الكتاب : أئمة أهل البيت الزيدية
المؤلف : عباس محمد زيد
المحقق :
الناشر : (مؤسسة الإمام زيد بن علي(ع) الثقافية)

إذ لم يقتصر جهادهم على مقارعة الظلم، بل حكموا عندما تمكنوا، وقدموا لنا صورة مشرقة لأئمة العدل والتوحيد في مختلف الأقطار الإسلامية التي تمكنوا فيها كالمغرب العربي، وبلاد الجيل والديلم، وأفغانستان، والعراق، وبلاد اليمن.
كما كانوا مثالاً للإخلاص لكل حاكم عادل، إذ كانوا عوناً له ناصحين، ولكل مقدراتهم باذلين ما دام شرع الله قائماً وأمور الناس في سلام، كما كانت لهم اليد الطولى في نشر الفكر الإسلامي وإثراء الفقه الإسلامي بالاجتهاد في كل عصر ومصر، فخلفوا وراءهم لأجيال المسلمين تراثاً ثرياً في حين عقمت سائر المذاهب من تقديم مثل ذلك التراث الفكري والفقهي العظيم، فقد بلغت مصنفاتهم إلى آلاف العناوين، وبلغت تركتهم من المخطوطات عشرات الآلاف تتوزع حالياً على مختلف المكتبات العالمية، والتي ما يزال جُلّها حبيساً لم ير النور بعد، وتنتظر جهود الباحثين المنصفين لإخراجها بالتحقيق والدراسة.
لقد أخذنا المدخل لدراسة تأريخ أئمة أهل البيت إلى تلك المقارنة، وذلك من خلال استقراء تأريخهم المليء بالأحداث العظام، والذي أسهم في رسم المسارات التأريخية للعالم الإسلامي، سواء كانوا في السلطة أو المعارضة لقوى الفساد؛ لأن ما تعرض له أئمة أهل البيت من النكران والمحاربة هو في الواقع نفس ما تعرض له سائر الأنبياء من أقوامهم، خاصة إذا ما علمنا أن الاستضعاف الواقع عليهم وعلى أشياعهم هو من قبل مسلمين انتسبوا إلى الإسلام بالقول دون الفعل.

وحديثنا عن أئمة أهل البيت الذين سموا (بالزيدية) نظير اتباعهم لمنهج الإمام زيد بن علي بن الإمام الحسين سبط رسول الله صلى الله عليهم أجمعين يقتضي بالضرورة الإشارة إلى أن تلك النسبة لا تعني أن الإمام زيد بن علي قد تفّرد بمنهج خاص به دون أسلافه، وإنما أحيا أمراً في عهده كان قد اندثر وتناساه الناس، أو غفلوا عنه وهو جهاد الظالمين، وإنكار المنكر، والأمر بالمعروف، والدعوة إلى إقامة وتحكيم شرع الله، وهذا هو المنهج الذي سار عليه جده الإمام الحسين عليه السلام في ثورته المشهورة ضد يزيد الفاسق، ووقفته المشهورة بكربلاء، وكذلك ما سار عليه الإمام علي عليه السلام من إقامة عمود الدين عندما تمكن من النصرة بحضور الحاضر ووجود الناصر له، وما سار عليه الإمام السبط الحسن بن علي عليهما السلام من التخلي عن الأمر لعدم وجود الناصر له.
وذلك المنهج هو ما التزم به أئمة أهل البيت(ع) والذين من بعدهم فنسبوا إلى الإمام زيد وعرفوا بالزيدية لبيان حالهم مع غيرهم ممن آثروا التقية لعدم وجود الناصرين لهم، وخذلان العامة من حولهم.
ونحن هنا نقتصر على التعريف بالزيدية من الناحية التأريخية، تاركين التعريف بالزيدية كمذهب لمن يتناوله بالدراسة من زاويته الأصولية أو من زاويته الفقهية.

ويلاحظ أن الأحداث التي رسمها أئمة أهل البيت بسيرتهم وجهادهم، وما خلفوه من تراث فكري وثقافي وفقهي، تجعل الباحث في حيرة من أمره عندما يجد هذا الدور مجهولاً حتى لدى الكثير ممن ينتسبون إلى مذهب الزيدية، إلا أن معرفة السبب في ذلك لا تستعصي على المتأمل، فهو -بالنسبة لأتباع المذهب- قعودهم عن تحصيل المعرفة بهذا الدور بالرغم من توافرها في المصادر الخاصة بالمذهب وما أكثرها، وهو-بالنسبة لغيرهم- تجهيل متعمد لذلك الدور.
أما التجهيل فواضح المقاصد إذ لا يمكن لأي حاكم جائر أو من يسير في ركابه أن يقوم بالتعريف لسيرة أمثال هؤلاء الأئمة وشيعتهم؛ لأن في ذلك تقديماً لأنموذج القدوة التي لا يستطيع أن ينتهجها، ومن ثم فإنه من المنطقي أن يتوجه العتاب لمن يدعي الاتباع لمذهب أهل البيت، ويغفل عن دور هؤلاء المجاهدين عبر التاريخ وعبر العصور.
ولا يمكن أن نحصر العتاب على أتباع المذهب بل نوجهه لكل المسلمين في بقاع الأرض من تجاهلهم لسيرة هؤلاء الأئمة الذين قدموا أنفسهم في سبيل الحفاظ على منهج الله، والحرص الشديد على تطبيقه.
ما سبق كان مقدمة لا يسع الباحث تجاوزها وهو بصدد تقديم تراجم مختصرة لبعض أئمة أهل البيت الزيدية الذين جعلوا من كل أرضٍ كربلاء، ومن كل يوم عاشوراء، وكذلك بعض الأئمة الذين تمكنوا من تأسيس حكومات إسلامية في شتى بقاع العالم الإسلامي، ولم يكن في الوسع تقصي الجميع (فأئمة قد ذكرناهم هنا وأئمة لم نذكر).

وبما أن الاعتقاد العام هو أن الزيدية انحصرت في اليمن لارتباط تأريخ اليمن في مراحل كثيرة بتأريخ أئمة الزيدية فقد خصصنا هذا القسم لأئمة أهل البيت خارج اليمن، وذلك ليتمكن الباحثون مستقبلاً من تقصي أخبارهم وتحقيق تراثهم، على أن نخصص القسم الثاني لأئمة أهل البيت في اليمن، تحقيقاً للإنصاف بعد الظلم الفادح الذي تعرضوا له في حياتهم وبعد مماتهم.
وبما أن هذا القسم، قد اقتصر على العرض والوصف للظروف التاريخية التي خرج فيها الأئمة دون التعمق في التحليل والتفسير، فإننا قد حرصنا على بذل الجهد في تحديد المراجع والمصادر لمن أراد من الباحثين بذل الجهد في سبيل إكمال الدراسة عن كل إمام من الناحية الفكرية، والنسق التأريخي، أو هما معاً، والمعول في ذلك مستقبلاً على الباحثين المنصفين.
شاكراً في الأخير جهود الناشر في سبيل إظهار هذه الدراسة المتواضعة إلى حيز الوجود.
والله من وراء القصد
عباس محمد زيد
القاهرة
رمضان سنة 1421هـ/2000م.
1- الإمام الأعظم زيد بن علي زين العابدين عليهما السلام
- 75 هـ مولده (ع) وقيل سنة (80هـ).
- 25 محرم 122هـ استشهاده.
قال الإمام عبد الله (الكامل) بن الإمام الحسن المثنى بن الإمام الحسن سبط رسول الله ً: (العلم بيننا وبين الناس علي بن أبي طالب، والعلم بيننا وبين الشيعة زيد بن علي) فمنذ فاجعة كربلاء (61هـ) التي استشهد فيها سبط رسول الله ً الأصغر الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، وقتل معه فيها الكثير من أهل بيته وشيعته أطفالاً وشيوخاً، رجالاً ونساءً إلى زمن خروج الإمام زيد بن علي والأمر مستتب لبني أمية يسعون إلى توطيد حكمهم بالقتل، والسلب، والتنكيل لكل من لم يناصرهم.

فهذا يزيد بن معاوية (60-64هـ) الذي (يبادر ويجاهر بمعصيته ويستحسن خطأه، ويهون الأمور على نفسه في دينه إذا صحت له دنياه)(1) بعد أن فرض والده معاوية (40-60هـ) حكمه على المسلمين بالسيف والجبروت مرة، ونشر مذهب الجبر أخرى(2) يبادر بعد قتله الإمام الحسين وشيعته بكربلاء إلى المدينة ليقتل حتى من تقاعس عن نصرة الحسين في وقعة الحرة (63هـ) التي قتل فيها خلق كثير من الصحابة رضي الله عنهم ومن غيرهم، ونهبت المدينة، وافتضت فيها ألف عذراء(3) وبنو أمية وهم في سبيل ترسيخ أركان مذهبهم وحكمهم بشتى الأساليب خلال هذه الفترة لم يشهدوا أي حركة معارضة سوى ما حدث من حركة التوابين التي أُجهضت حين قيامها (65هـ) وكذا حركة المختار الثقفي الذي تمكن من السيطرة على العراق، وتتبع بالقتل كل من شهد مقتل الإمام الحسين بكربلاء، وأخذ بثأر أهل البيت، إلا أن حركة المختار قد لقيت نهايتها باستشهاده (67هـ) على يد أصحاب عبد الله بن الزبير (64-74هـ) المناوئ لبني أمية، والذي لقي بدوره مصرعه على يد الحجاج بعد أن أجهض ابن الزبير الحركات المناصرة لأهل البيت (ع) ضد بني أمية؛ موطداً بذلك حكم بني مروان الأمويين من جديد، حيث وُثِّقَ الأمر (لعبد الملك بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية) (74-86هـ) والذي بادر بهدم الكعبة أول أمره وكان يقول: (والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه)(4).
__________
(1) التنبيه والأشراف: المسعودي (ص 264).
(2) أورد ابن قتيبة في كتابه (الإمامة والسياسة) خطاب معاوية لعائشة أم المؤمنين والذي جاء فيه: إن أمر يزيد قضاء من القضاء وليس للعباد فيه الخيرة من أمرهم، جـ1/ص158.
(3) السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 194.
(4) نفس المرجع ص204.

ومنذ ذلك التأريخ وبنو مروان الأمويون يتداولون الحكم دون اعتبار للدين والإصلاح، ولم يشذ عن سلوكهم سوى عمر بن عبد العزيز(99-101هـ) إلى أن وصلت الخلافة إلى هشام بن عبد الملك (105-125هـ) الذي يروي عنه السيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء قوله: (ما بقي شيء من لذات الدنيا إلا وقد نلته)(1).
خروج الإمام زيد بن علي واستشهاده
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[آل عمران: 173].
أشار الإمام محمد الباقر لأخيه الإمام زيد بعدم الخروج بقوله: (لا تركن إلى أهل الكوفة فإنهم أهل غدر ومكر، بها قُتِلَ جدك، وطُعِنَ عمك الحسن، وقُتِلَ أبوك الحسين) وودعه آخر من أهل بيته مبدياً النصح بعدم الخروج قائلاً: (أخاف عليك يا أخي أن تكون غداً المصلوب بكناسة الكوفة) ولكنه أبى إلا الخروج بعد أن قامت عليه الحجة بوجوب القيام بوجود الناصرين له.
فخرج في الكوفة بعد أن بايعه من أهلها قرابة خمسة عشر ألف رجل، ثم تفرقوا عنه ولم يبق معه سوى ثلاثمائة، ولما قُتِلَ حز رأسه وأُرسِلَ إلى الشام لهشام بن عبد الملك الذي أمر بإرساله إلى المدينة لنصبه عند قبر الرسول ً، وصلبت جثته عرياناً، ونسجت العنكبوت ستراً على عورته، وظل مصلوباً قرابة أربع سنين ثم أنزل وحرق، وذر رماده في ماء الفرات.
__________
(1) السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 204.

يقول الدكتور أحمد محمود صبحي عن خروجه عليه السلام في كتابه الزيدية(1): (خرج زيد استنكاراً لسيرة من عرف بالتجبر في الأرض والفسق والفجور هشام بن عبد الملك، ولقد خشي أن يكون في التقية إقراراً للغلبة مبدأ للحكم فخالفها ليعيد مبدأ الإمام الحسين في الخروج؛ ولذا فقد شابه خروجه خروج الحسين (ع) ).
لقد جاء خروج الإمام زيد بعد مضي هذه الفترة الطويلة على حكم بني أمية إحياءً لواجب الجهاد الذي شرعه الله ضد الظالمين، وسار عليه الإمام علي بن أبي طالب(ع) بعد رسول الله ً، وقياماً بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سعياً نحو إصلاح أمر الأمة.
قال الإمام زيد بن علي: وددت أني أحرق بالنار ثم أحرق بالنار وأن الله أصلح لهذه الأمة أمرها.
وقد صار الخروج بعد ذلك مبدءاً مرتبطاً بخروج الإمام زيد منسوباً إليه، وسار على نهجه أئمة أهل البيت الزيدية (ع) الذين خرجوا باذلين أنفسهم لمقاومة الظلم، ومنابذة الظالمين.
قال الإمام محمد بن عبد الله (النفس الزكية): فتح لنا والله زيد بن علي الجنة وقال: ادخلوها بسلام آمنين، ولن ننحو إلا أثره، ولن نقتبس إلا من نوره).
2- الإمام يحيى بن زيد (2) عليهما السلام
__________
(1) الزيدية: أحمد محمود صبحي ص 66 بتصرف.
(2) أمه ريطة بنت هاشم بن عبد الله بن محمد الحنفية، قالت عندما وصلها رأسه إلى المدينة: شردتموه عني طويلاً وأهديتموه إلي قتيلاً صلوات الله عليه بكرة وأصيلاً).

- مولده 97هـ (1).
-استشهاده بجوزجان رمضان 125هـ.
يا بن زيدٍ أليس قد قال زيدٌ
من أحب الحياة عاش ذليلا
كن كزيدٍ فأنت مهجة زيد
تتخذ في الجنان ظلاً ظليلا
__________
(1) ذكر صاحب الإفادة في تاريخ الأئمة السادة أن مقتله كان في 126هـ، وقيل: 125هـ وقد رجحنا التاريخ الأخير؛ لأن جميع من أرخ له أجمعوا على أن مقتله كان في عهد الوليد بن يزيد والذي أجمع المؤرخون على فترة ولايته من شهر ربيع آخر 125هـ إلى جماد آخر سنة 126هـ فيكون مقتله في رمضان 125هـ كما ذكر هذا التاريخ ابن كثير في البداية والنهاية ج 10 ص 10، أما كتاب الشافي للإمام عبدالله بن حمزة ومقاتل الطالبيين فلم يذكرا تاريخاً لمقتله، وإن أكدا على أنه في زمن الوليد الفاسق.

قاتل عليه السلام مع والده ولم يثنه ما أصاب والده أيام هشام بن عبد الملك من القتل والصلب والإحراق، وإنما دفعه إلى أن يتمم رسالة والده بالخروج على الظلم، فخرج من الكوفة إلى خراسان باحثاً عن أنصار لدعوته، ثم إلى سرخس داعياً إلى نفسه، متابعاً دعوة أبيه، ولما تنامت حركته إلى مسامع هشام كلف نصر بن سيار عامله على العراق ليهتم بأمره ومتابعته، وتقصي حركاته، فتابع الإمام إلى بلخ والذي تمكن عاملها من تتبع الإمام وسجنه، وتقييده بالسلاسل إلى أن توفي هشام بن عبد الملك (125هـ) وتولى بعده الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك (125-126هـ)(1) فأمر بإطلاق سراحه خوف الفتنة، وحينها قدم إليه الشيعة يبايعونه، ويستنهضونه، وخرجوا إلى نيسابور التي جهز فيها نصر بن سيار جيشاً كبيراً لمقاتلته، وتمكن الإمام يحيى بن زيد مع أصحابه من الانتصار عليهم، والانتقال إلى بلخ، ثم إلى الجوزجان التي حوصر فيها بجيش كبير، وقاتل ثلاثة أيام بشجاعة ليفوز بعدها بعز
__________
(1) الوليد بن يزيد بن عبد الملك، قال عنه السيوطي في تاريخ الخلفاء (ص233): الخليفة الفاسق تولي بعد هشام بن عبد الملك، ونقم الناس عليه لمجاهرته بشرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيه، وقال عنه أخوه سليمان بن يزيد: بعداً له أشهد أنه كان شروباً للخمر، ماجناً فاسقاً، ولقد راودني على نفسي، وقال الذهبي بعد أن اشتهر عن الوليد الإلحاد والكفر بالله: لم يصح عن الوليد الكفر وإنما اشتهر بالخمر والتلوط، وللمزيد من تفاصيل فسقه انظر كتاب الأغاني للأصفهاني ج ص، فعلى أمثال هؤلاء خرج أئمة أهل البيت، ولتثبيت الملك لأمثال الوليد ومسخ شريعة الله وقتل أئمة أهل البيت نصب لهم العداء أشياع بني أمية إلى يومنا هذا.

1 / 8
ع
En
A+
A-