السلام لأنهم حضروها ويحتمل في هذه البركة أنها لمكان البقعة التي أصابتها النار ولذلك قال تعالى في سورة القصص (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) وقد قيل في من حولها أنهم لم يكونوا مؤمنين فأثبت اللّه تعالى البركة في النار لما جاءها موسى لما له من الفائدة في حضورها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) كيف يصح هذا الاستثناء من المرسلين ولا يجوز أن يكون فيهم ظالم خائف؟ وجوابنا انه قد قيل الا من ظلم بالاقدام على صغيرة ثمّ تلافاه بالتوبة فانه غفور رحيم وقد قيل ان المراد لكن من ظلم فانه يخاف الا ان يتوب فيكون كلاما مستأنفا في غير الرسل لئلا يتوهم ان الخوف لا يزول الا عن الرسل وقوله تعالى من بعد (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) لا تناقض فيه لانّ الحجة بعد البيان واليقين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وجُنُودُهُ وهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) كيف يصح من سليمان ان يسمع قول النمل وكيف صح من النمل هذا القول؟ وجوابنا أنها لما قربت من موضع مسيره صلّى اللّه عليه وسلم وأنطقها اللّه تعالى بذلك صح ان يعلم ومثل ذلك وان كان معجزا فانه يصح في ايام الانبياء صلوات اللّه عليهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) كيف يصح هذا القول من سليمان صلّى اللّه عليه وسلم في طير ليس

بمكلف حتى يعذبه وكيف يذكر ذلك في جملة الزجر وكيف يزيد ذلك بأن يأتيه بسلطان مبين وكيف يعرف الهدهد ذلك من مراده حتى يأتيه بخبر سبأ؟
وجوابنا ان اللّه تعالى كان سخّر له الطير وفي جملتها ما يكون أقرب الى الفهم ولو كان ممنوعا من النطق ويجوز في تلك الايام ان يكون تعالى قد زاد في علمها بالهام وأن يكون سليمان قد تقدم من قبل بأمور عرفها الطير او الهدهد خاصة فلذلك قال (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) فأما قوله تعالى عز وجل (لَأُعَذِّبَنَّهُ) فالمراد به التأديب فكما يؤدب المرء من قارب البلوغ فكذلك قال للهدهد فأما الذبح فقد يجوز أن يكون جائزا في شريعته كما ثبت في شريعتنا مثله فيما يؤكل فلا مطعن على ذلك بما ذكروه وقوله من بعد في صفة المرأة وأنها تملكهم وانهم يسجدون للشمس من دون اللّه فقد يصحّ وقوع مثله ممن لم يبلغ حد التكليف فلا يصح أن يعترض به على ما ذكرنا وقوله تعالى من بعد (قالَ سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) يصح في الهدهد وإن كان لا يعرف التوحيد اذا أجرى الكلام على الحد الذي ذكرنا فان مثله يصح من المراهق لانه يعرف الفصل بين من يظهر التوحيد ويعبد ربه بأفعال وبين من يسجد لغير اللّه تعالى وان لم يكن مكلفا.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) كيف يصح نقل عرشها من ذلك الموضع البعيد في هذا القدر من الاوقات وان ذلك معلومة استحالته؟ وجوابنا أن سرعة الحركة والتحريك لا يعلم منتهى حده فلا سريع الا ويجوز أسرع منه فلا يمتنع صحة ذلك اذا كان اللّه تعالى مقويا له عليه ومعنى قبل ان يرتد اليك طرفك المبالغة في الاسراع لان ذلك قد يقال في الامر السريع الشديد السرعة ويحتمل أن طرفه لا يرتد الا بعد اوقات ويكون ذلك كالمعلوم من حاله لأن من نظر الى جهة ربما أطال النظر اليها ثمّ يرتد طرفه ومعنى قوله من بعد في قصة لوط صلّى اللّه عليه وسلم (أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ

وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) الفائدة فيه إعظام ما فعلوه لأنه اذا كان جهرة فهو أعظم من أن يكون خفية وربّ شيء يحسن خلوة ويقبح كونه بحيث يشاهد وما ذكره تعالى من بعد من قوله (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وسَلامٌ عَلى عِبادِهِ) فيه تنبيه على عظم نعمة اللّه جل وعز لتدبر فيقام بحق شكره فذكر ما يقارب عشرين خصلة من النعم التي لا يقدر عليها غيره منبها على توحيده ثمّ قال في آخره (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) موبخا لهم على جحد ذلك ثمّ على قول الكفار (وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذا كُنَّا تُراباً وآباؤُنا) فانه يقبح منهم هذا القول مع تقدم تلك الدلائل ومع قوله بعد ذلك (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) وقوله (وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ والْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) يدل على أن الحوادث كلها مكتوبة في اللوح المحفوظ ليستدل بذلك الملائكة على قدرة اللّه وعلمه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) كيف يصح أن يحسبها من يشاهدها جامدة ساكنة مع شدة الحركة وسرعتها؟ وجوابنا أن الجمود في العادة الاتصال ولا يكون إلّا مع السكون وعند سرعة الحركة لا يحتمل التفرق فقال تعالى (وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) وهي على حالها التي يظن أنها لا تكون الا مع السكون وقد قيل أنها تبلغ في سرعة الحركة ما لا يكاد يظن أنها متحركة خصوصا اذا كان المرء يتحرك مع حركتها فيكون كراكب السفينة فانه يظن مع سائر الركاب أنهم ساكنون وإن كانوا يتحركون أسرع حركة وقوله تعالى (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أحد ما يدل على ان الكفر والفساد ليس من فعله والا لكان يصح وصفه بانه محكم متقن وقوله تعالى من

بعد (وَ أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ومَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) يدل على أن الاهتداء والضلال من فعل العبد وقوله تعالى من بعد (وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) لكي يتصور المرء نفسه فيما يأتي ويذر أنه يبصر ويسمع.
تنزيه القرآن (20)

سورة القصص
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ونَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) أ ليس جعل اللّه تعالى لهم أئمة يدل على أنه خلقهم كذلك فاذا كانوا أئمة بأفعال فيجب ان تكون تلك الافعال خلقا للّه؟ وجوابنا أنهم إنما يكونون أئمة بالعقل والخوف والتمكن وبالألطاف من قبل اللّه تعالى وكل ذلك من خلقه وهو الذي أراد تعالى وكل ذلك من خلقه وهو الذي أراد تعالى وقيل ان المراد حكمنا بذلك كقوله تعالى (وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) فالمراد عند الجميع قضينا وحكمنا وبيّن ذلك قوله تعالى (وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) فأراد بذلك نحو ما ذكرنا لأن التركة لا تكون باختيار الوارث وكذلك قال (وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) واذا كان موسى صلّى اللّه عليه وسلم وقومه إنما تم لهم ما تم بما أنزل اللّه تعالى بفرعون وبما خصه به من المعجزات وكل ذلك من فعله صحّ أن يقول وجعلناهم أئمّة وليس المراد خلق فيهم صلاتهم وعبادتهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ولا تَخافِي ولا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) كيف يصح أن يوحى اليها وقد بيّن في غير آية أنه ما أرسل إلا رجالا وكيف يصح وهي لم تكن نبية فيوحى اليها بما لا يعلم إلا من قبله تعالى؟ وجوابنا أنه

يجوز ان يعرفها ذلك على لسان نبي الزمان فلا يلزم ما قلتم ويحتمل انه ألهمها ذلك فقوى في ظنها كل ذلك الى حصول العلم لها به وقد قيل أراها تعالى ذلك في المنام بعلامات مخصوصة فعلمت بها والأقرب ما قدمناه من أن رسولا كان في الزمان فعرّفها أو نزل جبريل فعرفها على ان ذلك من معجزات ذلك الرسول.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وحَزَناً) وكيف يصح ذلك مع قول امرأة فرعون (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي ولَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً)؟ وجوابنا ان المراد بقوله تعالى (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وحَزَناً) العاقبة والمراد بقوله تعالى قرة عين ما دعاهم الى التقاطه وذلك لا تنافي فيه وقد ثبت أنّ هذه اللفظة قد يراد بها المآل وما يقصد إليه كقول القائل في المرضعة والوالدة أنها تربّي ولدها لكي تنتفع به ويبقى لها وقد يقال مرضعة للموت إذا كان هذا هو العاقبة وعلى هذا الوجه قال الشاعر:
وأم سماك فلا تجزعي ... فللموت ما علت الوالدة
فاما قوله تعالى من بعد (وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) فالمراد فراغ قلبها من سائر أمور الدنيا سوى أمر ولدها فلذلك قال تعالى (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي تصدق بما أوحينا اليها وقوله تعالى (وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) المراد به الصرف والمنع لا التحريم في الحقيقة وذلك كقوله تعالى في أهل النار (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) فليس لأحد ان يطعن بذلك وكقوله (وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) وقوله تعالى (وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) يدل على أن ذلك الوحي كان مقطوعا به على ما ذكرناه.
[مسألة]
ومتى قيل في قوله تعالى (هذا مِنْ شِيعَتِهِ وهذا مِنْ)

(عَدُوِّهِ) كيف يصح ذلك وإنما يقال هذا من أعدائه فيستقيم الكلام؟ فجوابنا ان المراد ما ذكرته والعدو قد يقع على الجمع وعلى الواحد على طريقة العرب في المصادر.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) كيف يصح من النبي أن يقع منه قتل من لا يحل دمه؟ وجوابنا ان وكزه كان على وجه الدفع لمّا أراد مخاصمته ولم يظن انه يؤدي الى قتله وذلك كالمرء يؤدب ولده استصلاحا له فيؤديه الى الموت وهذا من الصغائر التي نجوزها على الانبياء ولذلك قال (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) وذلك يدل على أن أفعال العباد ليست من خلق اللّه تعالى وإلا كان الأشبه به أن يقول هذا من عمل الرحمن ولذلك قال بعده (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وقوله تعالى (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) أحد ما يدل ايضا على ما قلناه لأن فعل المجرمين إن خلق جرمهم فلا فائدة في أن يكون ظهيرا وإن لم يخلق هو أيضا فلا فائدة في ذلك وقوله تعالى (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) يحتمل أنه ظهر منه ما يوجب أن لا يعينه ويحتمل أنه خاف إن أعانه على نفسه منهم فلا مطعن في ذلك وقوله من بعد (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) يدل على التأويل الثاني وانه خاف من ذلك فلهذا امتنع من نصرته وقوله تعالى (وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) أحد ما يدل على وجوب العمل بالخبر فيما يجري مجرى الخوف ولذلك خرج خائفا الى مدين وسأل اللّه تعالى أن ينجيه من القوم الظالمين ولو كان ظلمهم من خلق اللّه لكان ينجيه من نفسه تعالى اللّه عن قولهم علوا كبيرا وقوله تعالى من بعد (فَسَقى لَهُما ثُمَ

تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) مع شدة حاجته عجيب في اقتصاره على هذا القدر حتى دعاه شعيب وأمّنه وكفاه وأنكحه ابنته وقضى له موسى بعد ذلك أحسن الأجلين. فالمروي عن المفسرين أنه قضى الاجل الأكمل وقوله بعد (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أحد ما يدل على حدوث كلام اللّه تعالى وإلا كان يجب أن يكون أبدا قائلا لموسى هذا القول.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) كيف يصح على فرعون أن يظن هذا الظن مع كمال عقله ومعرفته بأن القصور وإن بنيت أطول منها فلا يصح فيها ذلك وكيف يصح ان يقول هذا القول مع قوله تعالى في سورة بني اسرائيل (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ والْأَرْضِ) فان كان عالما بذلك فكيف يصح ان يظن الاطلاع إلى إله موسى؟
وجوابنا ان فرعون لما ادعى الالهية وصدقه قومه لجهلهم كان يظهر القدرة ويدعيها وإن كان في الباطن يعلم خلاف ذلك وعلى هذا الوجه قال ما علمت لكم من إله غيري مع علمه باحتياجه الى الاكل والشرب ودفع المضار وعلى هذا الوجه أيضا قال لهامان وذلك لا يمنع من ان يكون في الحقيقة عالما باللّه تعالى على ما يدل عليه قوله (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ) فليس بين الآيتين اختلاف.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ) أ ليس يدل على شك منه في النبوة؟ وجوابنا انه تعالى قال ذلك على وجه الحجاج ولذلك قال بعده (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ

فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) فأما قوله تعالى بعد ذلك (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) فالمراد لا تثيبه وليس المراد لا تدله ولا تبين وكيف يصح ذلك وقد قال جل وعز (وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أو يقال أنه ظهر منه صلّى اللّه عليه وسلم شدة المحبة لإيمان ابي طالب عمه وأن يكون من أهل الجنة فأنزل اللّه تعالى ذلك منبها به على أن الجنة لا تنال إلا بالعمل الصالح ولذلك قال (وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) كيف يصح أن يصف نفسه بأنه يختار ما اختاروه أو يختار ما لم يختاروه وأي فائدة في ذلك؟ وجوابنا أن المراد ما كان لهم الخيرة في ترك عبادة اللّه واتخاذ الاصنام آلهة ولذلك قال بعده (سُبْحانَ اللَّهِ وتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) فبين أنه الخالق لما يشاء وأنه يختار لهم التوبة لان هذه الآية عقيب قوله (فَأَمَّا مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) فبين أنه تعالى يختار للمكلفين ما هو أصلح وأنه ليس لهم الخيرة فيما يختارونه بارادتهم وشهوتهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) كيف يصح أن يبلغ في الغنى هذا الحد ومثل ذلك متعذر في العادة؟ وجوابنا أن العصبة قد يقل عددها ويكثر فلا يمتنع أن يكون اللّه تعالى قد آتاه من الاموال ما فرقه في الظروف الكثيرة وبلغت مفاتيح غلقها ما ذكره اللّه تعالى ولسنا نعلم أن الغلق في ذلك الزمان كيف كان فانه قد يعظم فتعظم لذلك مفاتيحه وقد يصغر ومعلوم أن كثيرا من الملوك يجتمع في خزانته مثل ذلك وأكثر فلا حاجة لاستبعاد ذلك وقوله تعالى (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ) لا بد من حذف في الكلام وهو لا تفرح بما حصل فرح من يظن أنه يدوم ويبقى وقوله (وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ

اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) يدل على ما قلناه فكأنهم أشاروا عليه بأن ينفقه في سبيل اللّه وينصرف عن الجمع الكثير وقوله (وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) المراد به التمتع بالقدر الذي يخرج في العرف وقد قيل أن المراد أن يأتي في الدنيا ما يفوز لأجله بالآخرة إذ الدنيا إنما تراد لمثل ذلك إذا وسّع اللّه على المرء ولذلك قال تعالى آخرا (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وعَمِلَ صالِحاً) حاكيا عن أولي العلم منهم ونبه تعالى بقوله (فَخَسَفْنا بِهِ وبِدارِهِ الْأَرْضَ) على أن الاعتداء بالدنيا وان كثرت من أعظم الخطأ وأن الواجب تفريق ذلك في مصالح الدين والدنيا وقال تعالى (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ ولا فَساداً والْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) فان من يكون بغيته جمع الاموال وعمارة الدنيا ويلهو عن الآخرة فمراده العلو في الارض والفساد فان أضاف الى ذلك التسلط على الناس لما فضله اللّه به فهو أعظم ولمن يعنى بذلك ارادة العلو في باب الدين فان بلغ الانبياء هذه الرتبة العالية فيجوز أن يريدوا انقياد الناس لهم ودخولهم تحت طوعهم وقوله عز وجل (وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أحد ما يدل على أنه لا يزيد في العقاب البتة وان كان يزيد على الثواب التفضل الكثير وقوله تعالى من بعد (وَ لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) فالمراد به أنه يفني جميع الاشياء ثمّ يعيد ما يجب إعادته وقوله إلا وجهه المراد به إلا هو فليس للمشبهة تعلق بذلك ويلزمهم أن أثبتوا للّه وجها ويدا أن يقولوا إن سائره يفنى ويبقى وجهه وليس ذلك مما يعتقده مسلم وعلى هذا السبيل يقال هذا وجه الامر وهذا وجه الصواب فقد يذكر الوجه ويراد نفس الشيء فعلى هذا الوجه نتأول الآية.

29 / 47
ع
En
A+
A-