حكم به داود كان حقا في وقته وفهم سليمان نسخ ذلك فلا يدل على مناقضة في الكلام.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ والطَّيْرَ) كيف يصح التسبيح من الجبال والطير وما معنى قوله بعد ذلك (وَ كُنَّا فاعِلِينَ) وقد أفهم ذلك بقوله (وَ سَخَّرْنا)؟
وجوابنا أن تسبيح الجبال هو ما يظهر من دلالتها على أنه تعالى منزه عمّا لا يجوز عليه كما ذكرنا في قوله جل وعز (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ) الى غير ذلك فلما سخر ذلك لداود على خلاف المعتاد فكان يتصرف فيه كما يريد جاز أن يقول (يُسَبِّحْنَ) بظهور أمر معجز فيها وفي الطير فهذا معنى الكلام وأما معنى قوله (وَ كُنَّا فاعِلِينَ) فهو إخبار عن طريقه جل وعز في فعل مثل ذلك فلذلك أتبعه بما أظهره عليه وعلى سليمان صلّى اللّه عليه وسلم من العجائب وبما أظهره على أيوب وسائر الأنبياء صلوات اللّه عليهم وبين تعالى بعد ما اقتصه من أخبارهم وما أظهره من العجائب فيهم عظم منزلتهم فقال تعالى (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ويَدْعُونَنا رَغَباً ورَهَباً وكانُوا لَنا خاشِعِينَ) فبعث بذلك على التمسك بمثل هذه الطريقة ولذلك قال تعالى بعده (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) فبعث بكل ما تقدم على إخلاص العبادة له ونبه على عظيم المجازاة في العبادة بقوله (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) فبين أنه يجازي على سائر ما فعل ثمّ بين من بعد أشراط الساعة بقوله (وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) وبين كيف ينزل بهم أنواع الخيرات إذا عاينوا العذاب فأما قوله تعالى (إِنَّكُمْ وما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) فالمراد به الاصنام والاوثان ولا يدخل في ذلك المسيح كما ظنه بعض من لا يعرف وذلك محكي عن بعض المتقدمين بيّن ذلك أنه قال
تعالى (وَ ما تَعْبُدُونَ) ولو كان المراد العقلاء لأورده بلفظ من وظاهر ذلك أنه جل وعز يعيد هذه الاصنام ويجعلها كالحطب في النار فيشاهدها من كان يعبدها فيكون حجة أعظم وبيّن بعده الفضل بين منزلة هؤلاء وبين منزلة الذين سبقت لهم منه الحسنى فقال تعالى (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) وبيّن أنه لا يحزنهم الفزع الاكبر وأن الملائكة تبشرهم بمنزلة الثواب وبيّن بقوله تعالى (نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا) أنه تعالى قد أوجب على نفسه إعادة الخلق وما يتصل بهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) كيف يصح ذلك وهو لا يحكم الا بالحق وما الفائدة في أمره بهذا الدعاء؟
وجوابنا أن الدعاء بما لا يجوز خلافه قد يحسن وعلى هذا الوجه ندعو اللّه للأنبياء والرسل ونقول اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم ونقول اغفر للمؤمنين والمؤمنات وعلى هذا الوجه قال ابراهيم (لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) فكيف ننكر ذلك وكيف نظن أنه يجوز أن يحكم بالباطل تعالى اللّه عن قولهم علوا كبيرا.
سورة الحج
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) كيف يتعلق وصف الساعة بالتقوى؟
وجوابنا أنه بيّن أنّ ذلك الأمر العظيم يزول عن المتقين فيأتون ما يخافه المجرم وذلك ترغيب في التقوى وتزهيد في خلافها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) كيف يصح ذلك وليس هناك رضاع ولا حمل؟ وجوابنا أن ذلك كالمثل في عظم أهوال الآخرة وأنه يبلغ في العظم مبلغ ما يلهي المرء عن ولده في باب الرّضاع والحمل وذلك لأن من أعظم الاشفاق إشفاق المرضعة على ولدها والحامل على حملها هذا وقد يجوز أن يعيد اللّه المرضعة على الولد والحامل على صفتها وقد روى عنه صلّى اللّه عليه وسلم أن كل أحد يموت يبعث على ما مات عليه فيكون ذلك كالحقيقة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى وما هُمْ بِسُكارى) أ ليس ذلك متناقضا؟ وجوابنا أن المراد أنهم قد بلغوا في التحيّر إلى حد السكران وإن لم يكن هناك سكر ويحتمل أنهم سكارى من الخوف والحيرة وما هم بسكارى من الخمر ومثل ذلك يدخل في نهاية الفصاحة فكيف يعدّ مناقضا وقد يقبل المرء على من لحقه الدهش والحيرة فيقول مثل ذلك فلذلك قال بعده (وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) فنبه على انه وصفهم
بذلك لخوفهم من هذا العذاب وقوله تعالى بعد ذلك (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) يدل على أن معرفة اللّه تعالى مكتسبة وأن من لا علم له لا يحل ان يجادل بل الواجب أن ينظر ويتعلم وفيه دلالة على بطلان التقليد وقوله (وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) يدل على أن هذا الاتباع فعله ولذلك ذمّه عليه وقوله (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ويَهْدِيهِ) المراد به يصرفه عن طريق الجنّة ولذلك قال (وَ يَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) ونبّه تعالى على قدرته على الاعادة بقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) فدل بخلقه الانسان على هذا الترتيب وبقدرته عليه على جواز الاعادة ودلّ أيضا بقوله (وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) على مثل ذلك ثمّ حقق ذلك بقوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ما قدمت من قدرته على الاعادة ومعنى ذلك أن إلهيته ووحدانيته هي الحق فوصف بذلك نفسه وأراد ما ذكرنا وذلك مجاز لأن الحق هو عبارة عن صحة الامور التي يعتقدها المحق ولذلك اتبعه بقوله (وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) فبطل بذلك ما كان عليه فرقة من العرب من إنكار الاعادة كما وصفهم بقوله تعالى (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وهِيَ رَمِيمٌ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ) ما المفهوم من ذلك ولا يعرف ذلك في اللغة؟ وجوابنا أن المنافق يظهر العباد ويبطن خلافها فشبه تعالى ظاهر أمره بحرف لأن الحرف هو طرف الشيء والمرء يحتاج في العبادة أن يظهر باطنا وظاهرا فلمّا أظهر المنافق ذلك من أحد الوجهين وصفه تعالى بذلك ولذلك قال بعده (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ)
(الدُّنْيا والْآخِرَةَ) وهذا الجنس من التشبيه يبلغ من الفصاحة ما لا تبلغه حقائق الكلام ولذلك قال تعالى (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وما لا يَنْفَعُهُ) فبين أنه يعبد الاصنام وبيّن أن ضرر ذلك أقرب من نفعه وكل ذلك يحقق أن العبادة من فعل العبد وقوله تعالى (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا والْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) يدل على ان العبد هو الفاعل لأنه إذا خلق فيه كل أفعاله فأيّ فائدة في النصرة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) ان ذلك يدل على أنه يهدي قوما دون قوم بخلاف قولكم ان الهدى عام.
وجوابنا ان المراد يكلف من يريد لأن في الناس من لا يبلغه حد التكليف أو يحتمل ان يريد الهداية إلى الثواب لأنها خاصة في المطيعين دون العصاة ورغّب تعالى المؤمن في تحمل المشاق واحتمال ما يناله من المبطلين بقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والصَّابِئِينَ والنَّصارى والْمَجُوسَ والَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فبيّن حسن عاقبة المؤمن عند الفضل ليكون في الدنيا وإن لحقه الذل صابرا وعلى هذا الوجه قال صلّى اللّه عليه وسلم الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ ومَنْ فِي الْأَرْضِ والشَّمْسُ والْقَمَرُ والنُّجُومُ والْجِبالُ والشَّجَرُ والدَّوَابُّ وكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) كيف يصح السجود من هذه الامور أكثرها جمادات؟ وجوابنا ان المراد بهذا السجود الخضوع فالمراد بذلك أنه تعالى يصرفها في الامور ولا مانع ولأجل ذلك لما ذكر الذي للمكلفين خص ولم يعم فقال تعالى (وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) لان فيهم من ينقاد فيطيع وفيهم خلافه ويحتمل أن يراد بالسجود دلالتها على تنزيه اللّه تعالى فلما لم يصحّ فيها السجود أريد ذلك ولما صح ذلك في الناس أريدت
الحقيقة فخصه ولذلك قال (وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) لما لم يفعل السجود والعبادة وقوله من بعد (إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) المراد به ما يشاء أن يفعله لا ما يشاء من غيره فليس للمخالفين أن يتعلقوا بذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) كيف يصح أن يريدوا ذلك مع اليأس من الخروج وهذه الارادة تكون قبيحة ولا يقع من أهل الآخرة القبيح عندكم.
وجوابنا أن في العلماء من قال ذكر تعالى الارادة وأراد ما في نفوسهم من الميل الى ذلك كما قال تعالى (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) وقال بعضهم يحسن أن يزيدوا ذلك وان لم ينالوه على وجه الاستغاثة كما يحسن منهم الصياح والصراخ على هذا الوجه فلهم في ذلك غرض يحسن منهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) ما فائدة ذلك في وصف المؤمنين في الجنة ومعلوم انهم يعرفون الطيب من القول أن يهدوا إليه؟ وجوابنا أن المراد به ما يعرفون من تحية البعض للبعض وذلك مخالف لما يقع في الدنيا لاغراض تتصل بمنافع الدنيا وبالتكليف ويحصل في هذا القول من السرور بالتعظيم ما لا يوجد مثله في دار الدنيا ومعنى قوله تعالى (وَ هُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) ما ينالهم من السرور بشكر نعم اللّه تعالى ويحتمل أن يكون المراد بذلك ما يكون في دار الدنيا وأنهم هدوا إلى الاخلاص والى اتباع طريقة الحق.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ والْبادِ) كيف يصح ذلك في الحرم وقد ثبت أنه مملوك؟ وجوابنا ان المراد نفس المسجد دون الدور والمنازل وفي ذلك خلاف شائع وعظم اللّه تعالى المعاصي في المسجد الحرام بقوله (وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ)
وبقوله (وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والْقائِمِينَ) وبقوله (وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) ولذلك قال بعده (ذلِكَ ومَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ومعنى قوله تعالى (وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) مواضع النسك لا نفس النسك الذي هو فعلها فليس للمخالفين أن يتعلقوا بذلك ونبّه بقوله تعالى (لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها ولا دِماؤُها ولكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) على ان الذي ينتفع به الاخلاص دون صورة العمل ونبه بقوله (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) على ان ذلك من قبل العبد لأنه لو كان من خلقه تعالى لما جاز أن لا يحبه ولا يريده.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وبِيَعٌ وصَلَواتٌ) كيف يصح هدم الصلوات؟ وجوابنا ان المراد أماكن الصلوات في غير المساجد ثمّ أتبعه بذكر المساجد ومثل ذلك مفهوم كقوله (وَ كَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ) الى ما شاكل ذلك ولذلك قال بعده (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) كيف يصحّ ذلك وفي جملة المؤمنين من يغلب؟ وجوابنا ان النصر على وجوه فلا بد فيمن ينصر ربّه بالطاعة والجهاد أن يكون اللّه تعالى ناصره ببعض الوجوه هذا والغلبة على المؤمن لا تخرجه عن أنه المنصور لأنه المحمود العاقبة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ولا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) ما الفائدة في ذلك ولا رسول إلّا وهو نبيّ عندكم؟ وجوابنا ان معنى وصف الرسول بأنه نبي إثبات ما يختص به من الرفعة العظيمة فلما كانت الفائدة في ذلك تنزيه القرآن (18)
مخالفة للفائدة في وصفه بأنه رسول جاز أن يذكرهما فإن قيل فما المراد بقوله (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) وكيف يصحّ ذلك على الانبياء؟ وجوابنا أن المراد إذا تلا القرآن يلحقه السهو في قراءته وذلك معروف في اللغة فلذلك قال بعده (فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ) ولو كان المراد غير ما ذكرناه من التلاوة لم يصح ذلك فامّا ما يرويه الحشوية من أنه صلّى اللّه عليه وسلم ذكر في قراءته أصنامهم وقال إن الغرانيق العلا شفاعتهن ترجى حتى فرح الكفار فلا أصل له ومثل ذلك لا يكون إلا من دسائس الملحدة فبيّن تعالى بذلك أن السهو في القراءة جائز على النبي صلّى اللّه عليه وسلم وأنه من يعد يبيّن الفضل من السهو ويبيّن الصحيح منه ولذلك قال بعده (وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) وقال بعده (وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) كيف يصح ذلك والملك في كل حال للّه عز وجل؟ وجوابنا أن المراد أنه في دار الدنيا ملك كثيرا من الناس الامور وفي الآخرة لا حاكم سواه البتة ولذلك يحكم بينهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) كيف يصح هذا الجواب وهو تعالى عالم بكل شيء؟ وجوابنا أن ذلك تحذير من مجادلتهم فحذّرهم بذلك بعد البيان ولذلك قال قبله (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) ثمّ قال (وَ إِنْ جادَلُوكَ) فاذا تقدم البيان جاز من الرسول صلّى اللّه عليه وسلم الاقتصار على هذا الجنس من التحذير ولذلك قال بعده (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وبيّن تعالى أنه عالم بكل شيء فقال (أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ والْأَرْضِ) وبين أيضا أن ما علمه من الامور التي تحدث قد كتبه ليستدل بها
الملائكة فقال (إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) وحذر بذلك عبّاد الاصنام فلذلك قال بعده (وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) ثمّ بيّن بعده ضعف المخلوقين بقوله (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) واكد ذلك بقوله (وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) فبين أنه على حقارته يغلب المرء فلا يتمكن الانسان من استنقاذ ما سلبه وقد حكي عن أبي الهذيل رحمه اللّه تعالى أن بعض الملوك سأله وقال ما الفائدة في خلق الذباب فأجاب بأن في ذلك إذلال الجبابرة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا ومِنَ النَّاسِ) أ ليس يدل ذلك على نقيض قوله تعالى (فاطِرِ السَّماواتِ والْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا) فأيهما هو الصواب أ يكون بعضهم كذلك أو كلهم أجمع؟ وجوابنا أن بعضا منهم يكون رسلا إلى الانبياء دون الكل ولئن كان جميعهم من الرسل فلا تناقض في ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) كيف يصح ذلك ولغة العرب صادرة عن إسماعيل؟ وجوابنا ان المراد المعني دون نفس الاسم فكأنه وصفهم بتمسكهم بالملة وبأنهم من أهل الثواب وهو المفهوم من وصفنا لهم بأنهم مسلمون ومؤمنون.
سورة المؤمنون
[مسألة]
ومتى قيل ما معنى قوله (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) ثمّ قوله آخرا (وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) فكرر ذلك وكيف يجوز مثله؟ وجوابنا أنه في الاول وصفهم بالخشوع في الصلاة وفي الثاني وصفهم بالمحافظة على أوقاتها وليس ذلك بتكرار.
[مسألة]
ومتى قيل ما معنى قوله (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) ومعلوم أن معنى الميراث لا يصح فيهم؟ وجوابنا أنه شبة وصولهم الى الفردوس من دون سبب يأتونه بوصول المرء الى الاملاك بالميراث عند الموت وهذا من أحسن ما يجري في الكلام من التشبيه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) كيف يصح ان يتكرر خلق الشيء الواحد فكيف يصح فيما خلق من طين أن يوصف بأنه مخلوق من نطفة؟ وجوابنا أنه تعالى ذكر الانسان وأنه خلق من طين وهو آدم والنطفة لمّا كانت منه جاز أن يقول (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً) يعني الأولاد وأما قوله (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) فالمراد ما به صارت علقة وهذا كما يقول المرء عملت من الخشب بابا والمراد أنه عمل ما به صار بابا فالخلق في الشيء الواحد لم يتكرر وإنما يحدث فيه شيئا بعد شيء.