ما الفائدة في ذكر ذلك. وجوابنا ان التعبد فيما يحرر من الحمل في الذكر يخالف التعبد في الانثى فلذلك قال (وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) فبين حكم الانثى وبين انه مخالف لحكم الذكر.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) كيف يجوز ذلك وليست نبية والمعجزات لا تظهر الا على الانبياء. فان قلتم ظهر على زكريا فكيف يصح أن يسألها فنقول هو من عند اللّه وعليه ظهر.
وجوابنا ان ذلك من معجزات زكريا فانما قال لها أنى لك هذا لا لأنه لم يعلم أن ذلك من معجزاته لكن ليعرف حالها وما تعتقده في ذلك، فلذلك قال تعالى (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) لأنه عرف منها اليقين فلما أعجبه ذلك سأل اللّه أن يرزقه ولدا فبشره اللّه بيحيى على ما نطق به الكتاب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) كيف يصح ذلك وقد كان هذا الخبر موجودا عند النصارى وغيرهم.
وجوابنا أنه صلّى اللّه عليه وسلم لم يخالطهم مخالطة يقف بها على تفصيل هذه الامور وكان كسائر العرب. فبيّن تعالى انه قد خصه بهذا الغيب ليعرف به صحة نبوته ولذلك قال (وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) فحكى تفصيل ما كان يجري في أمر مريم وذلك من أعظم معجزاته صلّى اللّه عليه وسلم وربما قيل في قوله (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ) كيف قالت الملائكة لها وليست بنبية. وجوابنا أنها قالت في زمن نبي وهو زكريا وذلك مما يجوز عندنا وعلى هذا الوجه يحمل ما روى أن جبريل عليه السلام ظهر في صورة دحية الكلبي بحيث يراه الناس.
تنزيه القرآن (5)

[مسألة]
وربما قيل ما معنى يبشرك بكلمة منه وما فائدة تسمية عيسى عليه السلام كلمة مع انه جسم والكلمة لا تكون الا عرضا. وجوابنا أن ذلك في وصف عيسى مجاز عندنا والمراد أنه يكون حجة ودلالة كالكلام وان كان في العلماء من يحمله على الحقيقة ويزعم أنه مخلوق من كلمة كن فهو اذا كلمة وربما جعلوه كلمة لا من جنس الكلام والذي قلناه أصوب.
[مسألة]
ويقال كيف يجوز أن يتكلم في المهد وذلك مخالف للعادة وكيف يقوى لسان الصبي على الكلام ويتكامل عقله. وجوابنا أنه من حيث خرج عن العادة صار معجزا وانما قواه اللّه على الكلام وأكمل عقله في ذلك الحال وجعل ذلك معجزة لشدة الحاجة في براءة ساحة امه عما كان يذكر عند ولادتها ولو تأخر ذلك لكان مفسدة ومتى ظهر ذلك منه وهو صغير كان أقوى في الباب والبالغ انما يكمل عقله وقوته بعد ذلك، فاللّه تعالى هو قادر على ذلك في حال الصغر وانما لا يفعل في غيره الا في حال الكبر للعادة والمصلحة.
فان للآباء مصالح في نشوء الاولاد على هذا الترتيب ولو لا ذلك لكان الصغير كالكبير في جواز كمال العقل ولذلك يختلف كمال العقل فهو في واحد اسرع منه في آخر.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ) لا يجوز ان يكون عيسى خالقا. وجوابنا انه من حيث اللغة كل من قدر فعله ضربا من التقدير يوصف بذلك وان كان من حيث الشرع لا يطلق فيه بل يقيد كمالا يقال ان فلانا رب دون أن يقيد بذكر داره وعبده (فان قيل) أ فكان يحيى الموتى كما أضافه اللّه تعالى إليه (قيل) له ليس كذلك لانه تعالى أضاف اليه خلق الطير من الطين ولم يضف اليه الاحياء بل قال وأحيي الموتى باذن اللّه فأضافه الى اللّه لما كان هو المحيي عند ادعائه النبوة وانما أضيف اليه من حيث كان هو السبب في ذلك. وجعل من معجزاته أيضا انه ينبئهم بما يأكلون وما

يدخرون في بيوتهم لان مثل ذلك لا يعرفه الغائب الا من جهة اللّه تعالى فلذلك قال (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ورافِعُكَ إِلَيَّ) كيف يصح مع أن اللّه لم يتوفه بل رفعه اللّه. وجوابنا ان العطف بالواو لا يوجب الترتيب فرفعه اللّه ثمّ توفاه وذلك جائز أيضا أن يكون توفاه من حيث لم يشعر به ثمّ رفعه فأعاد حياته وربما سألوا في ذلك عن قوله (وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وما الفائدة في ذلك. وجوابنا أن المراد يطهرك من أعمال الكفار ومن أحكامهم ومن الاضلال بهم على وجه يؤثر في حال النبوّة. وربما سئل أيضا عن قوله (وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فقيل ما معنى ذلك ومعلوم أن من اتبعه لا شك أنه فوق الكفار. وجوابنا ان المراد أنه جعلهم فوقهم في كثير من مصالح الدنيا لان ذلك هو يصح الاشتراك فيه دون ما يتصل بأمر الآخرة مما لا يصح الاشتراك فيه بين المسلم والكافر ولذلك قال (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا والْآخِرَةِ) فيقال انهم في الدنيا يتمتعون لا يلحقهم شيء من العذاب فكيف يصح. وجوابنا أن ذلك في الكفار المخصوصين في أيام عيسى عليه السلام فلا يمنع أن يلحقهم بعض عذاب الدنيا ولو لم يكن الا الذم واللعن والحدود لكان ذلك كافيا في عذاب الدنيا، والكفار في أيامنا قد يلحقهم العذاب من القتل والقتال ومن أخذ الجزية الى ما شاكله واختلفوا فقال بعضهم في أمراضهم أنها تجوز أن تكون عذابا وان كان في العلماء من يمنع ذلك.

[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) كيف يجوز ان يخلقه ثمّ يقول (كُنْ فَيَكُونُ) وقد تقدم خلقه له وذلك يتناقض. وجوابنا ان المراد خلق آدم من تراب ثمّ قال له كن حيّا وعلى سائر الصفات فالذي كونه من حياته وغيرها هو غير الذي خلقه من قبل. وكذلك القول في عيسى أنه خلق الصورة ثمّ قال له كن على هذا المثال هذا متى حمل قوله كن على الحقيقة فاما اذا أريد بذلك أنه كوّنه حيّا بعد ان خلق الشخص فلا تناقض في ذلك وانما بيّن تعالى بأنه مثل آدم أنه مخلوق لا من شيء متقدم يجري مجرى الاصل له كالنطفة والعلقة لتعرف قدرته على ابتدائه وليعلم اصحاب الطبائع بطلان قولهم فقد كان في ذلك الزمان فيهم كثرة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وأَبْناءَكُمْ) كيف ترفع محاجة النصارى في عيسى اذ قالوا انه اللّه وانه ابن اللّه ومحاجة اليهود إذ كذّبوا بولادته من غير ذكر بالمباهلة التي ذكرها اللّه. وجوابنا ان الحجة في ابطال قولهم اذا ظهرت ولم يقع القبول وعلم اللّه تعالى ان في المباهلة مصلحة لم يمنع ذلك ومعلوم ان عند المباهلة والملاعنة يخاف المبطل فربما يكون ذلك من اسباب تركه الباطل إما ظاهرا واما باطنا ولذلك قال تعالى بعده (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) لان ما ينذر ويخوف يوصف بذلك ثمّ قال (وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ) دفعا لقول النصارى في باب التثليث ثمّ قال (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) ثمّ قال تعالى (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً) دفعا لقول النصارى ثمّ قال (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) ثمّ بيّن بطلان قولهم ان ابراهيم كان على ملتهم بقوله (لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ

وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ والْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ) وبيّن بقوله (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) ان المقلد والمبطل في المحاجة مخطئ لانه يحاج فيما لا علم له به وبعث بذلك على النظر في الأدلة لأن هذا الناظر العالم هو الذي اذا حاج غيره يكون محاجا فيما له به علم.
وبيّن ان أولى الناس بابراهيم من اتبعه ونبينا صلّى اللّه عليه وسلم لأنه على ملته في الحج وغيره وأنما وصف ابراهيم بأنه كان حنيفا مسلما لأنه كان على هذه الملة وان كان في شريعة نبينا صلّى اللّه عليه وسلم زيادات وتفصيلات وفي قوله بعد ذلك (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) دلالة على ان اللّه تعالى لا يضل عباده ولا يخلق الضلال والكفر فيهم لانه لو كان كذلك لما نسب الاضلال الى أهل الكتاب ولما نسب اضلالهم الى أنفسهم.
[مسألة]
ويقال كيف قال تعالى (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ) ثمّ قال (وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) كيف يكونون كفارا بما يشهدون. وجوابنا أن المراد انهم يكفرون بالآيات وهم يعرفونها ويشاهدونها فينصرفون عن النظر فيها ويتبعون الشبهة والتقليد ولذلك قال بعده (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) ولا يمتنع انه كان فيهم من يعرف الحق في نبوّة نبينا صلّى اللّه عليه وسلم ويعاند فقد كان فيهم من علم البشارة بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم في الكتب وكانوا يلبسون ذلك على العامة ثمّ ذكر بعده (إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ) يعني الالطاف وانه يخص بذلك من يشاء فمن المعلوم أنه عند ذلك يختار الايمان. ثمّ بين تعالى بقوله (وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وما هُوَ مِنَ الْكِتابِ ويَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ان ليهم ألسنتهم بذلك من فعلهم لا من خلق اللّه فيهم ولو كان من حق من ينسب ذلك اليه هو اللّه تعالى لوجب أن يقال هو من عند اللّه ولما صح أن يقول تعالى (وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) ونزّه تعالى عيسى عن قول النصارى لقوله (وَ ما كانَ لِبَشَرٍ)

(أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ والْحُكْمَ والنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ) فان أكثر النصارى يقولون بعبادة عيسى صلّى اللّه عليه وسلم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله (أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ ولَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ طَوْعاً وكَرْهاً) كيف يصح ذلك وقوله (أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ) يدل على نفي الاسلام عنهم وقوله (وَ لَهُ أَسْلَمَ) يدل على اثبات الاسلام وهذا يتناقض. وجوابنا ان المراد بقوله (وَ لَهُ أَسْلَمَ) الاستسلام والانقياد وليس المراد اختيار الدين والاسلام فبين تعالى انه قادر على أن يجعلهم كذلك لكنه لا ينفعهم الا اذا اتبعوه اختيارا فلذلك قال طوعا وكرها وأمر نبيه صلّى اللّه عليه وسلم أن يقول (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ) الى قوله (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) فبين انه قد آمن ومع ذلك هو مسلم أي منقاد للّه تعالى على وجه الاختيار وان هذا هو الذى ينفع، وبيّن بقوله (وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) ان الدين كله هو الاسلام والاسلام هو الدين وان ما عدا ذلك ليس من الدين والاسلام وبيّن أن من ليس بمسلم من الخاسرين في الآخرة.
[مسألة]
وربما قيل كيف يقول تعالى (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) وعندكم أن اللّه قد هدى الكافرين. وجوابنا انه قد هداهم بالأدلة والمراد بهذا الهدى هو الثواب وطريق الثواب ولذلك قال بعده (وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) فخصهم بنفي الهدى عنهم ثمّ بين ما نفاه عنهم بقوله (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ والْمَلائِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) فبين انه لم يهدهم الى الجنة بل عاقبهم بهذه العقوبة.

[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) وكيف يجوز أن يتوبوا فلا تقبل توبتهم مع بقاء التكليف. وجوابنا أنه لم يذكر متى تابوا فيحتمل انهم كفروا ثمّ تابوا وأرادوا الكفر ومن ازداد كفرا فتوبته المتقدمة لا تؤثر لانه قد أفسدها بزيادة الكفر، ولذلك قال بعده (وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) وهذا خبر عن قوم مخصوصين كان هذا حالهم فلا يمكن أن يقال ان توبة كل كافر لا تقبل ويحتمل أن توبتهم عند المعاقبة لا تقبل وقد روى أيضا أن الآية نزلت في قوم ارتدوا وقالوا ما نقيم أقمنا على ارتداد فاذا حصلنا عند أهلنا أظهرنا التوبة لتقبل ذلك منا فمن يظهر التوبة وباطنه بخلاف ذلك لا تقبل توبته ومعنى قوله ثمّ ازدادوا كفرا انهم جحدوا بنبوّة محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله تعالى (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وقد ينفق المرء ما لا يحبه ويعد في البر. وجوابنا ان كل ما يخرجه المرء من وجوه البر لا بد من أن يحبه المرء ويريد الانتفاع به ولو لا ذلك لم يستحق الثواب عليه، ويحتمل أن يريد تعالى ترغيب المرء في أن لا يتصدق الا بأحب الأموال وأنفسها كما قال تعالى (وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) ولذلك قال بعده (وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيجازي بحسب ذلك.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) والتحريم يكون من قبل اللّه تعالى لا من قبل الانبياء. وجوابنا انه لا يمتنع في شريعته أن يحرم على نفسه الشيء فيحرم، كما ان في شريعتنا أن نوجب على أنفسنا أشياء بالنذر فتجب، فهذا أقرب ما يتأول عليه وذلك لأن سبب التحريم والإيجاب من قبل العبد وان كان اللّه تعالى أوجب ذلك وهذا كما اذا أحرم المرء لزمه من المناسك ما كان لا يلزمه لو لا احرامه وذلك كثير في العبادات.

[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وهُدىً لِلْعالَمِينَ) ومعلوم ان قبله كانت الدنيا والمنازل. وجوابنا ان معنى قوله (وُضِعَ لِلنَّاسِ) ليعبد اللّه عنده فهو أول بيت وضع لذلك ولذلك قال (وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ) في وصفه ولذلك قال بعده (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ ومَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) ولذلك قال بعده (وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) وهذا من أقوى ما يدل على ان الانسان قادر قبل أن يحج وقبل دخوله في الحج بخلاف قول المجبرة والقدرية.
[مسألة]
وربما قيل فلما ذا قال (وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) وما المراد بذلك وما الفائدة في أنه غني عنهم اذا كفروا وهذه صفتهم لو آمنوا أيضا. وجوابنا ان المراد ومن كفر بأن جحد وجوب الحج وقصد هذا البيت وبين بقوله (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) ان ما لزمهم عند هذا البيت انما أوجبه لمصالحهم لئلا يقدر أنه تعالى يوجب لا لهذا الوجه فلذلك أطلق قوله بأنه غني عن كل العالمين وقد روى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ان المسجد الحرام أول مسجد وضع ثمّ المسجد الأقصى وروي أن اليهود فضلت بيت المقدس على الكعبة وفضل المسلمون الكعبة فنزلت هذه الآية تصديقا لقول المسلمين.
[مسألة]
ويقال ما معنى قوله (وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وفِيكُمْ رَسُولُهُ) ومعلوم ان هذين الامرين قد كفر بهما الخلق وهما لا يوجبان ايمان المكلفين فما الفائدة في ذلك.
فجوابنا ان قوله (كَيْفَ تَكْفُرُونَ) هو على التوبيخ والذم لهم من حيث كفروا مع ظهور آيات اللّه وظهور أمر الرسول مع ان ذلك يوجب الايمان ايجابا وانما يقتضي أن يختار المرء للايمان وقد ظهرا واتضحا ولذلك قال بعده

(وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) والمراد من يعتصم بكتابه وبرسله فيعمل بما يقتضيان العمل به (فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ومن لم يفعل فقد ضل وكفر.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ) انه يدل على لزوم التقوى فوق استطاعته فقد روى عن بعض من لا يحصل انه منسوخ بقوله (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ). وجوابنا ان حق تقاته لا يكون الا ما يستطيعون لانه تعالى لا يكلف نفسا الا وسعها فلا اختلاف بين الآيتين ولذلك قال (وَ لا تَمُوتُنَّ) فان من حق تقاته ان يتمنى المرء حتى يموت مسلما ولذلك قال بعده (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً) فدعا الى الاجتماع أيضا وعلى التقوى وترك الاختلاف فيه ولذلك قال بعده (وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) فان من أعظم نعم اللّه زوال التحاسد والتباغض والتنافس عن القوم ولهذا أقوى أمر الرسول صلّى اللّه عليه وسلم لما انقادوا له على عظم محلهم وكان من قبل لا ينقاد بعضهم لبعض وحبل اللّه هو دينه وشرعه والتمسك بكتابه وسنة رسوله ولذلك قال (وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) ولذلك قال (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) والمراد لكي تهتدوا فدل بذلك على انه أراد الاهتداء من جميعهم وقوله تعالى بعده (وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) يدل على انه أوجب على طائفة ممن يهتدون بالآيات أن يدعوا الى الخير ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وانهم المفلحون وهم العلماء الذين يدعون الى اللّه ولذلك قال صلّى اللّه عليه وسلم، العلماء أمناء الرسول على عباد اللّه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) فيقال أ فما يدل ذلك على

ان ليس في المكلفين الا كافر ومؤمن بخلاف قولكم ان بينهما فاسقا لا يوصف بأنه مؤمن ولا كافر. فجوابنا ان ذلك ان دل على ما قلت فيجب أن يدل على أن ليس فيهم الا كافر مرتد لقوله (أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) وقد ثبت خلاف ذلك واذا جاز اثبات كافر أصلي لم يذكره تعالى جاز اثبات فاسق لم يذكره تعالى ومعلوم ان الموحد المصدق باللّه ورسوله اذا أقدم على شرب الخمر والسرقة والزنا لا يوصف بأنه مؤمن مطلقا لأن المؤمن هو الذي يمدح ويعظم وهؤلاء يلعنون. ولا يوصف بأنه كافر لأن الكافر هو الذي يختص بأحكام من قبله وغيره وليس في اثبات وصفين دلالة على نفي ثالث واتبعه تعالى بقوله (تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ومَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) فبين انه لا يريد الا الحق ونزّه نفسه عن ارادة الظلم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) كيف يصح ذلك وفي جملة أمته الفساق ومن يفسد في الأرض ومن هذا حاله لا يوصف بهذا الوصف. وجوابنا ان ذلك اشارة الى أمة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم في أيامه والمراد ان الخيار فيهم أكثر والتفاضل اذا كان في جميع لا يراد به كل عين فمتى قيل ان أهل بلد أصلح من أهل بلد آخر لا يراد به ذكر كل واحد بل المراد ما يرجع الى جماعتهم من كثرة خيارهن وبيّن ذلك بقوله (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) وذلك لا يرجع الى كل واحد. وقد قيل أراد تعالى أهل الصلاح فيهم فلا يدخل من عداهم فيه بدليل قوله من بعد (وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) فبين في هذه الآية انها خالصة عن الشر بخلاف أهل الكتاب وفي قوله (وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) ما يدل على صحة الجواب الاول فنبه بأن الاكثر منهم فساق بخلاف هذه الامة التي الاكثر منها أهل الخير ويقوى من يقول بالوجه الآخر قوله تعالى (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وهُمْ)

7 / 47
ع
En
A+
A-