الكتاب : النبذة المشيرة إلى جمل من عيون السيرة
المؤلف : المطهر بن محمد الجرموزي

تمهيد
لقد أدى المذهب الزيدي إلى خلق وحدة بشرية متماسكة في تاريخ اليمن منذ ظهوره في أواخر القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، والذي يمثل بداية لظهور المذهب الزيدي ذي الأصول المعتزلية والشيعية المعتدلة، وذلك عندما وضع الإمام الهادي يحيى بن الحسين في صعدة سنة 284ه‍/898م الأسس الأولى لقيام الإمامة الزيدية. وهو بذلك يعد أول من قام بالدعوة لأفكار هذا المذهب الذي قامت على أساسه -فيما بعد- الدولة القاسمية في مطلع القرن الحادي عشر/السادس عشر للميلاد، وتمكنت بعد خروج العثمانيين الأتراك أن تمد نفوذها على غالب اليمن.
ومنذ ذلك الحين بدأ الزيديون يؤسسون لمشاركة فعالة في تاريخ اليمن، طوال العصور الوسطى (الإسلامية) وفي العصر الحديث منذ القرن السادس عشر الميلادي. وهم بذلك يعدون القوة الرئيسية التي كان لها دور أساسي في التصدي للحكم العثماني الثاني في اليمن حتى الاستقلال عام1918م والتي ظلت تسيطر على مقدرات البلاد حتى قيام النظام الجمهور عام 1962م.
وتنطوي أفكار المذهب الزيدي في مجملها على أهداف أكثر تحررية من المذاهب الإسلامية السنية الأخرى، يتبلور أهمها في رفض الظلم والقضاء على الفساد وذلك بالخروج على الحاكم الظالم، وإلى نشر العدل والمساواة بين أفراد المجتمع الإسلامي.
وبإلقاء نظرة عامة على تاريخ المذاهب الإسلامية نجد أن المذهب
الزيدي قد أعلن وبقوة -من خلال ما دعى إليه الإمام زيد-
ورأيه حول أهم قضية كانت تشغل الفكر السياسي الإسلامي ألا وهي الخروج على الظلمة والجائرين.

ولهذا نجد أن آراء المذهب الزيدي تدعو إلى الثورة أولاً في إنكار الجور أياً كان، والخروج على الظلمة مهما كان نوعهم، ثم إلى الشوروية الكاملة في اختيار الإمام. الذي يجب أن تتوافر فيه شروط الإمامة التي تبلورت بعد الإمام الهادي يحيى بن الحسين في الأربعة عشر وهي: "أن يكون الإمام مكلفاً، ذكراً، مجتهداً، علوياً، فاطمياً، عدلاً، سخياً، ورعاً، سليم العقل، سليم الحواس، سليم الأطراف، صائب الرأي، مقداماً، فارسا".
ويمثل المذهب الزيدي طليعة تجمع في عمق التاريخ الإسلامي، يدعو إلى الانفتاح الفكري والإبداع الإنساني ويجعل باب الاجتهاد مفتوحاً. وهو بذلك -وعلى مر العصور- قد أدى إلى ظهور العديد من الأئمة المجتهدين الذين كان لهم دور مهم في: "إثراء المذهب بمؤلفاتهم وبآرائهم". وبالإضافة إلى ذلك فقد فتح المذهب باب الاختيار من المذاهب الأخرى وخاصة السنيّة، وهو الأمر الذي أدى إلى نمائه باستمرار، وعلى تقريبه إلى تلك المذاهب، ولا شك أن: "الزيدية هم أعظم الشيعة اعتدالاً وأكثرهم التصاقاً بالسنة".
وبالتأكيد فقد كانت هذه العوامل من: "أهم لأسباب في نمو المذهب الزيدي في اليمن، وبقائه طوال تلك القرون العديدة حتى يومنا هذا".
ويستند المذهب الزيدي على ركنين هامين، يمثلان القاعدة الأساسية للمذهب، بذل في دراستها أئمة وعلماء الزيدية جهداً واهتماماً كبيرين، وهما بالتالي يمثلان المحصلة الكلية لأهم العلوم الدينية في الأصول وما يترتب عليها من الفروع:

الأول: علم الكلام أو علم العدل والتوحيد، ويُسمى أصول الدين، ويعتبر كما قال الإمام القاسم بن محمد، في كتابه (الأساس): "من أجلّ العلوم قدراً وأعظمها حظاً، وأكبرها خطراً، وأعمها وجوباً، وأولاها إيثاراً، وأولها صدراً". وهو يمثل الصياغة النهائية للفكر الزيدي. ولذلك اعتبر هذا العلم من أصول الدين لارتباط مباحثه بالإيمان بالله، وهو العقيدة أساساً.
الثاني: علم أصول الفقه، وهو علم: "يتوصل به إلى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية".
وقد أدى ظهور المذهب الزيدي في المناطق الشمالية لليمن، إلى ازدياد هجرة أسرة الأشراف إلى هذه الجهات، والاستقرار فيها، وبالتالي أفضت -تلك الهجرة- إلى إغناء المذهب بعدد من علماء الزيدية، ممن تنطبق عليهم شروط الإمامة الزيدية، والتي لعبت دوراً هاماً في تاريخ اليمن الحديث، منذ أوائل القرن السادس عشر الميلادي.
وكانت أهم وأقوى الزعامات اليمنية التي سيطرت على أقاليم اليمن الداخلية، وهي بذلك تعد القوة السياسية والعسكرية التي واجهت العثمانيين في اليمن منذ فتح سليمان باشا الخادم للسواحل اليمنية سنة 944ه‍/1538م. والتي كان لها زمام المبادرة في قيادة الثورات الوطنية -حينذاك- ضد الوجود العثماني. الأمر الذي أدّى في النهاية إلى خروج العثمانيين من اليمن عام 1044ه‍/1635م.
وباستقراء مجريات الأحداث لتلك الفترة، يتضح أن العلاقة بين هاتين القوتين -الزيدية والعثمانية- قد اتخذت طابع الحرب أو السلم، إلا أنه غلب عليها -عموماً- طابع الحذر والتوتر، وهو ما كان يؤدي قطعاً إلى قيام الاحتكاك بينهما.

حيث أولى العثمانيون عنايتهم الفائقة في إيجاد عمق استراتيجي لهم في داخل اليمن، كان من شأنه حماية ثكناتهم على السواحل اليمنية والتي تعد القاعدة الاستراتيجية، مكنتهم -فيما بعد- من مد سيطرتهم إلى باقي أنحاء اليمن، إضافة إلى أنها مثلت قاعدة للإمداد العسكري للقضاء على أية أخطار تهدد قواتهم في داخل البلاد. فيما كان يرى الزيديون أن العثمانيين باتوا يشكلون العقبة الرئيسية التي تحول دون تمكنهم من بسط نفوذهم على امتداد رقعة اليمن.
ولعل حقيقة تبرز لقارئ الأحداث لتلك الفترة -لا مناص منها- تؤكد أنه كان من الصعب القضاء على الزعامة الزيدية بشكل جذري في البلاد. ومرد ذلك يعود إلى انتشار المذهب الزيدي بين هؤلاء من جانب، وإلى موالاة والتفاف الأهالي حول تلك الزعامة للوقوف في وجه العثمانيين من جانب آخر.
ولقد مثل الإمام شرف الدين يحيى قوة الإمامة الزيدية، والتي كانت الكيان السياسي والعسكري -في ذلك الوقت- الذي واجه العثمانيين خلاف تقدمهم لبسط سيطرتهم داخل اليمن (944ه‍/1538م). إلا أنه وكما يؤكد مؤرخ معاصر لتلك الأحداث قد: "ارتكب خطأين كبيرين أثرا تأثيراً كبيراً في انهيار حكومته أولهما تقسيم ممتلكاته بين أبنائه العديدين في سنة 947ه‍/1541م، وثانيهما جعله ولاية العهد لابنه علي دون ابنه الأكبر [والخطير] وهو المطهر".
ولقد كان لهذين العاملين أثرهما البالغ في إثارة روح العداء والتناقض بين الأخوة، مما أدى إلى تفكك وضعف أسرة الإمام شرف الدين، وهو الأمر الذي أفضى في النهاية إلى تفتت السلطة الزيدية في اليمن.

ولقد أثارت خطوة الإمام شرف الدين -الآنفة الذكر- حفيظة المطهر إلى درجة أنه خرج عن طاعة أبيه، وقاوم بإثارة اليمنيين والعثمانيين على السواء ضد حكمه.
ولم يكن الأمر أوفر حظاً بالنسبة للمناطق الجنوبية التي كانت تخضع لنفوذ أسرة شرف الدين، فقد انعكست الخلافات القائمة في محيط الأسرة، على الأوضاع في تلك المناطق. إضافة إلى فساد ولاة وعمال -آل شرف الدين- هناك كان من جملة الأسباب التي أدت إلى سقوط تلك المناطق في قبضة العثمانيين وإلى انهيار الحكم الزيدي فيها.
وعندما شعر الإمام شرف الدين بالخطر الماثل أمامه -المتمثل بسيطرة العثمانيين على المناطق الجنوبية وبداية تقدمهم نحو الشمال- رأى من الضرورة بمكان إعادة توحيد جبهته لصد تقدم تلك القوات. وحينئذ لم يكن أمامه سوى قبول شروط الصلح مع ابنه المطهر، لعل أعظمها وأهمها أن تكون السلطة في يده -أي المطهر- وفي تسليم مقاليد الحكم له.
وبذلك استطاع المطهر أن يتسنم مقاليد الأمور في البلاد، وأن يقود الثورة ضد الوجود العثماني، وطردهم من جميع جهات اليمن، ما عدا زبيد وميناء المخاء.

وفي الحقيقة أن تقهقر العثمانيين بهذا الشكل -الملفت للنظر- وانزوائهم في الأخير في المنطقتين الآنفتي الذكر، لم يكن ليحدث لولا بروز عدد من العوامل، أدت في نهاية المطاف إلى انهيار السيطرة العثمانية في اليمن، أرجعها ذلك المؤرخ المعاصر للأحداث، إلى: "ضعف أوضاع العثمانيين السياسية والعسكرية والمالية، إضافة إلى عدم اهتمام الولاة برعاية شؤون الأهالي. وكذلك تقسيم البلاد إلى ولايتين" إلى جانب ما قاساه الأهالي من شدة الأعباء المالية الملقاة على كواهلهم. كان من شأنه أن أدى إلى تذمر هؤلاء -الأهالي- وانضوائهم المتسارع تحت قيادة المطهر.
وكان لشخصية المطهر وإرادته القوية وحنكته السياسية والعسكرية ونجاحه في الحفاظ على وحدة الجبهة الزيدية، تحت زعامته الأثر الكبير في نجاح الثورة ضد العثمانيين.
وباستقراء دقيق لأحداث تلك الفترة، بحسب ما هو متوفر من مصادر شحيحة -لمجرياتها- نجد أن ثورة المطهر، لم تكن نهاية المطاف بالنسبة للوجود العثماني في اليمن.
وكنتيجة حتمية لقوة الدولة العثمانية -حينذاك- ولاهتمامها الواضح بولاية اليمن، التي أصبحت منذ بداية القرن السادس عشر الميلادي بمثابة خط الدفاع الأمامي بالنسبة لحوض البحر الأحمر، فقد حرص العثمانيون على أن يكون لهم موضع قدم في المنطقة، لإغلاق هذا المنفذ البحري، وبالذات ميناء عدن أمام الخطر البرتغالي. الذي كان يهدد العالم العربي، بل والدولة العثمانية بشكل عام.

وكما أورد ذلك المؤرخ النهروالي بقوله: "إن الإفرنج، الملاعين إذا تمكنوا من هذا الثغر الحصين أضروا المسلمين، ومنعوا سفائن الهند من الوصول إلى بنادر الحرمين الشريفين، وربما
طمعوا في أخذ جدة ونواحيها، وأضروا بتلك البقاع الشريفة وضواحيها".
ولذلك كله -كما أشرنا آنفاً- فقد أرسلت الدولة العثمانية حملة كبيرة إلى اليمن، تحت قيادة سنان باشا في عام 977ه‍/1569م استطاعت أن تعيد سيطرتها مرة أخرى على البلاد.
وبوفاة المطهر في رجب سنة (989ه‍/1572م) انهارت سيطرة أسرة الإمام شرف الدين، إذ لم يستطع أولاده من بعده المحافظة على وحدة كيانهم، نتيجة لبروز الخلافات فيما بينهم، بشأن الاستئثار بالسلطة والنفوذ و:"ثبت كل واحد منهم على ما تحت يده في البلاد". حيث كان المطهر قد ولاّهم على الأجزاء المختلفة من ممتلكاته قبل وفاته بمدة غير قصيرة.
وكنتيجة حتمية لتلك الخلافات، فقد شهدت المناطق الشمالية اندلاع العديد من الحروب العنيفة بين أمرائها، مما أدى بالتالي إلى ضعف مراكزهم أمام العثمانيين. بل وأكثر من ذلك مهدت الطريق أمام القبائل لإعلان تمردها وخلافها ضد حكامهم.
وبهذا افتقدت اليمن -حينذاك- إلى شخصية قوية باستطاعتها قيادة الثورة من خلال إذكاء روح المقاومة في أوساط الأهالي الساخطين ضد الوجود العثماني.
وعلى الرغم من قيام بعض الأشراف بالدعوة لأنفسهم، وإعلان الثورات ضد الحكم العثماني، إلا أنها -أي الثورات- لم تكن على نطاق واسع في المناطق الشمالية نتيجة الأسباب التي ذكرناها آنفاً، مما سهل بالتالي على العثمانيين القضاء عليهم.

وشهدت اليمن نوعاً من الاستقرار خلال تولي حسن باشا شؤون الحكم فيها، والتي امتدت إلى حوالي خمسة وعشرين عاماً (1580ـ1605م) استطاع خلالها من فرض سيطرة عثمانية قوية على المناطق الشمالية حين شرع في: "إقامة بديل زيدي -عثماني، ضمن إطار نظام حكم الولاية المركزية- ضم في نطاقه عدداً محدوداً من الأمراء الزيديين".
وساعده على ذلك ضعف أمراء المناطق الشمالية نتيجة كثرة الحروب في ما بينهم إضافة إلى أنه استغل تضارب المصالح بين الزعماء الزيديين أنفسهم وعمل على توسيع الهوة بينهم؛ حتى لا يحاول هؤلاء -رغم خلافاتهم- تكوين جبهة قوية للوقوف ضده.
ويتضح أن حسن باشا قد قلص من نطاق نفوذ أسرة الإمام شرف الدين بوجه عام. وذلك بعد أن انهك قواهم العسكرية وتأكده من عدم مساندة الأهالي لهم.
ولتوطيد السيطرة العثمانية في اليمن، عمد حسن باشا أيضاً إلى تقرير رواتب شهرية للأمراء من آل الإمام شرف الدين، وآل المؤيد، وأشراف الجوف، والذي كان لهم نفوذ في الشمال، بعد ضمان طاعتهم وخضوعهم التام للدولة العثمانية.
ورغم تلك الإجراءات فلم يتمتع الحكم العثماني بالاستقرار طويلاً إذ ظهر إماماً جديداً، وهو الإمام القاسم بن محمد [1006هـ/1597م] الذي أشعل الثورة مرة أخرى على العثمانيين، وبدأ يبسط سيطرته على المناطق الشمالية. ويعلن مرحلة جديدة من مراحل الكفاح الوطني ضد الوجود العثماني. الذي توج في نهاية المطاف بخروجهم من اليمن عام 1635م على يد خلفه ابنه الإمام المؤيد بالله محمد.

الفصل الأول الأسباب التي أدت إلى قيام ثورة الإمام القاسم بن محمد
أدى فساد الأوضاع العامة للحكم العثماني في اليمن خلال الفترة (1580-1597م) إلى اندلاع ثورة الإمام القاسم بن محمد.
فلقد ارتسمت في تلك الفترة جملةٌ من الأسباب عبرت في طياتها عن أوضاع هذه الفترة الهامة من تاريخ البلاد.
ولعل أهم تلك الأسباب تتمثل في عدم اقتناع فئة تنتمي أساساً إلى المذهب الزيدي، بشرعية الوجود العثماني في اليمن. ولقد أصبح هذا المذهب بحكم طبيعته، قوة سياسية تمكنه من إعلان العصيان ضد السلطة القائمة، خاصة وأنه يخول للإمام إعلان الخروج إذا رأى مبرراً لذلك مثل فساد السلطة أو اضطراب أحوالها.
ولقد أوضحت ثورة الإمام القاسم، بجلاء ضعف الحكم العثماني -حينذاك- والذي انعكس على الأوضاع القائمة في البلاد. أدت بالتالي إلى استياء الكثير من الأهالي وانضوائهم تحت عَلم تلك الثورة، حيث رأوا فيها تعبيراً عن تذمرهم من سياسة العثمانيين وتصرفاتهم.
ومن الأهمية بمكان أن نبرز -هنا- أهم الأسباب التي كانت المحك الرئيس في قيام هذه الثورة.

1 / 109
ع
En
A+
A-