الاجتهاد اذ يراد به في الظلمة اذا عميت القبلة او في النافلة في السفر او في المسايفة وذلك مذكور في الكتب.
[مسألة]
وسألوا عن قوله تعالى (وَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) فقالوا كيف يكون ما ذكره آخرا مبطلا لما قالوا. فجوابنا انه بين ان من يخلق هذه الامور ويعمل عليها لا يكون الا قديما مخالفا لمن تصح عليه الولادة ولذلك اتبعه بقوله (بَدِيعُ السَّماواتِ والْأَرْضِ وإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فبين تعالى بكل ذلك انه مخالف للاجسام التي تصح عليها الولادة وقالوا ان قوله اذا قضى أمرا فانما يقول له كن فيكون يدل على ان كل ما يفعله يفعله بهذا القول وان ذلك يوجب ان قوله وكلامه ليس بمحدث لانه لو كان محدثا لكان يحدثه بقول آخر ويؤدي الى ما لا نهاية له فجوابنا ان ما قالوه متناقض لان الظاهر يقتضي أنه يقول له كن وهذه اللفظة مشتملة على حرفين أحدهما يتقدمه الآخر والآخر يتأخر عنه على اتصال بينهما وما هذا حاله لا يكون الا محدثا فلا يصح اذا ما قالوا ولان قوله (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يقتضى انه يقول ذلك مستقبلا وذلك علامة الحدوث ولانه عطف المكوّن على القول بحرف الفاء ومن حقه ان يكون عقيبا له وما كان المحدث عقيبه لا يكون الا محدثا وعندنا ان المراد بذلك انه اذا قضى أمرا يكوّنه ويفعله من غير منع وذكر هذا القول على وجه التوسع ومثل ذلك في اللغة كما قال الشاعر: امتلأ الحوض وقال قطنى. والحوض لا يقول ولكن المراد انه اذا امتلأ فحسبه من الماء وأراد تعالى بذلك ان الاشياء لا تتعذر عليه كما تتعذر على سائر القادرين وقوله تعالى عقيب ذلك (وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) ومعناه هلا يكلمنا اللّه يدل على انه تعالى يفعل الكلام في المستقبل فكيف يجوز ان يكون قديما وقوله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً ونَذِيراً) والمراد بشيرا لمن اطاع ونذيرا لمن عصى وهو ترغيب في الطاعة
وزجر عن المعاصي وقوله من بعد لرسوله صلّى اللّه عليه وسلم (وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ولا نَصِيرٍ) دلالة على ان النبوّة لا تعصمه من الوعيد اذا عصى فكيف يكون حال غيره.
[مسألة]
وما معنى قوله تعالى (وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) كيف يجوز في كلمات اللّه ان يتمها ابراهيم. وجوابنا ان المراد فيه انه ابتلاه بما يدل عليه الكلمات من العبادات وانه بامتثال ذلك أتم ما يلزمه وقد قيل انه علمه من أسمائه الحسنى ما يصير بذلك من أهل النبوّة ولذلك قال تعالى بعده (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) فبين ان هذه الكلمات هي كالمقدمة لذلك وبين تعالى انه قد يكون في ذريته من يكون ظالما فلا يستحق النبوّة والامامة فقال (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وبين تعالى انه جعل بيته الذي هو الكعبة (مَثابَةً لِلنَّاسِ وأَمْناً) يثوبون اليه حالا بعد حال للعبادة فقد كان في شريعة ابراهيم صلّى اللّه عليه وسلم الحج على قريب مما هو في شريعتنا وجعل اللّه تعالى الحرم آمنا في أشياء كثيرة ثمّ أمر أن يسأل ربه أن يجعل الحرم آمنا وأن يؤتيهم من الطيبات وقد فعل تعالى لكنه سأل ذلك للمؤمنين فاجابه اللّه تعالى للكل فقال (وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) وذلك لان عادة اللّه تعالى في الدنيا أن يعم خلقه بالارزاق بحسب المصالح فلا يحرم العاصي بمعصيته ولا يفضل المؤمن لإيمانه لكنه يدبرهم بحسب الصلاح ودل قوله تعالى (وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وإِسْماعِيلُ) على انهما تعبدا ببناء البيت فلذلك قالا (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) الى سائر ما دعوا اللّه تعالى.
[مسألة]
قالوا ما معنى (رَبَّنا واجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ومِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) ان كان الاسلام من فعل العبد. وجوابنا ان
المراد مسألة الالطاف والتسهيل في أن يصيرا مسلمين لان المرء وان كان يفعل الاسلام فلا يستغني عن زيادات الهدى والالطاف ولو لا ذلك لما صح الأمر والنهي بالاسلام والكفر ولما جاز المدح عليه ولم يكن لقوله تعالى (وَ أَرِنا مَناسِكَنا وتُبْ عَلَيْنا) معنى والوالد اذا توصل الى تأديب ولده بأمور جاز أن يقال جعله أديبا عالما لفعله الأسباب التي عندها تعلم وقيل ان المراد بذلك الانقياد لا الاسلام الذي هو تمسك بالعبادات ودلوا على ذلك بالاضافة في قوله (مُسْلِمَيْنِ لَكَ) ودلو عليه بما بعده من قوله (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ومن يفعل الاسلام التي هي العبادات لا يوصف بانه اسلم للّه ويوصف اذا أريد به الاسلام والانقياد وقوله من بعد (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) والمراد اختاره لكم يدل على ان الاسلام فعلهم.
[مسألة]
ان قيل لم قال (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) وما فائدة تعليق الاسلام بالموت وهو واجب في كل حال. وجوابنا انه لما كان المرء يخاف الموت في كل وقت صار ذكر الموت دلالة على وجوب التمسك بالاسلام والخوف من تركه في كل وقت ويكون ذلك في التحذير أقوى.
[مسألة]
وسألوا فقالوا كيف قال (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) مع قوله في غير موضع انهم غيروا الكتاب وحرفوه. فجوابنا انه تعالى أراد القرآن وأراد من أهل الكتاب من آمن ولذلك قال (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) والكتب المتقدمة لا يجب فيها هذه التلاوة وقد قيل ان المراد يتلون التوراة على حقها من غير تحريف لان من آمن بالرسول كان هذا حالهم فهذا أيضا يحتمله الكلام.
[مسألة]
وسألوا فقالوا كيف يقول تعالى (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) فكيف يصح ان ينفى ان يكون
عليهم حجة ثمّ يقول الا الذين ظلموا فيكون لهم الحجة. وجوابنا لكن للذين ظلموا الحجة فانهم يحتجون عليكم بالباطل وذلك استثناء منقطع.
[مسألة]
وقالوا كيف قال تعالى (وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) فخصهم بهذا الهدى. وجوابنا ان هذا الهدى من جنس اللطف الذي يتأتى في المؤمنين كقوله (وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) وقد بينا ان الهدى العام هو الدلالة ومتى أريد به الاثابة أو الالطاف فذلك خاص.
[مسألة]
وسألوا عن قوله (وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) وقالوا كيف يصح ذلك في الايمان وقد تقضى. وجوابنا ان المراد ابطال ثوابه وقد قيل انه نزل في صلاتهم الى بيت المقدس فبين انه وان نسخها فثوابها محفوظ لمن لم يفسد ذلك بكفر أو كبيرة.
[مسألة]
وسألوا عن قوله (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) قالوا لو عرف أهل الكتاب نبوّته لما صح مع كثرتهم أن ينكروا ذلك ويجحدوه فكيف يصح ما اخبر به تعالى عنهم.
وجوابنا ان المراد من كان يعرف ذلك منهم وهم طبقه من علمائهم دون العامة منهم ولذلك قال (وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وهُمْ يَعْلَمُونَ) ولا يجوز ذلك على جميعهم لعلمنا باعتقاداتهم وتجويزه على من ذكرناهم يصح.
[مسألة]
قالوا ان قوله (وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) يدل على انه تعالى انما يعلم من يتبع الرسول ومن لا يتبعه عند جعل القبلة كذلك وهذا يوجب ان علمه تعالى محدث.
وجوابنا أن المراد الا ليفعلوا اتباع الرسول صلّى اللّه عليه وسلم فذكر العلم وأراد المعلوم لان
المعلوم لا يكون الا بحسب العلم فذكر العلم يدل على حال المعلوم وذلك كقوله تعالى (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) والمراد حتى يجاهدوا ونحن بذلك عالمون وقد قيل انه تعالى ذكر نفسه وأراد رسوله كقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ) والمراد يؤذون أنبياءه وكأنه قال الا ليعلم الرسول من يتبعه.
[مسألة]
وسألوا عن قوله (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) فقالوا كأنه قال أفيضوا أيها الناس من حيث أفاض الناس وذلك لا يفيد.
وجوابنا انهم قبل الاسلام كانوا يقفون بمزدلفة وبعضهم كان يقف بعرفة فأمروا في الاسلام أن يقفوا بعرفة ثمّ يفيضوا منها الى المزدلفة وجعل ذلك شرعا وقال بعضهم أراد بقوله من حيث أفاض الناس أي ابراهيم ومن يتبعه لانه صلّى اللّه عليه وسلم في الحج أمر في أكثره باتباع طريقة ابراهيم صلّى اللّه عليه وسلم.
[مسألة]
قالوا وقال تعالى (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) ثمّ قال (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) وليس لذلك تعلق بالأول فما الفائدة في ذلك. وجوابنا ان المراد فاذكروا اللّه كذكركم آباءكم بأن تسألوه مصالحكم في الدين والدنيا ولذلك قال (وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) فكأنه قال اذكروا اللّه في امر دينكم ودنياكم كما ان هؤلاء الناس يقولون ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وضرب اللّه تعالى المثل بالآباء لان المعتاد ان المرء ينشأ على محبتهم وذكرهم والا فنعم اللّه تعالى أعظم من ذلك فذكرهم اللّه يجب أن يكون اكثر من ذكرهم لآبائهم.
[مسألة]
قالوا في قوله (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) كيف يصح الرجوع الى اللّه وليس هو في
مكان، وجوابنا ان المراد به الرجوع الى اللّه حيث لا حكم ينفذ الا للّه تعالى كما يقال في الخصمين رجع أمرهما الى الحاكم او الى الأمير والمراد انه هو صار المتولي لذلك وقد جرت العادة في الدنيا ان غير اللّه يملك الأمور بان ملكه اللّه وفي الآخرة خلاف ذلك وهذه الآية تدل على ان غير الانبياء يجوز أن يقال فيهم صلّى اللّه عليه وسلم لان اللّه تعالى ذكر في الصابرين على المصائب (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ورَحْمَةٌ) وان كانت العادة في تعظيم الانبياء قد جرت بان يخصوا بذلك وزجر تعالى عن كتمان الحق زجرا عظيما بقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ والْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ ويَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) وقد قيل ان المراد باللاعنين الملائكة وذلك نهاية الزجر في كتمان الحق. ثمّ بين أن هذا اللعن يزول بالتوبة فقال (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وأَصْلَحُوا وبَيَّنُوا) ما كتموه ونبه تعالى بقوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وماتُوا وهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ والْمَلائِكَةِ) على ان من تاب من الكفار خارج عن هذا الحكم وبين تعالى بقوله (وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ان الواجب في العبادة أن توجه اليه وحده وبين الأدلة عليه وعلى وحدانيته بقوله (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ والْأَرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ) فذكر هذه الآيات الدالة على اللّه تعالى وعلى ان المنفرد بالألوهية وبين في آخره بقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) انّ الواجب على العقلاء أن يتدبروا هذه الامور في سائر حالاتهم كما قال تعالى (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وقُعُوداً وعَلى جُنُوبِهِمْ ويَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ والْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا) فالمعلوم ان العبادة بالصلاة والصيام وغيرهما تلزمهم في حال دون حال والعبادة بذكر اللّه ومعرفته والتفكر في نعمائه والقيام بشكر إفضاله تلزم في كل حال وعلى هذا الوجه قال (أَ ولَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ
السَّماواتِ والْأَرْضِ وما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) فذم من لم ينظر في هذين أحدهما التفكر في سائر ما خلق ليقرر به توحيده والآخر التفكر في قرب الاجل وللحذر من ترك التوبة والاستعداد فنبه تعالى على وجوب هذين في كل حال يذكرهما المرء.
وبعد ذلك قال تعالى (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) وبين ان الذين آمنوا أشد حبا للّه أي لعبادته وتعظيمه وبين أن هؤلاء اذا رأوا العذاب علموا أن القوة للّه جميعا دون الانداد وتتبرأ من اتبع ممن اتبعهم عند رؤية العذاب والذين يتبعون يتمنون الرجوع مرة أخرى حتى يتبرءوا ممن تبرأ منهم ثمّ بين انه يريهم أعمالهم حسرات عليهم ومن تفكر في هذه الآيات يستغني بتأملها عن كل تذكر. ثمّ قال (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً) فشرط فيه كلا الشرطين (وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) الذي يزين لكم اللهو والهوى فانه عدو مبين. فخالفوه الى ما هو حلال وان شق عليكم ثمّ قال (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ والْفَحْشاءِ وأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فحذر من الشيطان بهذا النوع من التحذير وقبح قول من حكى عنهم اذا قيل لهم (اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) فاختار تقليد الآباء واتبع طريقهم على ما بينه اللّه تعالى من الحق ومثلهم بقوله (وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً ونِداءً) فوصف المنعوق بأنه وان سمع فهو بمنزلة الصم البكم لما لم يؤثر قول من دعاه الى عبادة اللّه فيه وبين بعد ذلك ما أحل وما حرم فقال (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الْخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ) وبين ان ذلك وما أشبهه هو الحرام الا للمضطر وأعاد زجر من يكتم الحق ويشتري به ثمنا قليلا وبين انهم يأكلون في بطونهم نارا تحقيقا لما يستحقونه من العذاب وانهم اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب
بالمغفرة فما أصبرهم على النار ثمّ انه تمم هذا الزجر والوعظ بقوله (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ) وبين ان ذلك غير مقبول الا بأن يؤمن المرء باللّه فيعرفه حق المعرفة ويؤمن بالملائكة والنبيين ويؤتي المال وهو يحبه (ذَوِي الْقُرْبى والْيَتامى والْمَساكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ والسَّائِلِينَ وفِي الرِّقابِ) ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويوفي بعهد اللّه اذا عاهده وبعهد الناس ويصبر على البأساء والضراء يعني فيما ينزل به من جهة اللّه من الشدائد والأمراض قال تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) وذكر في موضع آخر (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) وبين تعالى حكم القصاص في آيات فقال (وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) لان من تصور انه اذا قتل يقتل كف عن القتل فيبقى حيا من قتله ثمّ ذكر تعالى فيمن يحضره الموت الوصية للوالدين والأقربين وهذا وان نسخ وجوبه فهو مرغوب فيه من الثلث او ما دونه ثمّ قال (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ترغيبا في ازالة الخلاف وبقاء الالفة، ثمّ بين تعالى حكم الصيام في آيات كثيرة وأوجب صيام شهر رمضان على المقيم الصحيح وزجر عن خلافه.
[مسألة]
فان قيل فلما ذا قال (وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ).
وجوابنا ان ذلك كان من قبل فانه كان المرء مخيرا بين الصيام وبين الإطعام ثمّ نسخ بوجوب الصيام وانما رخص في ذلك لمن لا يطيق أو لمن خاف من الصيام ودل تعالى بقوله (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) على انه اذا كان لم يرد التشديد في الصوم مع السفر والمرض رحمة بالعبد فبأن لا يريد منه ما يؤديه الى النار أولى وقوله تعالى (وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) لم يرد به تعالى قرب المكان وهذا كقوله (وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) وكقوله (ما يَكُونُ مِنْ
نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) وكقوله (وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ ولا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) وذلك مثله يحسن في الكلام البليغ وقد يقول المرء لغلامه وقد وكله في ضيعة على وجه التهديد له اني معك حيث تكون يريد معرفته باحواله واللّه تعالى بكل مكان على وجه التدبير للاماكن وعلى سبيل المعرفة بما يبطنه المرء ويظهره فهذا معنى الكلام ولو لا صحة ذلك لوجب أن يكون قريبا ممن بالشرق وممن بالغرب وان يكون في الأماكن المتباعدة تعالى اللّه عن ذلك فانه قد كان ولا مكان وهو خالق الامكنة. وبين تعالى انه يجيب دعوة الداع اذا دعاه لكن ذلك بشرط أن لا تكون فسادا والذين يدعون لا يعرفون ذلك فلأجل ذلك ربما تقع الاجابة وربما لا تقع وربما تقدم وربما تأخر، وقد كان من قبل يحرم على الصائم الأكل إلا عند الافطار ثمّ أباحه اللّه تعالى وأباح غيره طول الليل فهو معنى قوله (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) فقد كان من بعض الصحابة اقدام على الوطء ثمّ تاب من بعد ذلك فهو معنى قوله (فَتابَ عَلَيْكُمْ وعَفا عَنْكُمْ) ثمّ أباحه بقوله (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وكُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) وروي عن بعض الصحابة ومن بعدهم انه كان يبيح الأكل الى قريب من طلوع الشمس والصحيح انه انما يحل الى طلوع الفجر الثاني وهو الذي عليه العلماء والظاهر يدل عليه.
[مسألة]
وسألوا عن قوله (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ) فقالوا ان ذلك يدل انه استبطاء النصر من جهة اللّه فكيف يجوز ذلك على الأنبياء. وجوابنا انهم لم يقولوا ذلك استبطاء بل قالوه على وجه المسألة والدعاء وخوفا على ما يلحق المسلمين من جهة الكفار فبين تعالى ان نصره قريب وأمنهم مما خافوه وذلك مما يحسن.
[مسألة]
ويقال كيف يجوز أن يقول تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) وما كتبه اللّه علينا لا يجوز أن يكره لانه من مصالحنا. وجوابنا أن المرء تنفر نفسه عن ذلك لما فيه من المشقة وليس المراد انه يكره ذلك كيف يصح هذا وقد أوجب اللّه تعالى أن يعزم عليه وأن يراد وكذلك معنى قوله (وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) والمراد به كراهة المشقة والنفار والمراد بقوله (وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) محبة الميل والشهوة وقوله من بعد (وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) يبين صحة ما ذكرناه وهو أنه عالم بالمصالح وبما يؤدي اليه ما يشق من المنافع وبما يؤدي اليه ما يتلذذ به من المضار.
[مسألة]
وقيل كيف يقول تعالى إن في الخمر والميسر منافع للناس مع الإثم العظيم وجوابنا انه لا يمتنع أن يحصل في شربه منافع ترجع الى مصالح البدن فاما ان يراد به منافع الآخرة فالذي بينه من أن الاثم في شربه أكثر من نفعه يبطل ذلك وهذه الآية من أقوى ما يدل على تحريم الخمر لان اثم شربها اذا كان كبيرا فيجب ان تكون محرمة ومعنى قوله (وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) يدل على اباحة خلط أموالهم بأموالنا واستعمال الاجتهاد فيما يكثر منها ويحصل فيه النماء وكان ذلك في أول الاسلام ثمّ نسخ بأن ينظر في أموالهم متميزة من أموالنا وتطلب لهم فيها المنفعة.
[مسألة]
وقيل كيف قال تعالى (وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) ثمّ قال بعد ذلك (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) وكذلك الفساق ربما دعوا الى النار ويحل نكاح نسائهم. وجوابنا ان الكفار قبل قوة الاسلام في حال غلبتهم كان اللّه تعالى حرم نكاح نسائهم لهذه العلة ثمّ أباح نكاح الكتابيات وقد قوي الاسلام وذلوا باداء الجزية فخرجوا من أن يكون