاع جعفر باشا القضاء على تمرد الأمير عبد الله شلبي في صنعاء -كما أشرنا آنفاً- فقد وجه قواته وأمراءه الزيديين -المتعاونين معه- إلى مواجهة أشد مع الإمام لاستعادة المناطق التي امتدت إليها يد القوات الإمامية الآنفة الذكر.