سورة العنكبوت
[مسألة]
قد بيّن تعالى في هذه السورة ما إذا وطّن المكلف نفسه عليه كان باعثا له على العبادة وصارفا له عن المعاصي فقال تعالى (أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ) فبيّن أن المؤمن لا يخلو من فتن ومحن وشدائد وأن الواجب أن يعتبر بذلك ويصبر وصبره على ذلك يدعوه الى الصبر على العبادة وعن المعاصي ثمّ بيّن أن هذه عادة اللّه تعالى فيمن تقدم أيضا فقال جل وعز (وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) وذكر العلم وأراد المعلوم لأنه تعالى عالم لم يزل ولا يزال ولا يعلم الشيء عند كونه فقط ومثل ذلك يجري مجرى الوعيد كقول القائل لغيره أنا عالم بتقصيرك إذا قصرت وبوفائك اذا وفيت ثمّ بيّن من بعد بقوله (وَ مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) أن من تمسك بعبادته فإلى نفسه أحسن وأنه تعالى ما أراد بتكليفه إلّا أن يعرضه للمنزلة العالية (إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) وبيّن أنه وصّى المرء ببرّ الوالدين إيجابا لحقهما وأنه يجب أن لا يمتنع من برهما وإن دعواه إلى الشرك لكنه لا يطيعهما في باب الدين ويصاحبهما بالمعروف.
[مسألة]
ومتى قيل ما معنى قوله (وَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) وأيّ فائدة في هذا الادخال
وقد آمنوا وعملوا الصالحات ولم صاروا هم بأن يدخلوا في الصالحين أولى من أن يدخل الصالحين في جملتهم؟ وجوابنا أنه تعالى قد بين ما للصالحين من المنزلة في الآخرة وما يفعله بهم من معونة ونصرة في الدنيا ثمّ بين أن كل من آمن وعمل صالحا فهو داخل في هذا الوعيد باعثا لهم على التمسك بالايمان وبيّن من بعد أن المعتبر بالاخلاص لا بالقول فقال تعالى (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ) وبين أن النفاق يمنع من دخول المنافق وإن أظهر الايمان فيما وعد به الصالحين فقال تعالى (وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ولَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ).
[مسألة]
ومتى قيل ما معنى قوله تعالى (وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا ولْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ). فجوابنا أن اللّه تعالى أنكر ذلك عليهم بقوله (وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) وانما قالوا ذلك إيهاما للمؤمنين بأنهم ينصرونهم في الدنيا وينفعونهم لا بأنهم يحملون خطاياهم في الحقيقة ثمّ بيّن تعالى أن الامر بالضد من ذلك وأن هؤلاء الكفار يحملون أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم لأنهم إذا دعوا غيرهم إلى الكفر والمعاصي كانت هذه منزلتهم.
[مسألة]
ومتى قيل في قوله تعالى (وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) كيف يصح ان يعيش المرء هذا القدر وهذا بخلاف العادة؟ فجوابنا أن من ينكر ذلك فمراده دعاء إلى التعطيل والإلحاد واللّه تعالى قادر على ذلك وعلى هذا الوجه بيّن أمر الجنة وأنه يبقيهم ومن تأول ذلك على أن المراد أن دعوته الى الشريعة بقيت هذه المدة فقد أخطأ وكان صلّى اللّه عليه وسلم يدعو حالا بعد حال ويصبر عليهم كما ذكره اللّه تعالى في نبوّة نوح ثمّ دعا عليهم آخرا بقوله (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) لما علم بأنهم لا يؤمنون وأنزل اللّه تعالى بهم من بعد العذاب وقوله عز وجل (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وهُمْ)
(ظالِمُونَ فَأَنْجَيْناهُ وأَصْحابَ السَّفِينَةِ) يدل على أنه بقي هذه المدة وانه بقي بعدها أيضا ولذلك قال (وَ جَعَلْناها) يعني السفينة (آيَةً لِلْعالَمِينَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ واتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما فائدة قوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)؟ والمعلوم أن ذلك خير لهم على كل حال. وجوابنا أن ذلك يقال على وجه التهديد لا لأن علمهم يدخل ذلك في أن يكون خيرا ثمّ بين لهم ان الذين يعبدونهم لا يملكون لهم رزقا ولا نفعا وأن الواجب عبادة من يبتغى من جهته الرزق ومن اليه المرجع في الاثابة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ويَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) كيف يصح وقوع الكفر في الآخرة؟ وجوابنا أن المراد بهذا الكفر الجحد والانكار فان المودة بين المبطلين تكون في الدنيا دون الآخرة كما قال تعالى (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) كيف خفي على ابراهيم انهم لم يريدوا بالاهلاك لوطا ومن آمن معه حتى قال ما قال فأجابوه بما أجابوا؟ وجوابنا أنه يجوز في الدنيا أن يلحق العذاب بالعصاة ويكون فيهم غيرهم فيكون ذلك محنة فلما كان ذلك مجوزا جاز أن يقول إبراهيم صلّى اللّه عليه وسلم ما قال ولا يمنع أن يكون في ظنه ان القوم لا يعرفون أن لوطا فيها فعرّفهم ذلك وقوله تعالى من بعد (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) لذكر ما أنزله بأمم الانبياء من العذاب وقوله بعد ذلك (وَ ما كانَ اللَّهُ)
(لِيَظْلِمَهُمْ ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) يدل على ان هذه الافعال أفعال العباد ليصح أن يؤاخذوا بها وان ينسب الظلم الى أنفسهم كما نقوله في هذا الباب وقوله من بعد (خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أ يدل على ما نقوله من أنه لا يفعل إلا الحكمة والصواب وفي قوله بعد (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ والْمُنْكَرِ) ربما يقال إنا نرى من يصلي ولا ينتهي عن ذلك فكيف يصح هذا الظاهر؟ وجوابنا عنه ان الذي تنهى الصلاة عنه هو الذي لا يقع والمصلي وان فعل منهما الكثير فمعلوم من حاله انه غير فاعل لشيء من ذلك في بعض الاوقات فبيّن اللّه تعالى أنه أوجبها لأن عندها ما هو ازيد منه ومعلوم أيضا أنه غير فاعل المصلى لا يختار الفحشاء والمنكر وإلا فالصلاة محال أن تنهى فالمراد ما ذكرناه وهذا أحد ما يعتمد عليه في أنه تعالى لا يعبد بهذه الشرائع إلا لهذا الوجه وقوله من بعد (وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) ربما قيل فيه ان ظاهره يقتضي فيمن ظلم منهم أنه يجادل بما ليس أحسن وذلك لا يصح؟ وجوابنا أن من ظلم منهم نفسه وتمرد لا يكون ما يلزمنا أن نرد به عليه مثل الذي نخاطب به غيره وإن كان الجميع حسنا أنّا نفعل مع بعضهم ما غيره أحسن منه وان كان كل ذلك من باب الحسن وقوله تعالى (وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ ولا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) يدل على ما نقوله من أنه تعالى ينزه الانبياء عن كل أمر ينفر عنهم وقوله تعالى من بعد (وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) ربما يتعلق به الخوارج في أن كل فسق كفر وربما يتعلق به من يقول إنه مع الايمان لا يضر شيء. وجوابنا أن ذلك لا يمنع من أن يحيط بغيرهم فلا يدل على ما قالوه وفي قوله تعالى (وَ يَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) دلالة على انهم يعاقبون ويعرفون أن ذلك العقاب عدل من حيث عملوا وأذنبوا ولو كان ذلك من خلق اللّه تعالى فيهم لما صح ذلك وقوله تعالى من بعد (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)
ربما يقال ما الفائدة في ذلك وهو معلوم للمخاطب؟ وجوابنا أن المراد فاياي فاعبدون ولا يصدنكم عن العبادة عدم الاستقرار في مكان واحد بل يجب أن المرء يكون الوفاء بعبادة اللّه تعالى ولو مع التحول ان تحول فأرض اللّه واسعة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) كيف يصح ذلك في وصف الدار التي هي جماد؟ وجوابنا انه تعالى بيّن بهذا المجاز ما لا يفهم بالحقيقة إذ المراد أن هذه الدار من حق الحياة فيها أن تدوم ولا تنقطع ومن حقها أن يدوم نعيمها بلا بؤس وأن يتصل ولا مشقة.
سورة الروم
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ) كيف يصح أن يفرحوا بغلبة بعض الكفار لبعض؟ وجوابنا أنه تعالى لما بشر المؤمنين بأنهم سيغلبونهم ذكر ذلك فلو لم يكن إلا ما يظهر من صدق هذا الوعد لكفى فكيف وقد ينصر المؤمن مما يجري من الذل على الكفار من قبل الكفار أيضا ولذلك قال تعالى بعده (وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ) وبيّن ان الاكثر من الناس لا يعلم الا ظاهر الحياة الدنيا دون ما يتعلق بالدين بقوله تعالى (وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) ومتى قيل في قوله تعالى (وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ) لما ذا كرر وما الفائدة فيه وهل يحمل على التأكيد أو فيه مزيد فائدة. فجوابنا «*»
__________________________________________________
(*) جواب هذا السؤال لم نجده في شيء من نسخ الكتاب وانما وجدنا مكان الجواب بياضا هكذا وقد ذكر الزجاج في تفسيره فقال هم الاول مرفوعة بالابتداء وهم الثانية ابتداء ثاني وغافلون خبرهم الثانية والجملة الثانية خبر الاول والفائدة في الكلام ان ذكرهم الثانية وان كانت ابتداء يجري مجرى التوكيد كما تقول زيد هو عالم وهو اوكد من قولك زيد عالم ويصلح ان تكون الثانية بدلا من هم الاولى مؤكدة أيضا كما تقول رأيته اياه ورأيت زيدا نفسه ولعل قاضي القضاة لم ير منه جوابا شافيا وأراد اشفاء منه فتوقف فيه ولا يمتنع أن يكون قد أجاب عنه في نسخة أصله وان لا يكون قد وقع البيان.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ) كيف يصح أن يسمى ما يفعله بهم تعالى سوءا وذلك لا يكون إلا قبيحا؟ وجوابنا أنه أجرى هذا اللفظ على ما هو جزاء عليه كقوله (وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) وذكره كثير في اللغة والا فما يفعله تعالى لا يكون الا عدلا وحكمة وذلك لا يوصف بهذا الوصف ولذلك لا يحسن وصف اللّه تعالى بأنه مسيء.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) ثمّ قال (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآياتِنا) فبين أنهم عند قيام الساعة يتفرقون الى هذين القسمين كافر ومؤمن فقولك أن الفاسق له منزلة بينهما يبطل. وجوابنا أنه تعالى قال يتفرقون ثمّ ابتدأ بقوله تعالى فأما الذين آمنوا وأما الذين كفروا فذكرهما ولم ينف ثالثا لهما وقد ثبت حكم ذلك الثالث بسائر الآيات.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ والْأَرْضِ واخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) أ ليس يدل ذلك على ان كلامهم من خلق اللّه تعالى؟ وجوابنا أن اختلاف خلقة الالسنة من قبله تعالى ولأجل هذا الاختلاف يدرك كلامهم مختلفا فمن كان في لسانه رقة لا يكون كلامه بمنزلة كلام من في لسانه غلظ وكذلك اختلاف منافذ الرياح والنفس فبيّن تعالى ان في ذلك آية وعبرة وهذا الجواب اولى من قول من يقول ان المراد به اختلاف اللغات وانها من باب التوقيف وتضاف الى اللّه تعالى لأن الوجه الذي به يقع الاعتبار في اختلاف الألسنة هو في كيفية ادراكنا لان الكلام في اللغات هل هي توقيف او اصطلاح فيه الخلاف الكثير ومعنى قوله تعالى من بعد (وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ والْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) أنهما تقومان بفعله وارادته وذكر الامر على وجه التفخيم لشأنه كأن هناك أمرا هو قول وهذا
كقوله تعالى (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقوله تعالى من بعد (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) يجري هذا المجرى لانه تعالى لا يدعوهم في الحقيقة لكنه يجيبهم ويكمل عقولهم ويمكنهم فيخرجون ويرجعون الى اللّه تعالى بمعنى الى حيث لا حاكم سواه وقوله تعالى من بعد (وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) ربما قالوا فيه ان ذلك يدل على جواز الضعف عليه. وجوابنا انه بمعنى هيّن كما اذا قلنا في اللّه انه أكبر وأعظم فالمراد به كبير عظيم وكما قال الشاعر:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول
والمعنى أنه عزيز طويل.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ والْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) كيف يصح ظهور الفساد لاجل كسبهم؟ وجوابنا أنهم اذا أفسدوا في الارض وظلموا ومنعوا الحقوق يظهر بذلك الفساد في الموضعين واذا قلت النعم من جهة اللّه تعالى لاجل ذلك كان ردعا لهم عن أمثال ما فعلوا وبذلك قال تعالى (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ولا يمتنع أن يكون الصلاح عند كسبهم أن يقع من اللّه تعالى التضييق في المعيشة على وجه الاعتبار كما فعله تعالى بأمم الأنبياء من إنزال العقاب بهم ولذلك قال تعالى بعده (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) فبيّن ما نالهم لاجل شركهم وقوله من بعد (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) هو خطاب للكل وإن كان لفظه خاصا والمراد بالوجه نفس الانسان فكأنه قال فأقم نفسك للدين القيم حتى لا تحول عنه ولا تزول فلا تأمن في كل وقت من الاخترام فاذا ثبت على الاستقامة كنت من الفائزين تنزيه القرآن (21)
ولذلك قال تعالى بعده (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ) وقوله تعالى من بعد (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) يدل على أنه من فعله والا كانت اضافته الى خالقه أولى وقوله تعالى (وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) يوجب أن ذلك من فعلهم أيضا وقوله تعالى من بعد (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) يدل أيضا على ذلك لان المجازاة من اللّه تعالى على نفس ما خلق لا تصح وقوله تعالى من بعد (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) يدل أيضا على ذلك لأن الكفر إن كان من خلقه فقد أراده وأحبه وإذا أراده فقد أحب الكافر إذ محبة الكافر هو محبة كفره وقوله تعالى من بعد (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) يدل على ان الجرم من قبلهم وقوله تعالى من بعد (وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) يدل على ان ايمانهم من قبلهم إذ لو كان خلقا من اللّه لكان ناصرا لنفسه وذلك محال وقوله تعالى من بعد (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) هو على وجه المبالغة لتركهم القبول والتفكر وكذلك قوله (وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) ولذلك قال تعالى بعده (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) ولو أراد حقيقة الصم لكان حالهم في الاقبال كحالهم في الادبار ولذلك قال تعالى بعده (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) فأما قوله عز وجل (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) والضعف عرض لا يصح أن يخلق الجسم منه فالمراد المبالغة في ضعفه وهو على ما هو عليه وبيّن ان آخر أمره أن لا ينتظر له قوة بعد ضعف وبقوله تعالى (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وشَيْبَةً) وكل ذلك تحريك لهم على التدارك الى التوبة خصوصا وقد أدرك حال الشيبة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) كيف يصح أن يخبروا بذلك ويقسموا عليه وهو كذب وعندكم أنهم في الآخرة هم ملجئون
الى أن يفعلوا القبيح؟ وجوابنا أن المراد بذلك إخبارهم عن أنهم ما لبثوا غير ساعة عند أنفسهم لأنّ ما بين الموت والاعادة وان طالت مدته فهو كالقصير من الاوقات في أن المعاد لا يتبين له ذلك وقوله تعالى (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) يدل على ما نقول لأنه أن كان ظلمهم من خلق اللّه فهم مستغنون عن المعذرة.