بالنسبة لجانب الإمام فهو وإن كان قد أحرز انتصارات عدة على أرض الواقع إلا أنها لم تكن في حقيقة الأمر تعني امتداداً كاملاً لنفوذه، نتيجة المواقف التي أبدتها بعض قبائل تلك المناطق، والتي ظلت على الدوام تخاف جانب العثمانيين بل وتتردد في مناصرته، حيث كان همها بالدرجة الأساسية خلال انخراطها في صفوف القوات الإمامية ومشاركتها في العديد من المعارك ضد العثمانيين، الحصول على قدر أكبر من الغنائم. لذلك فقد بات الإمام يدرك تماماً بأن الضرورة تقتضي استمالة تلك القبائل لوضع حد لمواقفها المتباينة.
ومن جهة أخرى فقد انتشرت في غير منطقة الكثير من البدع والخرافات، بالإضافة إلى ما يحدث من نزاعات وإشكالات بين أوساط الأهالي، لم يكن باستطاعة -الإمام- القضاء عليها أو إقامة الحدود فيها لانشغاله بالحرب المستمرة، وكذلك تنقلاته في غير جهة من إقليم الشمال الجبلي. لذلك فقد كانت الحاجة ماسة لهذا الصلح ليدعم نفوذه في البلاد ويقيم الحدود الشرعية ويقضي على البدع والخرافات.
في ما كان كان جعفر باشا هو الآخر، بحاجة إلى الصلح، لمواجهة تمرد عبد الرحيم وأمير صعدة العثماني، محمد التركي -كما سنتبين في ما بعد- وإلى إخماد تلك الاضطرابات التي كانت تظهر على السطح في أقاليم اليمن، وهو ما يؤدي بالتالي إلى إضعاف جانب العثمانيين ويقلل من هيبتهم.

إخماد تمردات عبد الرحيم بن عبد الرحمن والأمير محمد التركي
انصرف جعفر باشا عقب عقد الصلح مع الإمام إلى إدارة شؤون الولاية، التي كانت مضطربة جراء السياسة التي إعتملها الوالي السابق سنان باشا ضد الأهالي -كما ذكرنا سابقاً- لذلك فقد أدرك الوالي جعفر باشا ضرورة عودة الهدوء والاستقرار إلى غالب البلاد لبسط السيطرة العثمانية على الولاية.
وكان من أولويات مهامه تلك القضاء على تمرد الأمير عبد الرحيم، خاصة وأنه ما زال يتمتع بنفوذ واسع في وسط إقليم الشمال الجبلي لا يستهان به، وربما أدى تماديه إلى إحداث إرباك وإلى زعزعة الحكم العثماني.
وباستقراء الأحداث -كما تم رصدها في الفصل الأول- فقد كان عبد الرحيم أحد رموز الأمراء الزيديين من بقايا أسرة المطهر بن الإمام شرف الدين، الذين واجهوا دعوة الإمام وثورته، وساندوا جانب العثمانيين في القضاء عليها. ولم يعلن عصيانه وانشقاقه عن حلفائه العثمانيين إلا لأسباب كان عاملها الأساسي خلافه مع الوالي سنان باشا -وقتئذ- بشأن الشيخ عاطف الأهنومي أحد المطلوبين لسلطة الحكم العثماني، الذي التجأ إلى عبد الرحيم ليؤمنه من بطش العثمانيين. وإزاء إصرار سنان باشا على تسليم الأهنومي، امتثل عبد الرحيم لأوامر السلطة العثمانية. لكنه اشترط في المقابل على سنان باشا ضرورة الإبقاء على حياة الأهنومي، وهو الأمر الذي لم يتم، حيث عمد سنان باشا بعد القبض عليه -الأهنومي- إلى قتله.

أدرك عبد الرحيم بهذه الحادثة أن العثمانيين لا يؤتمن جانبهم، خاصة مع نقض الوالي -سنان باشا- للعهد الذي قطعه على نفسه بعدم قتل الأهنومي، غير آبه كذلك بثقل ومركز عبد الرحيم بين قبائله.
ألقت الحادثة بظلالها على الأمير الزيدي، الذي بات يعرف نوايا سنان باشا، والذي كان يؤمل في الحقيقة في القضاء على نفوذ عبد الرحيم لإضعاف جانبه الذي بات يهدد السيطرة العثمانية، ومع إدراكه لتطلعات عبد الرحيم لزعامة في وسط الشمال الجبلي. حينها أيقن عبد الرحيم أن العثمانيين لن يتركوه، خاصة والمؤشرات تؤكد ضرورة بسط النفوذ العثماني على وسط المناطق الشمالية، لتفادي خطر ثورة الإمام القاسم. وهو الأمر الذي إن تم سيؤدي إلى مطالبته بما تحت يديه من بلاد: "الشرف وحجة" فأضمر الخلاف عليهم. ليعلن ولاءه للإمام القاسم، وليخوض معه معارك شرسة حقق فيها انتصارات تذكر على الجانب العثماني -كما أشرنا آنفاً-.
ولقد كان عبد الرحيم في حقيقة الأمر يؤمل في قرارة نفسه بسط نفوذه على تلك المناطق التي حقق فيها انتصاراته بمساندة قوات الإمام القاسم، ليضرب بولائه وعهده للإمام عرض الحائط خاصة وأن ما بين يديه من قوات ضاربة تؤهله لذلك.

ومع قرار عزل سنان باشا -عدوه السابق- وقدوم الوالي الجديد جعفر باشا، لاحت الفرصة أمامه لتحقيق ما كان يصبو إليه، فقد أدرك أن مصلحته تقتضي إعادة انضوائه تحت جناح حلفائه السابقين -العثمانيين- ليؤمن من خلالهم بسط نفوذه. وهو الأمر الذي عمد إليه حين راسل جعفر باشا مع بداية العام 1016ه‍/1607م، طالباً الصلح ومبرراً تمرده السابق ضد سلطة الحكم العثماني خلافه مع سنان باشا وقد شرط في رسالته مقابل توقيعه الصلح إعطائه: "من البلاد ما يرضاه".
ويبدو أن جعفر باشا رأى ضرورة استمالة عبد الرحيم، نتيجة لما يتمتع به من نفوذ، وما تحت يده من قوات، قد تكون عوناً له إذا ما واجه قوات الإمام القاسم. خاصة وأن التقارير التي وردت إليه -خلال مكوثه في تعز بشأن الأوضاع في المناطق الشمالية أشارت إلى أن عبد الرحيم: "عظيم الشأن والملك والإقدام". لذلك فقد وافق على طلب الصلح. وأن يترك لعبد الرحيم المناطق التي تحت يديه.
إلا أنه تريث في توقيع الصلح بعد ان وصلته مراسلات من أمير كوكبان -حينئذ- إسماعيل بن أحمد بن محمد بن شمس الدين، يناشد فيها وضع حد لمحاولات عبد الرحيم العدوانية على مناطق نفوذه. ولاستقصاء مجريات الأحداث، أرسل جعفر باشا عند وصوله إلى صنعاء في 25شوال سنة 1016ه‍/ 12فبراير1608م مبعوثاً إلى عبد الرحيم.

وفي واقع الأمر فقد أجرى المبعوث العثماني، محادثات مع الأمير عبد الرحيم أكد خلالها ضرورة أعادة المناطق التي استولت عليها قواته. الواقعة ضمن نفوذ أمير كوكبان، والاكتفاء بما تحت يديه من نفوذ في بلاد حجة وأقاليمها كشرط أساسي لعقد الصلح مع الجانب العثماني. وهو الأمر الذي رفضه عبد الرحيم، بل وعمد إلى قتل ذلك المبعوث، وحسب مؤرخ معاصر فقد مثلت تلك الحادثة: "أحد الأسباب الموقعة له فيما وقع فيه لأن الأتراك بعد ذلك أعرضوا عن مراجعته".
إزاء تلك الأحداث المتسارعة أدرك جعفر باشا أن جانب عبد الرحيم لا يحمد عقباه، فعمد إلى الصلح مع الإمام -كما أشرنا آنفاً- ولقد رسخ رفض عبد الرحيم مشاركة الإمام في صلحه مع العثمانيين، وإعلانه الاستمرار في مقاومة الحكم العثماني، قناعة الوالي الجديد بضرورة إعلان الحرب عليه. وكيفما كان الأمر فقد انفرد جعفر باشا بعد عقد الصلح مع الإمام القاسم، لمقاتلة عبد الرحيم، حيث وجه إليه في شهر ربيع الآخر 1017ه‍/يوليو1608م قوات عثمانية يقودها عمر كيخيا. تسانده قوات أمير كوكبان -الآنف الذكر- لمحاصرته في معقله بحجة، ولم يكن بمقدور عبد الرحيم حيال الأعداد الكبيرة من القوات المحاصرة له المواجهة، فعمد إلى اللجوء إلى حصن نوسان، بعد أن سلم أخواه أحمد ومحمد حصني مبين ومفتاح الهامين. إلا أنهما لم يستطيعا الصمود طويلاً أمام القوات العثمانية، فسلما نفسيهما إلى تلك القوات وأعلنا الولاء لسلطة الحكم العثماني.

أدرك عبد الرحيم أن أمر تطلعه للزعامة، التي كان يؤملها قد بدأ ينهار خاصة بعد أن تخلى عنه أخواه -أحمد ومحمد- لينخرطا تحت ولاء العثمانيين، ولم يكن امامه إزاء الحصار الشديد الذي تضربه القوات العثمانية على معقله في حصن نوسان سوى تسليم نفسه للوالي العثماني جعفر باشا في شهر صفر 1018ه‍/إبريل1609م، الذي عامله حسب مؤرخ محدث: "كخارج عن الطاعة" وأودعه سجن الدار الحمراء بصنعاء، ثم نفاه في السادس عشر من شعبان سنة 1020ه‍/24أكتوبر1611م، إلى استانبول، ليواجه المصير نفسه الذي حاق من قبل بعدد من أعمامه الأمراء. وبتلك الصورة القاتمة حدد جعفر باشا مصير آخر محاولة قام بها أمراء من آل شرف الدين لتحدي السيطرة العثمانية.
لم يكن القضاء على تمرد عبد الرحيم نهاية المطاف بالنسبة للاضطرابات التي واجهها جعفر باشا خلال ولايته لليمن. فقد كان عليه كذلك أن يضع حداً لتطلعات حاكم صعدة العثماني الأمير محمد التركي، الذي كان يطمح للاستقلال بالإقليم عن جانب مركز الحكم العثماني في صنعاء، شجعه في ذلك ثلاثة عوامل هامة:
1- العلاقة القوية التي كانت تربطه بالصدر الأعظم -رئيس الوزراء- مراد باشا في استانبول.
2- بعد إقليم صعدة عن مركز الحكم العثماني في اليمن -صنعاء-.
3- بقاؤه لفترة طويلة حاكماً على الإقليم، ترجع إلى فترة ولاية حسن باشا لليمن، وهو الأمر الذي أدى إلى ترسيخ نفوذه وبسط سيطرته بشكل كبير في الإقليم: "وجعله يطمع في ملك صعدة من غير واسطة الباشا صاحب صنعاء".

ولعل إقامته لعلاقة حسن جوار وتعاون مع شريف مكة -وقتئذ- إدريس بن حسن، إلى جانب العلاقات التجارية التي أقامها مع: "مصر ونواحيها" تؤكد تطلعاته الاستقلالية بالإقليم.
وفي واقع الأمر فقد كان سنان باشا -أثناء توليه لليمن - يرغب في عزله من منصبه، لولا أن ظروف الحرب التي كانت قائمة -وقتئذ- بينه والأمير عبد الرحيم حالت دون تنفيذ ما كان يؤمله.
بات جعفر باشا يدرك تماماً -من الأهمية بمكان- ضرورة القضاء على تمرد الأمير محمد التركي، ويبدو أنه كان يخش أن ينعكس الأمر على باقي أمراء الإقليم في البلاد، لذلك فقد سارع إلى تجهيز حملة عسكرية تحت إمرة عدد من كبار قواده، لخوض معركة تضع حداً لتمرد حاكم صعدة العثماني وكان عليه قبل إرسال حملته تلك، استقصاء موقف الإمام القاسم حيال ما عمد إليه من الإجراءات -الآنفة الذكر- لقمع ذلك التمرد، بل وأكثر من ذلك فقد تطلع إلى مشاركة فعلية للإمام للقضاء على تمرد الأمير محمد التركي. وقد بين ما كان يؤمله في رسالة بعثها إلى الإمام.
وقف الإمام القاسم أمام طلب جعفر باشا موقفاً حيادياً، حين أكد في معرض رده على رسالة الوالي -جعفر باشا- بأن إخماد ذلك التمرد يعد شأناً داخلياً يخص العثمانيين أنفسهم، ولن يقف الجانب الإمامي مع أي طرف ضد الآخر، مشيراً إلى التزامه ببنود الصلح الموقع بين الجانبين، حيث قال، حسب الجرموزي: "إن بيننا وبينكم عقداً لا نحله وعهداً لا ننقضه، وهذا صاحبكم لا نعينكم عليه ولا نعينه عليكم".

ولقد جدد الإمام موقفه -الآنف الذكر- كذلك مع الأمير محمد التركي حين طلب هو الآخر مساعدته ضد القوات العثمانية.
وكيفما كان الأمر فقد توجهت القوات العثمانية إلى صعدة، بعد موافقة الإمام على مرورها عبر مناطق نفوذه في خمر.
وفي هذه الأثناء بات على حاكم صعدة العثماني -خاصة مع قدوم القوات العثمانية إلى مركز نفوذه- أن يجد حليفاً يعاضده لمواجهة تلك القوات، التي ليس بمقدوره الوقوف أمامها لتفوقها البشري والعسكري، لذلك فقد عمد إلى أحمد بن الإمام الحسن المؤيدي طالباً منه الوقوف إلى جانبه لمحاربة: "جنود الأتراك". ويبدو أن الأمير محمد التركي قد لاذ بالمؤيدي لثقله الاجتماعي في أوساط قبائل صعدة، فهو ابن الإمام الحسن المؤيدي، وهو كذلك صهر الإمام القاسم، وكان يعتقد أنه في حال انهزامه وحليفه المؤيدي، فإن الإمام لن يقف مكتوف اليدين أمام الأمر الواقع، وسيتدخل لإنقاذ المؤيدي، وهو الأمر الذي كان يؤمله -الأمير محمد التركي- لإشراك القوات الإمامية لترجيح كفته خلال المواجهة مع القوات العثمانية. ولقد كان لانضمام أحمد المؤيدي إلى جانب حاكم صعدة العثماني بالغ الخطورة على الجانب الإمامي، كونه اعتبر أحد الأسباب التي أدت إلى نقض الصلح بين الإمام وجعفر باشا، كما سنتبين في ما بعد.

خاض الجانبان -قوات جعفر باشا وقوات الأمير التركي- معركة غير متكافئة، أدت إلى انهزام الأمير محمد التركي، وفراره من أرض المعركة ثم لجوئه إلى شريف مكة. في ما لم يكن أمام المؤيدي سوى الالتجاء إلى الإمام، وبذلك الانتصار استطاع جعفر باشا أن يضع حداً للتطلعات الاستقلالية لحاكم صعدة العثماني، وأن يعيد الإقليم إلى حظيرة السيطرة العثمانية في اليمن.
وفي حقيقة الأمر فقد كان الصلح توطيداً لأقدام الإمام القاسم في المناطق الشمالية، كما كانت الاضطرابات التي واجهت جعفر باشا من جانب العثمانيين واليمنيين على السواء بداية لامتداد سيطرة النفوذ الإمامي إلى أقاليم الشمال الجبلي.
ولقد استمر الصلح بين الجانبين إلى شهر ربيع أول من سنة 1021ه‍/مايو1612م، ولم تحدث خلال تلك المدة أية أحداث، وحسب المؤرخ الشرفي فقد كانت الأمور: "في مدة الصلح بين الإمام وجعفر جارية على السداد ولم يجر فيها ما يفضي منافرة". وربما غض الطرف كل منهما عن الآخر إزاء بعض القضايا التي لا تستوجب حفاظاً على الصلح.

الفصل الرابع المرحلة الثالثة لثورة الإمام القاسم
(1021-1025ه‍/1612-1616م)
تصادم القوى العثمانية وأثره على ثورة الإمام القاسم
لم تمر أحداث المواجهات العسكرية في إقليم صعدة بين العثمانيين -جعفر باشا والأمير محمد التركي- بسلام كما توخاها جعفر باشا، خاصة وأن الدولة العثمانية قد أقلقها اضطراب الأمور في صفوف القوات العثمانية في ولاية اليمن، وخشيت ظهور تمردات أخرى، في محيط قواتها هناك، قد تؤدي إلى زعزعة نفوذها في الولاية. لذلك فقد سارعت إلى إقصاء جعفر باشا من منصبه حيث أصدر السلطان أحمد بن مراد مرسوماً في شهر رمضان سنة 1021ه‍/اكتوبر1612م قضى بعزل جعفر باشا وتعيين إبراهيم باشا بدلاً عنه.
ويبدو كذلك أن العلاقات الوثيقة القائمة -وقتئذ- بين الأمير محمد التركي -حاكم صعدة- بكبار رجالات الدولة العثمانية، خاصة رئيس الوزراء -الصدر الأعظم- مراد باشا، كانت سبباً آخر في تلك الإجراءات التي عمدت إليها السلطنة.
تحرك جعفر باشا من صنعاء إلى مدينة تعز، لتسليم أمور الولاية إلى الوالي الجديد إبراهيم باشا والذي كان قد وصلها في شهر ربيع الأول من سنة 1022ه‍/يونيو1613م. وقد عهد إلى الأمير عبد الله شلبي أحد رجالاته -المقربين منه- للقيام بهذه المهمة. ويبدو أن شلبي كان قد: "نوى في نفسه التخلف عن جعفر باشا والمخادعة". وهو الأمر الذي عمد إليه خلال مثوله إمام إبراهيم باشا، حيث أعلن الولاء والطاعة له.

10 / 109
ع
En
A+
A-