فيهم هذه العلة ولذلك قال تعالى (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ والْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ والْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فنبه تعالى بقوله (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ) على ان ذلك شرع متجدد وهذا قول عامة الفقهاء وان كان في الناس من يحرّم نكاحهن في هذا الوقت أيضا فأما الفاسق من جملة من ينتحل الاسلام فانه لا يوصف بانه يدعو الى النار.
[مسألة]
وربما سألوا فقالوا قد قال (وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) ومع ذلك فعندكم ان الحرة الكتابية يقدم نكاحها على نكاح الامة فكيف يصح ذلك وجوابنا ان المراد تقديم الأمة المؤمنة على الأمة الكافرة فلا يدل على ما ذكرته كأنه تعالى لما أباح نكاح الحرائر نفى تحريم نكاح الاماء منهن أصلا أو تحريم تقديم نكاحهن اذا كنا إماء على نكاح الأمة المؤمنة وقد حصل في الكتابية اذا كانت أمة النقص من وجهين فلذلك تقدم الأمة المسلمة على نكاحها عند كثير من العلماء.
[مسألة]
وسألوا عن قوله تعالى (وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا) قالوا فكيف يمنع من ذلك مع البر وذلك غير مكروه. وجوابنا ان المراد ان لا تبروا ومثل ذلك شائع في اللغة كقوله تعالى (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) ومعناه أن لا تضلوا وقد قيل ان المراد كراهة الاكثار من اليمين وان بر فيه الحالف فيعظم ذكره جل وعز عن هذه الطريقة.
[مسألة]
وسألوا عن قوله (لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) فقالوا كيف يصح وقد يقع ذلك تعمدا. وجوابنا أن المراد أنه تعالى لا يؤاخذكم به على حد المؤاخذة بالايمان اذا كان ذلك يقع منه لا عن

قصد الى عقد اليمين وان كان قاصدا الى نفس الكلام وهذا كما تعلم ان الأكل في شهر رمضان سهوا لا يؤاخذ به من حيث قصد نفسه الأول وان كان ذلك الأكل مما يقبح.
[مسألة]
وسألوا عن قوله تعالى (وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) فقالوا كيف يصح ذلك وقد ثبت في الخبر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم انه تعالى لا يؤاخذ أمته بما تحدث به نفسها ما لم تعمل به. وجوابنا ان كسب القلب اذا كان من باب الاعتقاد أو من باب الارادة والكراهة يؤاخذ المرء به وانما أراد تعالى بهذا الكلام مؤاخذة الحالف على ما يقصد اليه من الايمان والمراد أيضا المؤاخذة في باب ما يلومه فيه الكفارة وليس لحديث النفس في ذلك مدخل ولا يؤاخذ المرء بحديث النفس اذا كان على وجه من التمني فانه يتمنى أن يرزقه اللّه تعالى مال زيد أو امرأة زيد اذا مات على الوجه المباح فالمرء الذي يعمل في ذلك عملا غير محرم لا يكون عليه في ذلك اثم.
[مسألة]
وسألوا فيما قيل (إِنَّ الصَّفا والْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ) فقالوا جعلهما من شعائر اللّه وذلك يقتضي التعبد ثمّ قال (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) وذلك يدل على الاباحة فكيف يصح ذلك. وجوابنا ان في المتقدمين من قال أن المراد بذلك فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما كانه تعالى بين ان ذلك وان كان من الشعائر فليس بواجب وفي الناس من قال قد كان المشركون يمنعون من ذلك أشد منع فورد عن اللّه تعالى ازالة هذا المنع بقوله (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ولا يمتنع ان ذلك ينصرف الى ازالة المنع من التعبد ويقولون قد صح عنه صلّى اللّه عليه وسلم انه قال اسعوا فان اللّه كتب عليكم السعي وقوله (وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) عقيب ذلك كالدلالة على ان ذلك تعبد لكنه يقوي الوجه الأول في انه ليس بواجب.
وبعد فان رفع الجناح يقتضي ان ذلك ليس بقبيح ثمّ الكلام كيف حاله هل هو واجب أو ليس بواجب يقف على الدليل فليس في الآية تناقض كما زعموا.

[مسألة] وسألوا عن معنى قوله (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) فقالوا كيف جعل له أن يقصر في حقها لمكان اليمين.
وجوابنا انه تعالى منع من ذلك بقوله (فَإِنْ فاؤُ) فان المراد فان فاءوا فيها وخالفوا ما اقتضاه يمينهم فان اللّه غفور رحيم فمنع الزوج من أن يفعل ما يقتضيه يمينه فالأمر بالضد مما سألوا عنه والمراد يقوله فان فاءوا العود الى خلاف ما منع نفسه منه باليمين وأباح له مع ذلك الطلاق اذا أراد بشرط أن لا يقصد الى مضارتها لمكان اليمين ثمّ بين انه ان طلق فعلى المطلقة العدة وبين تلك العدة فبين ان في حال العدة لبعولتهن الرجعة ان أرادوا بذلك. وبين ان بعد الرجعة لهن حق كما أن عليهن حقا فبين كيف يطلق المرأة وكيف يخالع امرأته عند المضارة فبين في الطلاق الثلاث انها تحرم الا بعد زوج وان ذلك مخالف للطلقة والطلقتين.
فبين تعالى ما فيه الرجعة مما لا رجعة فيه. وبين ان هذه الحدود متى لم يتمسك المرء بها عظم اثمه ثمّ بين في هذه الآيات ما يلزمه من أدب الدين في أحكام الزوجات وأحكام الرضاع وأحكام العدة وغيرها الى قوله (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الْوُسْطى) فاكد وجوب المحافظة على هذه الوسطى ولم يبينها فربما يكون ترك بيانها أصلح كما نقول في ليله القدر لانها اذا لم تبين مفصلة يكون المرء أقرب الى ما يلزم في حق عبادته وان كان العلماء قد اختلفوا في ذلك فذكروا الصبح والظهر والعصر وذكروا المغرب والذي يقوي في الخبر هو العصر.
[مسألة]
وقالوا كيف يقول (وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) ثمّ يقول (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً). وجوابنا أنه فصل تعالى بين حال الأمن وبين حال الخوف الشديد لكن يتمسك المرء بالمحافظة وان لم يتمكن من القيام والتوجه في سائر الأركان كما يجب فقد روي في الخبر ان المراد بقوله (فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً) مستقبلي القبلة وغير مستقبليها اذا كان حال

المسايفة والمحاربة ولذلك قال تعالى (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ) أي كما حده وبينه من أركان الصلاة.
[مسألة]
وربما قيل ما حده اللّه تعالى في المعتدة عن وفاة زوجها من الحول الذي بينه في قوله (وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ويَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) كيف أن يكون منسوخا بقوله (وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ويَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْراً) مع أنه المتأخر في القرآن فكيف يجوز في المنسوخ أن يكون هو المتأخر ومعلوم من حال الناسخ أن يكون آخرا وجوابنا انه متأخر في نظم التلاوة وهو متقدم في الانزال على الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وهذا هو المعتبر وهذا بمنزلة ما يثبت أن الناسخ فيه مقارن للمنسوخ وان وجب أن يكون متأخرا. ومن أصحابه أيضا أن ينزل تعالى المنسوخ أولا ويتعبد بالتوقف فيه ثمّ يرد الناسخ فعنده يؤمر بالعمل به ثمّ بالعمل بالناسخ ويكون معهما قرائن وجعل اللّه على النساء الفراق بالموت أو الطلاق أو الفسخ مدة عدم احتياط الانسان فاذا لم يقع الدخول فلا عدة في الطلاق وتجب العدة في الوفاة. وجملة العدة تكون في الوفاة أربعة أشهر وعشرا اذا لم يكن حمل فان حصل الوضع قبلها انقضت العدة به وفي الطلاق بانقضاء أيام الحيض وهي ثلاث حيض واذا لم يكن الحيض ممكنا فبالشهور وهي ثلاثة أشهر في الحرائر وفي الاماء على النصف من عدة الحرة وكل ذلك ما لم يكن حمل فاذا كان فالعدة تنقضي بوضع الحمل وقد بين اللّه تعالى كل ذلك وبين أيضا ما يجب للزوجات من نفقة وغيرها.
[مسألة]
وقوله (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) وهو أمر بالاعتداء وكيف يجوز ذلك والاعتداء قبيح. وجوابنا انه تعالى أجرى اسم الاعتداء على ما هو مقابل له من الجزاء كقوله (وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ)

(سَيِّئَةٌ مِثْلُها) ولا يجوز عليه تعالى أن يأمر بالاعتداء مع قبحه.
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) كيف يصح أن يريهم ذلك في الآخرة.
وجوابنا أنه يحتمل أن يريهم ذلك في الصحف ويحتمل أن يريهم ثواب عملهم من الجنة لو كانوا لقد أطاعوا فاذا صرف ذلك الى غيرهم كثرت حسراتهم.
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) وكيف يصح ذلك ويتعالى اللّه عن جواز الاتيان عليه. وجوابنا ان المراد إتيان الملائكة أو متحملي أمره كما قال تعالى في سورة النحل (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) وهذا كقوله (وَ جاءَ رَبُّكَ) والمراد رسل ربك.
[مسألة]
وربما قيل كيف قال (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) ولا يجوز عليه أن يزين الكفر. وجوابنا انه لم يقل من الذي زين والمراد الشياطين وغيرهم ممن يحسن ذلك للكفار ويحتمل ان يراد ان اللّه تعالى زين الحياة الدنيا بالشهوات ليكون المكلف بالامتناع من ذلك مستحقا للثواب وهذا يكون من قبل اللّه تعالى لكنه يضيف الى ذلك النهي والزجر ولذلك قال (وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ).
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) ومعلوم في الثلاثة والسبعة انها عشرة فأي فائدة في ذلك وجوابنا ان المراد انها كاملة في الاجر لانه كان يجوز ان يقدر ان الهدى أعظم أجرا من هذا الصيام اذا لم يجد الهدى فبين تعالى انه مثل ذلك في الاجر ويحتمل أن يكون المراد أن أجرها في الكمال كأجر من أقام على احرامه ولم يتحلل ولم يتمتع وقد قيل ان المراد أن صوم

السبعة وان فارق صوم الثلاثة فهو كامل كما يكمل لو اتصل. وقيل ان المراد بكاملة مكملة فكأنه قال تعالى فاكملوا صومها وقيل إن المراد قطع التوهم بوجوب شيء آخر بعدها.
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى (وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ولا اتصال لذلك بما تقدم. وجوابنا ان المراد انه سميع لقول القائل عليم بفعله رغب بذلك في الجهاد والقيام به كما يجب.
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) وعندكم قد هدى اللّه كل الخلق.
وجوابنا أنه خصهم لما اختصوا بان قبلوا وعملوا كقوله في أول السورة (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى (وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ) ولا ولا يجوز عليه عندكم ذلك. وجوابنا ان قوله لو يدل على نفي ما ذكر فدل بذلك على انه تعالى لا يشاء ما يكون قبيحا من العنت وغيره.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله في قصة طالوت (وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) وعندكم ان الملك في الظلم لا يكون من قبل اللّه تعالى.
وجوابنا أن المراد بالملك الاقتدار والنعمة والرأي الصادر عن العقل وكل ذلك من جهة اللّه أما نفس الظلم فلا يكون من فعله وهو سيئة.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله عز وجل (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) ان ذلك يدل على ان كل غلبة من المحاربين من قبل اللّه. وجوابنا ان الاذن قد يراد به التخلية وذلك يكون من تنزيه القرآن (4)

قبله تعالى لأنه لا يأمر بما يقبح فأما الغلب في الجهاد فانه من قبل اللّه من حيث وقع بأمره وترغيبه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله (قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وجُنُودِهِ) كيف قطعوا بذلك وهو حكاية عن طالوت والذين آمنوا معه. وجوابنا ان المراد بذلك انه لا طاقة لنا الا من قبله على وجه الاتكال على اللّه تعالى واضافة الحول والقوة اليه وقد قيل ان ذلك هو من قول أهل الشرك فيهم لا من قول المؤمنين.
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى (وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) وكيف قال (وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا) أو ما يدل ذلك على انه يريد القتال من الكفار أيضا وانه لم يرده من المؤمنين.
وجوابنا أن المراد مشيئة الاكراه والمراد لو شاء اللّه أن يلجئهم فلم يقتتلوا لكن لم يشأ ذلك بل مكن من الأمرين تعريضا للثواب وقيل ان المراد بذلك ولو شاء اللّه أن لا يقتتلوا بسلب عقولهم لفعل ذلك لكن اختلفوا لما أعطاهم العقول في القدر ولما اختلفوا فلو شاء اللّه أيضا ما اقتتل الذين من بعده بأن يمنعهم من القتال بالقتال.
[مسألة]
وربما قيل إن قوله في قصة طالوت (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) يدل على ان الصبر من قبل اللّه وأنتم تقولون انه من فعل العبد.
وجوابنا انهم سألوا من الألطاف فيقوي نفوسهم على الصبر على القتال كما ذكرناه في قوله (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).
[مسألة]
وربما سألوا عن قوله تعالى (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) وقالوا ان ذلك يدل على ان الاسلام من فعل اللّه فيهم. وجوابنا ان ذلك كقوله (وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ)

ومعلوم انهم لم يفعلوا فيهم الكفر لكنهم رغبوا ودعوا الى ذلك فالمراد انه تعالى يخرجهم من الظلمات الى النور بالالطاف التي يفعلها في هذا الباب والاخراج من الكفر والايمان في الحقيقة لا يجوز وانما يذكر على وجه المجاز والتشبيه في انتقال الأجسام.
[مسألة]
وربما قالوا ان قوله تعالى (وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) يدل على انه تعالى عالم بعلم وأنتم تقولون أنه عالم بذاته. وجوابنا ان المراد بذلك المعلومات ولذلك قال (إِلَّا بِما شاءَ) فأدخل فيه ما يدل على التبعيض وذلك لا يتأتى الا في المعلومات.
[مسألة]
وربما قالوا كيف قال (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ والْأَرْضَ) أ فما يدل ذلك على انه يستوي على الكرسي. وجوابنا ان المراد بهذه الاضافة انه مكان لعبادة الملائكة كما يقال في الكعبة إنها بيت اللّه وقد قيل ان المراد بالكرسي العلم والقدرة والاول أصح أراد تعالى أن يبين قدرته على العظيم من خلقه لتعلم بذلك قدرته على ما عداه.
[مسألة]
وربما قيل ان قوله (وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) يدل على جواز الشك على الأنبياء في مثل ذلك. وجوابنا أن طلبه لذلك أن يريه ذلك عيانا من غير تدريج كما يخلق تعالى الحي من النطفة والعلقة لا انه لم يعرف اللّه فطلب زيادة شرح الصدر ولذلك قال (بَلى ولكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).
[مسألة]
وربما قيل في قوله (أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) ان قوله بعد قول ذلك الكافر (أَنَا أُحْيِي وأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) يدل على ان ابراهيم انقطع في القول الأول وذلك لا

يجوز على الانبياء. وجوابنا في ذلك من وجوه (أحدها) ان خصمه المنقطع لان ابراهيم عليه السلام أراد إحياء من لا حياة فيه فلم يكن له في ذلك حيلة وادعى الاحياء على وجه التبقية ومع ذلك زاده بيانا آخر لا يمكنه التمويه فيه (و ثانيها) انه أراد اثبات الالوهية بأمر لا يصح منا وذكر إحياء الميت لدخوله في هذه الجملة فاذا عدل الى ذكر الشمس وطلوعها فانما عدل عن مثال الى مثال لأن الأمثلة تذكر للايضاح (و ثالثها) انه بين له انه لم يقدر على أن يأتي بالشمس من المغرب مع ان ذلك من جنس الحركات التي يقدر العبد عليها فكيف يصح منه ما ادعاه في إحياء الميت (و رابعها) أنه استأنف له حجة أخرى لما انقطع في الاول وادعى ما هو خارج عن طوق الاحياء (و خامسها) أن المحاجة من الأنبياء تقع على طريقة الاستدعاء فلهم ان يؤدوا حالا بعد حال ما يكون أقرب الى الاستجابة ولا يقع ذلك على طريقة المناظرة، واذا كان اللّه تعالى نبه المكلفين بذكر الأدلة على وجه التحقيق يكلهم بذلك الى التدبير والتفكر.
فالأنبياء صلى اللّه عليهم مثل ذلك بحسب ما يغلب في ظنهم من تأثيره فيمن يخاطب بذلك فلذلك قال تعالى بعده (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) لانه في الفصل الثاني تحير ولم يتمكن من إيراد شبهته كما أورد في الفصل الأول (فان قيل) فلو إنه قال لإبراهيم صلّى اللّه عليه وسلم عند قوله (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) إن كان اللّه تعالى يأتي بها من المشرق فليأت بها من المغرب فكيف يكون حاله (قيل له) لو قال ذلك يسأل ربه أن يأتي بها من المغرب حتى يصير مشاهدا لها وقوله تعالى بعد ذلك (وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) يدل على أنه أراد بالهداية الاثابة أو طريقة الجنة أو الألطاف التي هي زيادات الهدي فان الهدى الذي هو الدلالة قد هدى به الظالمين كما هدى به المتقين. وفي هذه الآية دلالة على بطلان التقليد لانّ الأنبياء صلّى اللّه عليهم وسلم اذا لم يقتصروا على قولهم بل استعملوا المحاجة مع خصومهم فكيف يسوغ لأحد في الديانات التقليد.

[مسألة] وربما قيل ما فائدة قوله في الذي (مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ) وأي معنى في هذا السؤال. وجوابنا التنبيه على قدرته تعالى لانه ظن انه لبث يوما أو بعض يوم فأراه اللّه تعالى في أمر الطعام والشراب والحمار ما عرف به قدرته ولا يجوز في جوابه أن يحمل الا على الظن لأن الميت لا يعرف مقدار ما بقي ميتا إلا ان أحياه اللّه وكل ذلك يظهر ويكون معجزة لبعض الأنبياء.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ والْأَذى) كيف يبطل ذلك. وجوابنا ان المراد بطلان ثوابها بما يقع من المتصدق من المنّ عليهم وأذية قلوبهم نحو أن يقول المتصدق للفقير ما أشد إبرامك وخلصنا منكم اللّه الى ما يجري هذا المجرى فأدب اللّه تعالى المتصدق بأن لا يكسر قلب الفقير فكما أحسن في الفعل يحسن في القول ولذلك مثله (كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً) وأدب أيضا بقوله (وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ولَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) لان ما ينفق للّه وطلبا للثواب يجب أن لا تكون منزلته دون منزلة ما يتلذذ به في الدنيا وهذا تأديب حسن. وأدب أيضا بقوله (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) فيبعث على البخل وترك الصدقة (وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وفَضْلًا) فيبعثكم على الصدقة وعلى خلاف الفحشاء والمعاصي. وبعث اللّه تعالى أيضا على إخفاء الصدقة بقوله (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وإِنْ تُخْفُوها وتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) والعلماء يقولون ان الأولى في الواجب أن يظهر وفيما عداه أن يكتم فيكون أقرب الى أن يكون مفعولا لذات اللّه تعالى.
وربما قيل ما معنى قوله تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ ولكِنَ

5 / 47
ع
En
A+
A-