جمال ! فكلّ طريق فم ... يحيّي و أيد تبث الزهر
ترامت إليه القرى و الكهوف ... تولّي جموع و تأتي زمر
و هزّت إليه حشود الحسان ... مناديل من ضحكات القمر
ولاقته "صنعاء " لقيا الصغار ... أبا عاد تحت لواء الظفر
تلامسه ببنان اليقين ... و تغمس فيه ارتياب البصر
و تهمس في ضخب البشريّات ... أهذا هو القائد المنتظر ؟
أرى خلف بسمته " خالدا " ... و ألمح في وجنتيه " عمر "
و تدنو إليه تناغي المنى ... و تشتمّ في ناظريه الفكر
***
أهذا الذي وسعت نفسه ... هوى قومه و هموم البشر ؟
أطلّ فأومى انتظار الحقول ... و ماج الحصى و ارأبّ الحجر
و هنأت الربوة المنحنى ... و بشرت النسمة المنحدر
و أخبر " صرواح " عنه الجبال ... فأورق في كلّ نجم خبر
و أشرق في كلّ صخر مصيف ... يعنقد في كلّ جوّ ثمر
***
و أعلنت زنود الربى وحده ... سماويّة الأمّ طهر الأب
نمتها المروءات في " مأرب " ... و أرضعها الوحي في " يثرب "
و غنى على صدرها شاعر ... و صلّى على منكبيها نبي
وردّدها الشرق أغرودة ... فعبّ صداها فم المغرب
***
و دارت بها الشمس من موسم ... سخيّ إلى موسم أطيب
إلى أن غرتها سيول التتار ... ورنّحها العاصف الأجنبي
تهاوت وراء ضجيج الفراغ ... تفتّش عن أهلها الغيّب
و تبحث عن دارها في الطيوف ... و تستنبيء اللّيل عن كوكب
و تحلم أجفانها بالكرى ... فتخفق كالطائر المتعب
هناك جثث في اشتياق المعاد ... تحدّق كالموثق المغضب
فتلحظ خلف امتداد السنين ... على زرقة " النيل " وعدا صبي
تمرّ عليه خيالات " مصر " ... مرور الغواني على الأعزب
رأت فمه برعما لا يبوح ... و نسيان في قلبه مختبي
و كان انتظارا فحنّت إليه ... حنين الوليد إلى المرضعة
و دارت نجوم و عادت نجوم ... و أهدابها ترتجي مطلعة
و كانت تواعدها الأمسيات ... كما تعد البيدر المزرعة
و لاقته يوما و كان اسمه ... " جمالا " فلاقت صباها معه
***
هنا لاقت الوحدة ابنا يسير ... فتمشي الدنا خلفه طيّعه
و مهدا صبورا سقاها النضال ... فأهدت إلى المعتدي مصرعة
غذاها دم " النيل " خصب البقاء ... و لقّنها الفكرة المبدعة
و علّمها من عطايا حشاه ... و كفّيه أن تبذل المنفعة
و من جوّه رفرفات الحمام ... و من رمله طفرة الزّوبعه
و قطّرها في خدود النجوم ... صلاة و أغنية ممتعو
و أطلع للعرب أقباسها ... شموسا بصحو المنى مشبعة
هناك أفقنا على وحدة ... يمدّ الخلود لها أذرعة
فصارت مبادئنا في السلام ... و ألوية النصر في المعمعه
فاتحة
يا صمت ما أحناك لو تستطيع ... تلفنّي ، أو أنني أستطيع
لكن شيئا داخلي يلتظي ... فيخفق الثلج ، ويظمى الربيع
يبكي ، يغنّي ، يحتذي سامعا ... وهو المغنّي والصدى والسميع
يهذي فيجثو الليل في أضلعي ... يشوي هزيعا ، أو يدمّي هزيع
وتطبخ الشهب رماد الضحى ... وتطحن الريح عشايا الصّقيع
ويلهث الصبح كمهجورة ... يحتاج نهديها خيال الضجيع
***
شيء يناغي ، داخلي يشتهي ... يزقو ، يدوّي ، كالزحام الفضيع
يدعو ، كما يدعو نبيّ ، بلا ... وعي ، وينجرّ انجرار الخليع
فيغتلي خلف ذبولي فتى ... ويجتدي شيخ ، ويبكي رضيع
يجوع حتى الصيف ينسى الندى ... ميعاده ، بهمي شهيق النجيع
ويركض الوادي ، وتحبو الربى ... ويهرب المرعى ، ويعيى القطيع
ما ذلك الحمل الذي يحتسي ... خفقي ، ويعصي ذا هلا أو يطيع
يشدو فترتدّ ليالي الصبا ... فجرا عنيدا ، أو أصيلا وديع
وتحبل الأطياف تجني الرؤى ... ويولد الآتي ويحيا الصريع
فتبتدى الأشتات في أحرفي ... ولادة فرحى ، وحملا وجيع
***
هذه الحروف الضائعات المدى ... ضيّعت فيها العمر ، كي لا تضيع
ولست فيما جثته تاجرا ... أحسّ ما أشري وماذا أبيع
اليكها يا قارتي إنها ، ... على مآسيها : عذاب بديع
مدينة الغد
من دهور … وأنت سحر العباره ... وانتظار المنى وحلم الإشارة
كنت بنت الغيوب داهرا فنمّت ... عن تجليّك حشرجات الحضاره
وتداعي عصر يموت ليحيا ... أو ليفنى ، ولا يحس انتحاره
جانحاه في منتهى كل نجم ... وهواه ، في كل سوق : تجاره
باع فيه تألّه الأرض دعواه ... وباعت فيه الصلاة الطهاره
أو ما تلمحينه كيف يعدو ... يطحن الريح والشظايا المثاره
نمّ عن فجرك الحنون ضجيج ... ذا هل يلتظي ويمتصّ ناره
عالم كالدّجاج ، يعلو ويهوي ... يلقط الحب ، من بطون القذاره
ضيّع القلب ، واستحال جذوعا ... وترتدي آدمية … مستعاره
***
كل شيء وشى بميلادك الموعود ... واشتمّ دفئه واخضراره
بشّرت قرية بلقياك أخرى ... وحكت عنك نجمة لمناره
وهذت باسمك الرؤى فتنادت ... صيحات الديوك من كل قاره
المدى يستحمّ في وعد عينيك ... وينسى في شاطئيه انتظاره
وجباه الذّرى مرايا تجلّت ... من ثريّات مقلتيك شراره
***
ذات يوم ، ستشرقين بلا وعد ... تعيدين للهيثم النّضاره
تزرعين الحنان في كل واد ... وطريق ، في كل سوق وحاره
في مدى كل شرفة ، في تمنّي ... كلّ جار ، وفي هوى كل جاره
في الروابي حتى يعي كلّ تلّ ... ضجر الكهف واصطبار المغاره
سوف تأتين كالنبؤات ، كالأمطار ... كالصيّف ، كانثيال الغضاره
تملئين الوجود عدلا رخيّا ... بعد جور مدجّج بالحقاره
تحشدين الصفاء في كل لمس ... وعلى كل نظرة ، وافتراره
تلمسين المجندلين فيعيدون ... تعيدين للبغايا البكاره
وتصوغين عالما الماتثمر الكثبان فيه، ... ترف حتى الحجاره
وتعفّ الذئاب فيه ، وينسى ... جبروت السلاح ، فيه المهاره
العشايا فيه ، عيون كسالى ... واعدات ، والشمس أشهى حراره
لخطاه عبير ((نيسان)) أو أشذى ... لتحديقه ، أجدّ إناره
ولألحانه ، شفاه صبايا ... وعيون ، تخضّر فيها الإثاره
أي دنيا ستبدعين جناها ... وصباها فوق احتمال العياره ؟!
عائد
من أنت ، واستبقت جوابي ... لهب ، يحنّ إلي التهاب
من أنت ، عزّاف الأسى ... والنار قيثار العذاب
وعلى جبينك ، قصّة ... حيرى ، كديجور اليباب
وخواطر ، كهواجس الإفلاس ، ... في قلق المرابي
وأنا أتدري : من أنا ؟ ... قل لي ، وأسكرها اضطرابي
سل تمتمات العطر : هل ... ((نيسان)) يمرح في ثيابي؟
من هذه ؟ أسطورة الأحلام ، ... أخيلة الشهاب
همساتها ، الخضر الرّقاق ... أشفّ من ومض السراب
إني عرفتك كيف أفرح ؟ ... كيف أذهل عن رغابي؟
من أين أبتدىء الحديث …؟ ... وغبت في صمت ارتيابي
ماذا أقول ، وهل أفتّش ... عن فمي ، أو عن صوابي ؟
من أنت ، أشواق الضحى ... قبل الأصيل ، على الهضاب
حلم المواسم ، والبلابل ... والنسّيمات الرطاب
اغرودة الوادي ، نبوع العندليب … ... شذى الروابي
وذهول فنّان الهوى ... ورؤى الصّبا وهوى التصابي
وهج الأغاني ، والصدى ... حرق المعازف ، والرّباب
لا تبعدي : أرست على شطآنك ... النعسى ، ركابي
فدنت تسائل من رفاقي ... في الضياع ؟ ومن صحابي ..؟
هل سآءلتك مدينة ... عنّي ؟ وسهّدها واكتئابي
فتقول لي : من أنت ؟ ... وتزدريني ، بالتغابي
أنا من مغاني شهرزاد ... إلى ربى ، الصحو انتسابي
بي من ذوائب (حدّة) ... عبق السماحة والغلاب
وهنا أصخت ووشوشات ( القات) تنبي باقترابي
وأظلّنا جبل ذراه ... كالعمالقة الغضاب
عيناه متكأ النجوم ... ودبله ، طرق الذئاب
فهفت إليّ مزارع ... كمباسم الغيد الكعاب
وحنت نهود الكرم ... فاسترخت للمسي واحتلابي
وسألت (ريّا) والسكون ... ينثّ وهوهة الكلاب
ماذا ؟ أينكر حيّنا ... خفقات خطوي وانسيابي؟
إنّا تلاقينا … هنا ، ... قبل انتظارك… واغترابي
هل تلمحين الذكريات ... تهزّ اضلاع التراب؟
وطيوف مأساة الفرا، ... ق تعيد نوحك وانتحابي
والأمس يرمقنا وفي ، ... نظراته خجل المناب
كيف اعتنقنا للوداع ... وبي من اللهفات ما بي ؟!
وهفت لا تتوجعي : ... سأعود ، فارتقبي … إيابي !
ورحلت وحدي ، والطريق ... دم ، وغاب ، من حراب
فنزلت حيث دم الهوى ... يجترّ ، أجنحة الذّباب
حيث البهارج والحلى ... سلوى القشور عن اللّباب
فلمين ألوان الطّلاء ... على الصّدوع ، على الحرب
التسليات ، بلا حساب ... والملال ، بلا حساب
والجوّ محموم ، يئن ... وراء جدران الضباب
كم كنت أبحث عن طلابي ... حيث ضيّعني طلابي
واليوم عدت ، وعاد لي ... مرح الحكاياتالعذاب
ما زلت أذكر كيف كنّا ... لا ننافق ، أو نحابي
نفضي بأسرار الغرام ... إلى المهبّات الرّحاب
والريح تغزل من زهور (البن ) ، أغنية العتاب
فتهزّنا أرجوحة ... من خمرة الشفق المذاب
وكما تنآئينا التقينا ... نبتدي صفو الشباب
ونعيد تأريخ الصّبا ... والحبّ ، من بدء الكتاب
أترين : كيف اخضوضرت ... للقائنا مقل الشعاب ؟
وتلفّت الوادي إليك ... وهشّ ، يسأل عن غيابي
ما دمت لي فكسو يخنا ... قصر ، يعوم على السحاب
والشهب بعض نوافذي ... والشمس ، شبّاكي وبابي
امرأة الفقيد
لم لا تعود ؟ وعاد كل مجاهد ... يحلى (( النقيب )) أو انتفاخ ((الرائد))
ورجعت أنت ، توقعا لملمته ... من نبض طيفك واخضرار مواعيدي
وعلى التصاقك باحتمالي أقلقت ... عيناي مضطجع الطريق الهامد
وامتدّ فصل في انتظارك وابتدا ... فصل ، تلفّح بالدخان الحاقد
وتمطّت الربوات تبصق عمرها ... دمها وتحفر عن شتاء بائد
وغداة يوم ، عاد آخر موكب ... فشممت خطزك في الزحام الراعد
وجمعت شخصك بنية وملا محا ... من كل وجه في اللقاء الحاشد
حتى اقتربت وأمّ كلّ بيته ... فتّشت عنك بلا احتمال واعد
***
من ذا رآك وأين أنت ؟ ولا صدى أو مي اليك ، ولا اجابة عائد
والي انتظار البيت ، عدت كطائر ... قلق ينوء على جناح واحد
***
لا تنطقي يا شمس : غابات الدجى ... يأكلن وجهي يبتلعن مراقدي
وسهدت والجدران تصغي مثلما ... أصغي ، وتسعل كالجريح الساهد
والسقف يسأل وجنتيّ لمن هما ؟ ... ولمن فمي ؟ وغرور صدري الناهد؟
ومغازل الأمطار تعجن شارعا ... لزجا حصاه من النحيع الجامد
وأنا أصيخ إلى خطاك أحسّها ... تدنو ، وتبعد ، كالخيال الشارد
ويقول لي شيء ، بأنك لم تعد ... فأعود من همس الرجيم المارد
***
أتعود لي ؟ من لي ؟ أتدري أنني ... أدعوك إنك مقلتاي وساعدي
إني هنا أحكي لطيفك قصّتي ... فيعي ، ويلهث كالذبال النافد
خلّفتني وحدي ، وخلّفني أبي ... وشقيقتي ، للمأتم المتزايد
وفقدت أمّي : آه يا أمّ افتحي ... عينيك ، والتفتي إليّ وشاهدي!
وقبرت أهلي ، فالمقابر وحدها ... أهلي ، ووالدتي الحنون ووالدي
وذهلت أنت أو ارتميت ضحيّة ... وبقيت وحدي ، للفراغ البارد
***
أتعود لي ؟ فيعبّ ليلي ظلّه ... ويصيح في الآفاق . أين فراقدي؟
اليوم الجنين
على الدرب والمرتع ... يجود ، ولا يدّعي
يوشّي غناء الحقول ... وأنشودة المصنع
ويعطي حياة .. بلا ... نيوب ولا مصرع
يشد أبضّ الخصور ... إلى أعطش الأذرع
ويسخو سخاء المصيف ... على الطير والضّفدع
على السفح والمنحنى ... على السهل والأرفع
أتشتمّ أنفاسه ... طيوف الربى الهجّع
هناك رؤى مهده ... نبيذيّه المنبع
حمام من الأغنيات ... على جدول ممرغ
مرايا هوائية ... سرابية المخدع
وغيب وراء القناع ... ووعد بلا برقع
هناك انتظار يحسّ ... خطاه وحلم يعي
ودفء صريع يحن ... إلى لمسه المبدع
وواد يصيخ إلى ... تباشيره اللّمع
فأحلم أن الجنين ... وليد بلا مرضع
فألوي زنود الحنان ... على خصره الطيّع
ويحبو على ساعديّ ... فأرضعه أدمعي
وينأى ، فترنوا الكوى ... يفتّشن عنه معي
ويرتد ، حلم مضى ... ويمضي ، بلا مرجع
وتحتشد الأمسيات ... على العامر البلقع
فأرجوه أن يشرئب ... إلى شرفة المطلع
أمدّ له سلمّا ... إلى النور من أضلعي
وأشدو لميلاده ... ويصغي بلا مسمع
فأبكيه في مقطع ... وألقاه في مقطع
أسمار القرية
من صدى البيد ، والشعاب الحواشد ... بالمهاوي والضاربات السواهد
من مدى الموت حين تحمرّ فيها ... شهوة الدود والقبور الزوارد
من لياليه حين مس( عليا) ... ليلة العرس أنه شرّ وافد
أو أتى مرشدا فأومى إليه ... صاحباه أن الضحيّة راشد
من صخور جلودهن حراب ... وكهوف عيونهن مواقد
حيث للريح والتلال عروق ... من أفاع من سواعد
وعلى المنحنى تمدّ ((صياد)) ... للأذلاء حائطا من أساود
ولها حافرا حمار وتبدو ... مرأة ، قد تزوجت ألف مارد
من ركوب السّرى على كل قفر ... لم ترده حتى خيالات رائد
والليالي على اكف العفاريت ... نعوش ، ذوا هب وعوائد
من قوى البأس قصة تلو أخرى ... تصرع الوحش قبل نهضة قاعد
من سؤال عن الحجاز وردّ ... عن غلاء الكساء و((التبن)) كاسد
من خصام بين الأقارب في الوادي، ... وحرب في التلّ بين الأباعد
من تثني المراتع الخضر تومي ... بالأغاني للراعيات النواهد
من متاه الظنون تستجمع الأسمار، ... شعث الرؤى وفوضى المشاهد
بين جدرانها ركام الحكايا ... من جديد القرى وأكفان تالد
وتجاعيد الشعوذات عليها ... كرفاة تقيأتها الوراقد
وعلى كل بوحها وصداها ... تتنادى زواحف ورواكد
تجمع القرية الشتات فتحوي ... أمسيات من عاصفات الفدافد
وسيولا من الفراغ المدوّي ... أسهلت فوقها بطون الروافد
وغناء كخفق بيت من القش ... تعاوت فيه الريّاح الشدائد
وبخورا وشاديا من جليد ... ونداء : كم في الصلاة فوائد
يحشر السّمّر الضجيع عليها ... من شظايا نعش السنين البوائد
***
يتلاقيان كلّما حشرج الطبل ... وأعلى الدخان ريح الموائد
فيقصّون كيف طار ( بن علوان) ... وماذا حكى ( علي بن زائد) ؟
عن مدار النجوم وهي وعيد ... عن فم الغيب أو بريق المواعد
عندما تسبل الثريّا عشاء ... عقدها تحبل السحاب الخرائد
وإذا الغرب واجه الصيف بالأرياح ... باعت عيالها ( أمّ قائد)
ويعودون يغزلون من الرمل ، ... ودود البلى ، علاوق المحامد
فيلوكون معجزات (فقيه) ... يحشد الجنّ والظلام يشاهد
ومزايا قوم يصلّون في الظهر ... وفي الليّل بسرقون المساجد
وحكايا تطول عن بائعات الخبز ... كم في حديثهن مكايد
عن بنات القصور يقطرن طيبا ... كرواب من الورود الفرايد
أو كصيف أجاد نضج العطايا ... أو ربيع في البرعم الطفل واعد
شعرهن انثيال فجر خجول ... ظلّه في عيونهن مراود
كلّهن استمحنهم فتأبّت ... حكمة الطين فيهم أن تساعد
ويتوبون يستعذبون بالله ... لأن الإناث نبع المفاسد
ويودّون لو يعود زمان ... كان ثرّ الجنى عميم الموارد
ويسبّون حجة طوت الزاد ... فلاك الفراغ جوع المزاود
وتناءت أسمارهم وتدانت ... مثلما تختفي الرؤى وتعاود
والتقو ليلة عجوزا توارت ... في أخاديدها النجوم الخوامد
فابتدوا ثرثراتهم وأعادوا ... ما ابتدوا من رواسب وزوائد
وعلى صمتهم تهيأ شيخ ... مثلما تخفق الطيوف الشوارد
فحكى قصة تململ فيها ... كل حرف ، كأنه قلب حاقد
وتعالى فيها النجح بالثأر ... فهاجت مستنقعات العوائد
وتنادوا .. لبّيك يا عم هيّا ... كلنا سائرون لا عاد واحد
انها ساعة اليهم فكرّوا ... عميت عنكمو العيون الحواسد
واشرابت بيوتهم تلمح الشهب ... دما في ملامح الأفق جامد
وتعايا فيها النعاس تعابي ... طائر موثق الجناحين بارد
ومع الفجر ساءل السفح عنهم ... جدولا ، في ترقب الفجر ساهد
فرآه يهفو ، يمد ذراعيه ... ويومي لها بأهداب عابد
وارتمى يحتسي عبير خطاها ... ويعاني وخز الحصى ويكابد
ودنت فالتوى على صبح ساقيها ... يناغي ويجتدي ويراود
من أتته ؟ فلاحة مشطها الشّمس ... عليها من الشروق قلائد
وقميص من النّدى ماج فيه ... موسم ، نابض الأفانين مائد
وانثنت مثلما يميس عمود ... زنبقي تشتمّ أخبار (قائد)
وعلى فجأة تلقت خطاها ... من غبار الصدى ، غيوم رواعد
أي شيء جرى ؟ وتصغي وتعدو ... وتداري ، نشيجها فيعاند
وترامت مناحة القرية الثكلى ... كما يزخر انفجار الجلامد
ودنت من ترى ؟ أبا طفلتيها ... وهو جذع من الجراحات هامد
وعجوزا تبكي وحيدا وأطفالا ... كزغب الحمام يبكون والد
وجريحا يصيح أين يدايا ؟ ... أين رجلايا ؟ هنّ ما كنت واجد
وشقيقاته يمتن النياعا ... ويهن له القلوب ضمائد
يرتمي يرتمين يجثو فينصبن ... له من صدورهن وسائد
وعواء النجيع في السّاح يدوي ... يذهب الحاقدون والحقد خالد
أحمق الحمق أن تصير الكرهات ... تراثا ، أو يستحلن عقائد
وعلى إثر من مضواعات الأسمار ... تحيا على أصول القواعد
وتباهي : أردوا صغيرين منّا ... وقتلنا منهم ثلاثين ماجد
وتعيد الذي اعادت دهورا ... من صدى البيد الشعاب الحواشد
شعب على سفينة
كهودج من الضباب ... من الطيوف ، والسراب
تزفّه سفينة ... من الضياع والتراب
ومن تخيّل الغنى ... ومن تلهّف الرغاب
ومن حكايا العائدين ... بالحقائب العجاب
المتخمات بالحلى ... وبالعطور والثياب
وبالجيوب تحتوي ... دراهما ، بلا حساب
لمّا أتوا تلفّتت ... حتى القصور والقباب
حتى السهوب والقرى ... حتى الكهوف والشعاب
وكل صخر عندنا ... وكل شارع وباب
ورغم خوفه مضى ... من غربة إلى اغتراب
حشاه ملجأ الطوى ... عيناه مرفأ الذّباب
على الفراغ يبتدي ... وينتهي دجى العذاب
و(مأرب) تساؤل ... متى يعود ؟ وارتقاب
و(وحدة) مخاوف ... وموعد على ارتياب
أينثني ؟ فينثني ... الى المزارع الشباب
ومقلنا (سمارة) ... جوى ( وميتم) عتاب
يعي لهاث ربوة ... إلى محاجر الشهاب
تهز نهدها إلى ... مسافر بلا إياب
تحطّه جزيرة ... ويرتمي به عباب
مسافر أضنى السّرى ... وراع غيهب الذئاب
وأفلق الحصى ، بلا ... مدى ، وأجهد الهضاب
من قارة لقارة ... يجوب أرحب الرحاب
وهو على عيونها ... تساؤل ، بلا جواب
فينحني ويبتني ... لها نواطح السحاب
يضيئها ولا يرى يشيدها، وهو الحراب
يعيش عمره على أرجوحة ، من الحراب
أيامه سفينة جنائزية الذهاب
تزفّه الى النوى كهودج من الضباب
الشهيدة
كرجوع السنى لعيني كفيف ... بغتة كاخضرار نعش جفيف
وكما مدّت الحياة يديها ... لغريق ، على المنيّة موفي
وكما ينثني إلى خفق شيخ ... عنفوان الصّبا الطليق الخفيف
رجعت فجأة رجوع وحيد ... بد شك إلى أبيه اللهيف
كابدت دربها الى العودة الجذلى ... وأدمت شوط الصراع الشريف
حدّقت من ترى ومن ذا تنادي ؟ ... أين تمضي : إلى الفراغ المخيف؟
وأرتها خوالج الذعر وجها ... بربريّا ، كباب سجن كثيف
وجذوعا ، لها وجوه ، وأذقان ... وإطراقة الحمار العليف
فتنادت فيها الظنون وأصغت ... لحفيف الصّدى ووهم الحفيف
وكما يرتمي على قلق السّمع ... هدوء بعد الضجيج العنيف
سرّحت لمحة ، فطالعها شيء ... كأيماءة السراج الضعيف
كان بعطي حياته للحيارى ... وعلى وجهه اعتذار الأسيف
فأحسّت هناك حيّا مهيضا ... يتلوّى تحت الشتاء الشفيف
قرى ، بعن عمرهن على أدنى ... الخصومات والهراء السخيف
واشرأبت ثقوبهن الى الريح ... يسائلن : عن شميم الرغيف
فدنت تنظر الحياة عليهنّ ... بقايا من الغثاء الطفيف
والدوالي هناك أشلاء قتلى ... جمدت حولها ، بقايا النزيف
وتجلّت أما تجعّد فيها ... عرق الصيف وارتعاش الخريف
سألتها عن اسمها فتبدّى ... من أخاديدها حنان الأليف
واستدارت تقص : إن أباها ... من (زبيد) وامهّا من (ثقيف)
فأعادت لها الربيع فماست ... في شبابين تالد وطريف
نزلت ضيفة الحنان فكانت ... لديار الضياع ، أسخى مضيف
نزلت في مواكب من شروق ... وحشود من اخضرار الرّفيف
في إطار من انتظار العصافير ... ومن لهفة الصباح الكفيف
وتهادت على الرّبى فتلظّى ... في عروق الثلوج ،دفء الصيف
وأجادت من الفراغ وجودها ... وجبالها ، من الشموخ المنيف
رجعت فانثنى اصفرار التوابيت ... الى خضرة الشباب الوريف
إبن السبيل
سار والدرب ركام من غباء ... كل شبر فيه شيطان بدائي
كان يرتد ويمضي مثلما ... تخبط الريح ، مضيقا من عناء
بين جنبيه ، جريح هارب ... من يد الموت ، ومسلول فدائي
يصلب الخطو على ذعر الحصى ... وعلى جذع مديد من شقاء
وعلى منعطف أو شارع ... من دم الذكرى وأنقاض الرجاء
من يعي يسأله : أين أنا؟ ... ضاع قدامي ، كما ضاع ورائي
والى لا منتهى هذا السرى ... في المتاهات ، ومن غير ابتداء
انني أخطو على شلوى وفي ... وهوهات الريح ، أشتم دمائي
من يؤاويني ؟ ايصغي منزل ... لو أنادي ، أو يعي أي خباء ؟