[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) كيف يصح ذلك والمدعو هو اللّه تعالى. وجوابنا أن المراد الدعاء بذكر اللّه تعالى أو بذكر الرحمن فنبه تعالى على أنه متى دعا داع بأي اسم من اسمائه الحسنى جاز ولذلك قال تعالى (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى).
سورة الكهف
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً) كيف يصح أن ينفي عنه أن يكون قيما كما نفى عنه العوج. وجوابنا أنه لم يدخل في العوج وصار قوله قيّما من صفات الكتاب كما أن قوله لينذر من صفات الكتاب فكأنه قال (وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) وجعله (قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) وقد قيل إنه مؤخر في الذكر وهو مقدم فكأنه قال الحمد للّه الّذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا وذلك في المعنى يؤدي الى ما قدمناه في الفائدة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) كيف يصح ذلك وعلى الارض ما لا يصح كونه زينة للارض كالحشرات وغيرها. وجوابنا أن المراد على الأرض من شجر وزرع ونبات دون غيره لان قوله زينة لها يدل على ذلك ولان عد ذلك في جملة النعم يدل عليه ولذلك قال بعده (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) وبين بعده بقوله (وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) أنه يجعل الأرض عند الحشر بخلاف ما هي عليه الآن.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ والرَّقِيمِ) كيف يصح أن يبتديه بذلك وهو لم يعرف شيئا من
أحوالهم. وجوابنا أن مثل ذلك قد يقال في اللغة ابتداء لتوكيد ما يورد من الحديث وعلى هذا الوجه قال تعالى (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) وقد قيل إنه صلّى اللّه عليه وسلم سئل عن ذلك فصح أن يعلمه اللّه تعالى به على هذا الوجه من القول.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وهُمْ رُقُودٌ) كيف يصح ذلك ومعلوم أن صفة الراقد خلاف صفة المستيقظ فيما يشاهد.
وجوابنا انهم كانوا وهم رقود بصفة المستيقظ في فتح العيون والتبسم وذلك من آيات اللّه تعالى العجيبة وظاهر ذلك أنهم بقوا تلك المسافة الطويلة رقودا وذلك من آياته العجيبة وان كان في الناس من تأوّل الآية على أنهم كانوا موتى لاجل قوله تعالى (وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) ولا يقال ذلك إلا فيمن أحياه اللّه تعالى بعد الممات والاقرب الاول لانه اذا جعلهم راقدين هذه المدة الطويلة صح أن يقول بعده (وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) أ ليس ذلك يدل على أنه تعالى يشاء كل أمر واقع قبيح وحسن. وجوابنا أن ذلك تأديب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ولأمته في أن لا يقع منهم القطع على ما ذكر أنهم يخبرون به من الافعال لان القاطع على ذلك لا يأمن أن يكون كاذبا فينبغي أن يقيده بالمشيئة لأنها تخرج الخبر من ان يكون مقطوعا به ولو لا صحة ذلك لوجب أن يكون صلّى اللّه عليه وسلم لا يخبر بأمر المستقبل إلّا مع العلم بأن اللّه تعالى قد شاءه وذلك لا يصح وقد كان صلّى اللّه عليه وسلم يعزم على المباح كما يعزم على ما هو عبادة واللّه تعالى لا يشاء الا الطاعة ولو لا صحة ذلك لحسن من أحدنا كما يقول تقول الصدق غدا إن شاء اللّه أن يقول أسرق وأزني ان شاء اللّه وذلك محظور على لسان الأمة فالمراد إذا تعليق الكلام بالمشيئة ليخرج من أن يكون خبرا قاطعا لا ان تعلقه به على وجه الشرط.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ
عَنْ ذِكْرِنا) أ ليس أضاف جل وعز ذلك الى نفسه. وجوابنا أن المراد من وجدناه غافلا ولو لا ذلك لما صح أن يقول تعالى من بعد (وَ اتَّبَعَ هَواهُ) وأن يذمه على ذلك وقد قيل إن المراد جعلنا قلبه خاليا عن الكتابة التي ذكر اللّه تعالى أنه يسم بها قلوب المؤمنين في قوله (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) فلما أخلى قلبه عن ذلك وصفه بهذا الوصف فأما قوله تعالى (وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ومَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) فهو تهديد ولذلك قال بعده (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) وذكر الحسن بن أبي الحسن رحمه اللّه في قوله تعالى (وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ) ان ذلك يدل على انه تعالى لا يشاء الا الطاعة فكأنه قال قلت القول الذي يشاؤه اللّه دون ما أوردته من قولك (ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) وبين تعالى بقوله (وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) كيف يتحسر على ما أنفقه وأمل فيه المنافع اذا خاب أمله وجعل ذلك لطفا في المحافظة على طاعة اللّه تعالى على ما يستحقه من ثواب الآخرة ثمّ ضرب تعالى مثل الحياة الدنيا فقال (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ) وبعث بذلك المكلف على الحرص على عمل الآخرة من حيث يدوم نعيمها وبين تعالى أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات أولى بتكلف المرء لها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) كيف يصح في جميعهم أن يكونوا كذلك في حال المحاسبة. وجوابنا أنه ليس المراد أنهم يعرضون صفا واحدا بل المراد أنهم يعرضون من دون اختلال واختلاط فيشاهد بعضهم بعضا فمن ظهر أنه من أهل الخير يكون سروره بمعرفة الناس بحاله أعظم لوقوف الخلائق على صورة أمره ومن هو من أهل النار يعظم
غمه وهو معنى قوله (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) وبين تعالى بعده التخويف الشديد من المعاصي بقوله (وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ويَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) وذلك يدل على ان المرء يؤاخذ بالصغائر كما يؤاخذ بالكبائر اذا مات على غير توبة ومعنى (وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) ثواب ما عملوا حاضرا لأن عملهم قد فنى في الحقيقة وقوله من بعد (وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) يدل على أن المعاقب يستحق العقوبة على فعله وعلى أنه تعالى منزه عن الظلم وسائر القبائح وقوله تعالى (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ) يدل على انه ليس من الملائكة وقوله (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) يدل على أن الفسق هو الخروج إلى عداوة اللّه وقوله (أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) تحذير شديد عن اتخاذه وليّا والقرب منه ولذلك قال (وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) وقوله تعالى (وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) يدل على أن المضل لاجل إضلاله لا يعينه تعالى ولو كان الاضلال من قبله كما يقول المجبرة لما صح ذلك وقوله تعالى (وَ يَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) يدل على أن الفعل للعبد فلذلك بكّتهم على اتخاذ الشركاء من دون اللّه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) وصفهم بالظن وهم يعلمون ذلك في الآخرة.
وجوابنا انه أراد بالظن العلم ولذلك قال عقبه (وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) وقد يذكر في الامور المستقبلة الظن مع العلم لأنه من باب ما يجوز أن يقع ويجوز أن لا يقع فمن حيث كان هذا شأن الشيء في نفسه وهذا حاله جاز أن يعبّر عنه بذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا
الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) كيف يصح ذلك وإنما ذكر تعالى فيه بعض الامثال. وجوابنا ان ذلك مبالغة كقوله تعالى (وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ومذهب العرب في ذلك معروف والمراد من كل مثل يحتاج العباد اليه في أمر دينهم وما هذا حاله موجود في القرآن من صفات الامور الدنيوية وصفات الآخرة وغيرهما وقوله تعالى (وَ كانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) يدل على أنه الفاعل فيصح أن يجادل عن نفسه ولو كان كل تصرف مخلوقا فيه لما صح ذلك وقوله تعالى (وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) من أقوى الادلة على ان الايمان فعلهم والامتناع منه كذلك لأنه لا يصح أن يقال للمرء ما منعك أن تكون طويلا صحيحا أو مريضا لما كان ذلك من خلق اللّه فيه وقوله تعالى من بعد (إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) يدل على ان الهدى هو البيان والدلالة ويدل على ان الاهتداء بهذا الهدى من قبله وقوله تعالى من بعد (وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ) يدل على ان العبد يستحق على فعله الطاعة ما يبشر به من الثواب وعلى المعصية ما ينذر به من العقاب ولو كان الأمر كما يقوله المجبرة في أنه عز وجل يخلق الافعال فيهم وان له أن يعاقب من أطاعه ويثيب من عصاه لما صح ذلك وقوله تعالى (وَ يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) لا يصح لو لا أن الكفر من قبلهم ولو كان اللّه هو الخالق له فيهم لكان لهم أن يقولوا لا عيب علينا في ذلك وان كان باطلا لأن اللّه جل وعز خلقه فينا ولما صح أن يقول تعالى (وَ اتَّخَذُوا آياتِي وما أُنْذِرُوا هُزُواً) وقد منعوا من خلاف ذلك وقوله تعالى من بعد (وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها) كيف يصح أن يبالغ تعالى في وصفه بظلم نفسه وهذا الاعراض من قبل اللّه تعالى ولو شاء خلاف ذلك لما صح وبعد ذلك وصفهم بالاكنة والوقر لمّا لم يقبلوا ما أمروا به على وجه المبالغة والمراد ان ذلك ما يؤنس منهم ان يختاروه فصاروا بمنزلة ما لا يفقه ولا يسمع ولذلك قال تعالى (وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) ثمّ بيّن تعالى رحمته بتأخير العقاب عنهم
وهذه حالتهم فقال (وَ رَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) ولذلك يوصف تعالى بأنه حليم محسن الى من أساء كما أنه محسن الى من أحسن فيمهل ولا يعجل لئلا يكون للمعاصي حجة يتعلق بها وليصح أن يقال له ما أوتيت فيما قدمت عليه الا من قبل نفسك وقوله تعالى (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا) يدل على ان وعيده تعالى حق لا يقع فيه خلف.
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما) فاضاف النسيان اليهما ثمّ قال تعالى من بعد (قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا) ثمّ قال (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) حاكيا عن فتاه ثمّ قال تعالى (وَ ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) وذلك كالمتناقض.
وجوابنا انه تعالى أضاف اليهما النسيان لما بلغا مجمع بينهما ثمّ أضاف ذلك الى الفتى لما جاوزا واذا اختلف الحالان صح وقد يصح فيما تحمله المسافران أن ينسب الحال فيه اليهما لما كان لا يتم ذلك إلا بهما وقوله تعالى (وَ ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) دليلنا على ان الفعل للعبد لأنه لو كان خلقا للّه تعالى لكان قوله لو قال وما أنسانيه إلّا الرحمن أولى وأصوب ومتى قيل النسيان عندكم من فعل اللّه تعالى فكيف يصح ذلك. فجوابنا ان المراد بالنسيان هنا التقاعد والاهمال وذلك من فعل العبد فعلى هذا الوجه حصلت الاضافة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) كيف قطع في ذلك وهو أمر مستقبل لا يعرفه إلا علّام الغيوب.
وجوابنا ان ذلك من قول صاحب موسى وكان نبيّا فيجوز انه تعالى عرفه ذلك ويحتمل انه لما كان عارفا بأن الذي يفعله من خرق السفينة وقتل الغلام بالغ في التعجب منه مبلغا عظيما وان ذلك مما يتعذر الصبر عن معرفة علته (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) لما قوي ذلك في ظنه ولذلك قال تعالى (وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) وقول موسى صلّى اللّه عليه وسلم
(سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً) يدل على قوة عزمه على الصبر ثمّ قال بعده (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) ويحتمل أن يكون المراد بقوله تعالى (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) ان ذلك يثقل عليه فقد يقال إن فلانا لا يقدر على سماع كلام فلان وأراد أنه يثقل عليه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) عند خرق السفينة وقتل الغلام أ ليس ذلك يدل على أن القدرة مع الفعل فنفي استطاعته عن الصبر لما لم يصبر. وجوابنا ان المراد ليس هو الاستطاعة التي هي القدرة بل المراد ثقل ذلك عليه لما رأى الامر العجيب ولم يعرف تأويله ووجه الحكمة فيه فلذلك قال تعالى (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) فبين انه انما لم يستطع الصبر لأنه لم يعرف تأويله ولو عرفه كان يستطيع وهذه الاستطاعة هي بمعنى ما يثقل على المرء ويخفف.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) ثمّ قال تعالى (وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) فانه اذا كان يأخذ كل سفينة فكيف يصح أن يقول ذلك. وجوابنا ان المراد يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا وذلك ما يعقل من الكلام بقوله تعالى (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) لانه نبه بذلك على ان ذلك الملك كان ينصرف عن أخذ المعيب من السفن الى أخذ الصحيح فاما قوله جل وعز (وَ أَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وكُفْراً فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وأَقْرَبَ رُحْماً) فان من تدبر يعرف به حكمة اللّه تعالى وعدله وأنه يفعل بالمكلف أقرب الأشياء الى طاعته وانه تعالى ينفي تنزيه القرآن (16)
عنه ما يدعوه الى معصيته فامر عز وجل صاحب موسى بقتل الغلام لما كان لو بلغ بلوغه داعية كفرهما ويدل أيضا على ان الكفر من فعلهما لأنه لو كان خلقا من اللّه تعالى لم يصح ذلك وقوله عز وجل (وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) يدل على ان ذلك كان من أمر اللّه تعالى وإذنه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) كيف يصح أن يجدها تغرب في شيء من الأرض وهي إنما تغرب في مجاري غروبها. فجوابنا انها تغرب على وجه يشاهد كذلك كما توجد الشمس تغرب في البحر اذا كان المرء على طرفه وكما يقول المرء ان الشمس تطلع من الأرض وتتحرك في السماء والمراد بذلك ما ذكرناه من تقدير المشاهدة وقوله تعالى من بعد (قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) يدل على ان ذلك الظلم فعل العبد وعلى ان هذا التعذيب فعل ذي القرنين فلذلك أضاف العذاب المتقدم الى نفسه ثمّ العذاب المتأخر الى ربه.
[مسألة]
وربما قيل في قصة يأجوج ومأجوج كيف يصح وصفه لهم بأنهم (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا) ثمّ وصفهم بأنهم يفسدون وكيف يصح قوله تعالى (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ ومَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) وكيف يصح أن يبقوا على الزمان لا يستطيعون ذلك حيث يقول تعالى (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ) يعني الحشر. وجوابنا ان قوله (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا) يحتمل مع كمال عقلهم للمباينة في اللغة ويحتمل خلافه فلا يدل على ما ذكروا وقوله (مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) يحتمل أن يكون مع كمال العقل ويحتمل مع فقده كما يقال فيمن لا عقل له انه يفسد الزرع بل يقال ذلك في البهائم وذلك السد معمول بالصفر وما يجري مجراه فصح ان لا يمكنهم التأثير فيه لفقد الآلات ولقوة السد وإحكامه ويحتمل أنه تعالى يصرفهم عن الشغل بذلك فيبقى الى يوم القيامة. واختلفوا في يأجوج ومأجوج
فمنهم من قال هم غير مكلفين ومنهم من قال يجوز أن يكون تكليفهم بجميع العقلي والشرعي بأن يسمعوا الأخبار ممن يقرب من السد فتتواتر عندهم ومنهم من قال بل تكليفهم بالعقلي دون الشرعي الذي لم تبلغ دعوته اليهم ثمّ ذكر تعالى من بعد ما تعظم الفائدة به لمن تدبره فقال سبحانه (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) فبين تعالى ان أعمال من لا يحفظ عمله فيفسدها بالكفر والفسق تكون الى خسار وتبار وتصير كالحسرة في الآخرة فلذلك قال الذين ضل سعيهم والمراد ذهب هدرا ولذلك قال آخرا (فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) فنبه على ان كل من حبط عمله يكون حكم سعيه في الخيرات هذا الحكم ثمّ بين أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلم يحبطوا ما فعلوه (كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا) فان مساكن الدنيا قد يبتغي المرء عنها حولا وليس كذلك الجنة وفي قوله تعالى عز وجل (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) ما اذا تأمله العاقل علم ان كلمات اللّه تعالى لا تحصر وأنه قادر على ما لا نهاية له ومن هذا حاله كيف يصح أن يقال محدث أو مخلوق.