(بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ) فجمع بذكر الصبر جميع ما منع تعالى منه وبذكر الصلاة جميع ما أمر به وبين ان الصلاة كبيرة (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي ثواب ربهم فيعلمون المجازاة فيعظم خوفهم ويعلمون انهم اليه راجعون. وبين لبني اسرائيل ولنا بقوله (وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ولا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ ولا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) ان من حكم ذلك اليوم ان المرء ينتفع بعمله دون هذه الامور وان أهل العقاب لا يتخلصون الا بما يكون منهم في الدنيا من التوبة وتلافي المعصية ثمّ قال عز وجل (وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) فمنّ عليهم بما كان منه تعالى من نجاة آبائهم على ما ذكرنا وذكر نعمه حالا بعد حال إلى قوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا) وقوله في خلال هذه الآيات (وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) يدل على أن الرؤية على اللّه تعالى لا تجوز وقوله (وَ إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) يدل على قدرة اللّه تعالى على الأمور العجيبة وان عصا موسى كانت من الآيات العظام فمرة كانت تصير بيده ثعبانا فيتلقف إفك السحرة ومرة كان يضرب بها على الحجر فينفجر منه من الماء ما يحتاجون اليه ومرة كان يضرب بها على البحر فينفلق ويصير لهم طريقا يبسا ولما ذكر قوله (وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) ظن بعضهم ان بني اسرائيل أفضل من سائر الانبياء وليس الامر كذلك وانما أراد به فضلهم على عالمي زمانهم وكذلك كانوا في أيام موسى صلّى اللّه عليه وسلم دينا ودنيا.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) كيف يدخل قتل النفس في التوبة. وجوابنا انه تعالى أوجب أن يقتل بعضهم بعضا لعلمه بأن ذلك صلاحهم لا ان ذلك من شروط التوبة لان التوبة مقبولة اذا صحت بدون غيرها.
[مسألة]
وسألوا عن معنى قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والنَّصارى والصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) فقالوا كأنه قال ان الذين آمنوا من آمن منهم وهذا كالمتناقض. وجوابنا ان المراد في الذين آمنوا الاستمرار على ايمانهم وفي الذين هادوا الانتقال الى الايمان وذلك صحيح وقد قيل ان المراد بأن الذين آمنوا من أظهر الاسلام والمراد بمن آمن منهم كمال الايمان وذلك مستقيم.
[مسألة]
وقد قيل كيف قال (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ) ونحن نعلم ان المؤمنين قد يخافون ويحزنون. وجوابنا انه تعالى أراد ذلك في الآخرة كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) وقال (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) وكل ذلك ترغيب في التمسك بالايمان والطاعة.
[مسألة]
قالوا في قوله تعالى (وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) كيف يأمر بذبح بقرة لها صفة ثمّ باخرى لها صفة أو ليس ذلك يدل على البداء «و جوابنا» أنه أمر أولا بذبح بقرة على أيّ صفة كانت فلما عصوا كان الصلاح التشديد عليهم ثمّ كذلك حالا بعد حال الى أن أمرهم آخرا بذبح بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها فيقال طلبوها فاشتروها بمال عظيم لأنه لم يوجد بتلك الصفة سواها وكان السبب في ذلك ما بينه بقوله (وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها واللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى) وكان هناك قتيل وكتموا القاتل فأخفوه فأراد اللّه تعالى اظهاره باحياء القتيل عند ضربه ببعض البقرة ليذكر ذلك المقتول قاتله فيقام عليه حد اللّه تعالى واللّه تعالى وان كان قادرا على احياء ذلك
القتيل من دون أن يضرب ببعض البقرة فقد كان لطفا لهم لان عادتهم كانت التقرب بذبح البقرة كما تعبدنا اللّه تعالى بذبحها في الاضحية وكان ذلك من معجزات موسى عليه السلام.
[مسألة]
يقال وقد قال تعالى (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) كيف يجوز أن يفضل قلبهم في القسوة على الحجارة والحجارة لا قسوة فيها أصلا وكيف قال (وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) وذلك لا يصح على الحجارة. وجوابنا ان ذلك على وجه المثل ضربه اللّه تعالى لقلبهم في القسوة لان الظاهر ان القسوة تكون لصلابة القلب فكذلك القول في الخشية أورده على وجه المثل وقد قيل أن المراد ولو جعل الحجز حيا لكان يحصل فيه من الخشية ما ليس في قلبهم والاول أقوى لأنّ الحجارة اذا جعلت حية لا تكون حجارة.
[مسألة]
قالوا كيف يقول تعالى (أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) يعني اليهود ثمّ يقولون من بعد (وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) فنفى في الاول وأثبت في الثاني وذلك تناقض. وجوابنا ان المراد (أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا) ايمانا ظاهرا وباطنا والذي عناه في قوله (وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) ما أوردوه ظاهرا على وجه النفاق فالكلام مستقيم ولذلك قال (وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) فذمهم بذلك على هذه الطريقة التي هي النفاق وبين انهم يحرفون التوراة ويشترون بها ثمنا قليلا وانهم كانوا يفعلون ذلك ليستأكلوا ضعفائهم فقال تعالى (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) ودل بذلك على ان كتمان الحق في الدين يوجب الويل وقوله تعالى (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) زجر عظيم لمن يعصى ربه كما ان قوله تعالى (وَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ترغيب عظيم في التمسك بطاعته. ثمّ ذكر انه أخذ ميثاق بني اسرائيل في أن لا يعبدوا الّا اللّه وفي أن
يتمسكوا بسائر ما ذكر بعد ذلك وانهم خالفوا وتولوا الا قليلا وانهم سفكوا الدماء. وبين تعالى ان جزاء ذلك الخزي في الحياة الدنيا وان يردوا الى أشد العذاب وزجر بذلك عن مثل فعلهم وذمهم على التكذيب بالقرآن بقوله (وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا ويَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) كل ذلك رجز عن فعل مثلهم.
[مسألة]
وقالوا قال تعالى (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ) فقالوا كيف يجوز تعليله لإنزاله القرآن بأنهم أعداؤه. وجوابنا انه أراد توكيد ذمهم بانه بالمحل الذي ينزل به الوحي والقرآن لاجله على الرسل وزجرهم بذلك عن عداوتهم ثمّ بين ان من كان عدوا للّه وملائكته ورسله وجبريل وميكال فاللّه عدوه بقوله (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ).
[مسألة]
وسألوا عن قوله (وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) وقالوا الآية تدل على ان السحر من عند اللّه وان الملائكة أنزلت به وعلى انه اذا أدى الى مضرة فبإذن اللّه. وجوابنا انه تعالى حكى عن اليهود انهم نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم وانهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين والمراد بذلك ما تخبر به الشياطين على ملك سليمان ويكذبون عليه فانهم يتبرءون من نبوّته أعني اليهود وينسبوه الى السحر كما حكت الشياطين فقال تعالى (وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ) نزهه عن السحر الذي نسبوه اليه ثمّ قال (وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) بان نسبوا السحر الى سليمان على وجه الكذب وجحدوا نبوّته ثمّ قال تعالى في وصفه الشياطين (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) على وجه الاضرار ثمّ قال تعالى (وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ ومارُوتَ) فبين انه تعالى أنزل ببابل السحر عليهما ليعرفا الناس فيتحرزوا من ضرره لان تعريف الشر حسن ومعه يصح الاحتراز
ولذلك قال تعالى (وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) يعني الملكين (حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) فبين ان مرادهم بتعليم السحر لا أن يعمل به ثمّ قوله تعالى (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وزَوْجِهِ) وهو ذم لمن يتعلم من الملكين فلا يتحرز بل يعمل به فهو بمنزلة أن يعرف من الرسول الزنا وغيره من الفواحش فبعضهم يعمل بذلك فلا يخرج بيان النبي صلّى اللّه عليه وسلم لذلك من أن يكون حسنا فكأنه قال (وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) واتبعوا (ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) فيما يعملون على وجه الذم لهم. وقد روي عن الحسن انه كان يقرأ (وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ ومارُوتَ) ويقول كانا علجين أقلفين يأمران بالسحر ويتمسكان به والقراءة المشهورة خلاف ذلك وقد قيل في تأويله ان المراد واتبعوا ما تتلوا الشياطين أي تحكي وتخبر على ملك سليمان وما أنزل على الملكين ببابل فكأنهم كما كذبوا على ملك سليمان كذبوا أيضا على ما أنزل على الملكين لا أنهما أنزلا ليعلما السحر ويكون قوله (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما) أي من السحر والكفر والوجه الأول أقوى.
فان قيل وما السحر الذي هو كفر أ تقولون ان جميعه كفر أو بعضه وما حقيقته. قيل له ان السحر في الأصل هو ما لطف مأخذه مما يقصد به الاضرار والاحتيال لكن في الناس من يوهم انه يفعل ما لا حقيقة له كما يدعي بعضهم أنه يطير بلا جناح ويركب المكانس وغيرها فيبعد بالوقت اليسير وانه يخيط الناس ويصور المرء بخلاف صورته الى ما شاكل ذلك وهو قال صلّى اللّه عليه وسلم (من أتى كاهنا أو عرافا فصدقهما فيما يقولان فقد كفر بما أنزل على محمد) لانهم يوهمون انهم يعلمون الغيب وذلك كذب منهم ربما صدق في هذا الزمان بعض المنجمين في مثل ذلك وهو عظيم يوجب الطعن في نبوّة الانبياء صلوات اللّه عليهم الذين انما عرفت نبوّتهم بان أظهروا علم الغيب نحو قوله عز وجل في وصف عيسى عليه السلام (وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ) فمن أوهم ذلك فهو كافر في
في الحقيقة فاما السحر الذي يصح وقوعه فهو ما لم يلطف من هذه الافعال التي تجري مجرى الحيل فالأول هو الكفر والثاني يحتمل أن يكون كفرا ويحتمل خلاف ذلك فان أوهم انه يفرق بين المرء وزوجه بان يفعل في قلب الزوج أو قلبها ما لا يمكن ويكون معجزا فهو كالأول وان أوهم انه يزيل العقل ويحدث العيوب في أحدهما فهو كالاول وان ذكر انه يحتال بما يمكن للمرء أن يفعله حتى يفرق بينهما أو يقتل أو يفعل ما يؤدي الى المرض فذلك فسق ليس بكفر وقد ذكر بعض مشايخ المتكلمين ممن عمل كتاب المتشابه ان رجلا تزوج امرأة على أخرى فعظم ذلك على الأولى وانها استعانت بغيرها فتوصل الى أن قال للثانية ان أردت أن تنغرس محبتك في قلب الزوج ليختارك على الاولى فخذي موسى فاقطعي ثلاث شعرات من لحيته وهي ما يقارب الحلق وألقى الى الزوج بأن هذه المرأة ستحتال عليه بالقتل فلما قرّبت الموسى منه في المحل الذي حرره لم يشك الزوج بان الامر على ما قال الرجل من انها قصدت قتله فقام اليها وقتلها وكان ذلك تفرقة وقيل توصل اليها بهذه الحيلة فما يجري هذا المجرى يكون فسقا ولا يكون كفرا وكل ذلك مما يصح تعرفه من الانبياء لكنهم يعلمون ذلك لكي يتحرز منه فيحسن ذلك والشياطين يعلمون ليعمل به فيقبح ذلك فهذا تأويل الآية وقوله تعالى (وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) يحتمل أن يكون المراد بهذا الاذن العلم دون الأمر ويحتمل أن يكون المراد فعلهم نفسه فيما عنده بفعل اللّه تعالى ما يضر من يضر غيره فيكون ذلك منسوبا الى اللّه تعالى وما يفعله من حيث يقع بارادته يجوز أن يقال انه باذنه وبين ان من يفعل ذلك ماله عند اللّه من خلاق وزجر بذلك عن التمسك بالسحر والحيل ثمّ قال (وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) لأن من باع نفسه بما يأتيه من السحر فهو خاسر الصفقة في هذه التجارة.
[مسألة]
قالوا ما معنى قوله تعالى (وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ) وكيف تكون المثوبة خيرا من السحر
والسحر لا خير فيه. وجوابنا ان قوله (وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا واتَّقَوْا) يدل على ان الايمان باختيارهم يقع وانهم اذا لم يؤمنوا فهم مقصرون بخلاف من يقول انه تعالى يخلق ذلك فيهم ورغب بذلك في الايمان والتقوى ومعنى قوله في المثوبة انها خير أي أن ما يؤدي اليها اولى أن يتمسك به وهذا كقوله تعالى (قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) وإنما أراد ان جنة الخلد هو الخير دون النار.
[مسألة]
يقال ما معنى قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وقُولُوا انْظُرْنا واسْمَعُوا) ومعنا هما واحد فكيف يصح الامر بكلمة والنهي عن الاخرى والفائدة لا تختلف. وجوابنا ان المنقول في الخبر ان اليهود كانت تقول للنبي صلّى اللّه عليه وسلم (راعِنا) بكسر العين وتقصد الهزء وقوله تعالى (وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وطَعْناً فِي الدِّينِ) يدل على ذلك فأمر اللّه تعالى بالعدول عنه الى نظيره وهو قوله (انظرنا) وفي ذلك دلالة على وجوب تجنب الكلمة اذا أوهمت الخطأ وقوله تعالى في آخر الآية (وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) يدل على ما قلناه من انهم قصدوا أمرا مذموما في راعنا فلذلك نقل اللّه تعالى المؤمنين عنها الى قوله (انظرنا).
[مسألة]
وقالوا كيف يجوز أن ينسخ تعالى شيئا بشيء كما قال (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) وهل يدل ذلك على ان لآية لا تنسخ الا بآية. وجوابنا انه يتعبد المكلف في كل وقت بما هو مصلحة له واذا كان في زمن الوحي ربما يكون الصلاح انتظار نقل المكلف من عبادة الى عبادة فعلى هذا الوجه ينسخ تعالى العبادة بغيرها كما يفعل تعالى البرد بعد الحر والليل بعد النهار وقوله (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) أي بما هو أصلح من الاولى ولا فرق بين أن يعلمنا ذلك بقرآن أو بوحي الى الرسول صلّى اللّه عليه وسلم
ثمّ بين انه تعالى على هذه المصالح قدير بان يبينها كما شاء فلا يدل ذلك على ان كل شيء داخل في قدرته كنحو أفعال العباد من كفر وايمان وقد يقال هو قدير على كل شيء لانه الذي يقدر غيره كما يقال للملك انه مالك للبلاد وما فيها لما كان مقتدرا على ان يملك الغير ويسلبه ملكه ولذلك قال (أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والْأَرْضِ وما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ولا نَصِيرٍ) وزجر المرء عن أن يتكل الا على عبادته.
[مسألة]
قالوا كيف قال تعالى (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) وكيف منع من مسألة الرسول وقد نصبه اللّه تعالى معلما ومبينا. وجوابنا ان المراد المنع من مسألته على الرد والتعنت لا على وجه التفهم ولذلك قال (وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ).
[مسألة]
وربما قالوا كيف يبدأ تعالى بقوله (أَمْ تُرِيدُونَ) وعند العرب لا يبتدأ بذلك الاستفهام بل يبنى على كلام متقدم. وجوابنا انه قد يحذف المتقدم اذا دل الكلام عليه وذلك كقوله (الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ) ثمّ قال (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) وقد قيل ان معناه بل تريدون أن تسألوا رسولكم يقول ذلك لليهود وقد تقدم ذكرهم.
[مسألة]
وسألوا فقالوا كيف قال (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) أ فتقولون كانوا يعرفون الاسلام والنبوّة مع اظهارهم اليهودية. وجوابنا ان ظاهر الآية يدل على ذلك لأن كثيرا منهم كان يعرف ذلك ويبقي على اليهودية لاعراض الدنيا وقوله تعالى (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) يدل على ان حسدهم للرسول وللمؤمنين لم يكن من خلق اللّه تعالى والا لم يضفه الى أنفسهم ورغب تعالى بقوله
(فَاعْفُوا واصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) وبقوله (وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ وما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ) على هذه الأعمال.
[مسألة]
وقالوا ان قوله تعالى (وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) لا يصح لان الذين كان يحكى عنهم ان كانوا من اليهود لا يقولون ذلك في النصارى وان كانوا من النصارى لا يقولون ذلك في اليهود فكيف تصح هذه الحكاية. وجوابنا ان الفائدة معقولة والمراد ان اليهود قالت (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً) والنصارى قالت لن يدخل الجنة الا من كان نصارى لان ذكر أهل الكتاب قد تقدم وحالهم في طعن كل واحد منهم في الآخر معلومة فلا بد من أن يكون المراد ما ذكرنا ثمّ بيّن تعالى ان تلك أمانيهم لا برهان عليه ثمّ قال (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) يعني بالتعبد (وَ هُوَ مُحْسِنٌ) وأراد بذلك مجانبة المعاصي (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) فجمع بين الأمرين في حصول الثواب لئلا يغتر المكلف فيقصر في أحدهما.
[مسألة]
وربما قيل ما فائدة قوله (وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) وذلك معلوم من حالهم فأيّ فائدة في وصفهم بذلك. وجوابنا ان الفائدة بذلك قوله (وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) فبين انهم ذهلوا عما تدل عليه كتبهم من تصديق البعض للبعض فيما أودعه اللّه تعالى في الكتب وقد يقال ان فلانا ليس على شيء وان كان في جملة ما يقوله ما هو حق اذا لم يتكامل تمسكه بالحق كما يقول فيمن يخالف في التوحيد والعدل ليس هو على شيء وان كان يقول بالحق في بعض الاشياء ولذلك قال تعالى بعده (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).
[مسألة]
وقالوا قد قال تعالى (وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) كيف يصح ذلك ومعلوم انهم قد يدخلون المساجد وليسوا مخالفين وما معنى سعيهم في خرابها ولم يتفق ذلك. وجوابنا انه قد روى ان أبا بكر الصديق كان بنى مسجدا بمكة يدعو الناس الى اللّه تعالى فسعى الكفار في تخريبه فانزل اللّه تعالى ذلك وقد قيل ان المراد منعهم الرسول صلّى اللّه عليه وسلم والصحابة حتى اضطروا الى الهجرة فبين اللّه تعالى انهم كما أخافوهم حتى فارقوا مسجد مكة فسيرفعه بحيث لا يدخلونه الا خائفين ومعنى قوله وسعى في خرابها في المنع عن عمارتها بالصلاة وسائر ما يبنى له المسجد كقوله (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ وأَقامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكاةَ ولَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ) فكما جعل ذلك عمارة له جعل المنع من ذلك سعيا في خرابه فان حمل الكلام على المسجد الحرام لم يكن لهؤلاء الكفار ان يدخلوها الا على وجه الخوف والا فان حمل على سائر المساجد كما قاله قوم فالمراد انهم اذا دخلوا يكونون خائفين من المسلمين فلا يدخلونها الا لمحاكمة او غيرها فيكونون خائفين ثمّ قال تعالى (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ ولَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ).
[مسألة]
وربما قيل أما يدل قوله (وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ والْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) على المكان قلنا المراد ان هناك يوجد رضا اللّه كقول القائل لغيره من شغلك ان تصلي لوجه اللّه أي طلبا لمرضاته لا على وجه الرياء والسمعة ولو كان المراد بذلك المكان لوجب ان يكون تعالى في وقت واحد في أماكن بحسب صلاة المصلين وقد يذكر الوجه ويراد به ذات اللّه وقد يقول القائل لغيره وقد سأله حاجة أحب أن تفعل ذلك لوجه اللّه تعالى اي تقربا الى اللّه فاما معنى قوله (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ان ذلك لكم بحسب تنزيه القرآن (3)