وذلك بخلاف قولكم. وجوابنا انه اذا كان يتبع ما يعرفه من شرائعه فذلك جائز عندنا وانما ننكر كونه صلّى اللّه عليه وسلم متعبدا بشرائع من تقدم على معنى انه عرف ما دعوا اليه فتمسك بذلك من دون أمر مبتدأ من قبله تعالى أوحى به اليه ثمّ أوجب تعالى بقوله (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) على رسوله صلّى اللّه عليه وسلم أن يدعو الى توحيد اللّه وعدله والى سائر ما يكون دينا وحقا وبين له كيف يدعو وذلك واجب على غير الرسول صلّى اللّه عليه وسلم أن يفعله بمن يجهل الدين كما قال تعالى (قُوا أَنْفُسَكُمْ وأَهْلِيكُمْ ناراً) وبين هذا بقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) على ان من أقدم في باب الدين على ما لا يحل فهو مؤاخذ على ذلك. ودل به على ان الضلال والاهتداء من قبل العبد وقوله تعالى (وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) وهو مجاز لأن ما يفعله العبد لا يكون عقابا في الحقيقة فهو كقوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ) ثمّ بين تعالى ان الصبر على ذلك والاخذ بالعفو خير من الانتقام وبين ان صبره صلّى اللّه عليه وسلم يكون باللّه تعالى بقوله (وَ اصْبِرْ وما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ) فدل بذلك على ان الصبر وسائر الطاعات انما تقع عند الطاقة وتيسيره وتسهيله وبيّن بقوله تعالى من بعد (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) انه تعالى يخص بالغفران والرحمة من يوصف بانه متق ومحسن وذلك يدل على قولنا في الوعيد.

سورة الاسراء
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) كيف يصحّ قطع هذه المسافة في هذه الاوقات القصيرة وما فائدة ذلك ويصحّ منه تعالى أن يريه الآيات من دون ذلك وان كان المراد أنه عرج به الى السماء كما روي في الخبر فذلك ممكن من المدينة. وجوابنا ان ذلك من معجزاته صلّى اللّه عليه وسلم ولا ننكر في يسير من الاوقات ذلك كما جعل اللّه تعالى معجزة سليمان الريح بقوله تعالى (وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ ورَواحُها شَهْرٌ) واذا كان الصلاح أن يريه الآيات التي ببيت المقدس فلا بد من أن يسري به الى هناك. وما روي في خبر المعراج ففيه ما يجوز أن يصحّ وفيه ما لا يصحّ كما ذكر فيه أنه تعالى في مكانه وأنه صلّى اللّه عليه وسلم كان يذهب اليه ويعود. تعالى اللّه عن قولهم علوا كبيرا وقوله تعالى من بعد في كتاب موسى (وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) يدل على ان الهدى هو الدلالة والبيان لا نفس الايمان كما يقوله المجبرة. وقوله تعالى من بعد (وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) فالمراد به الاعلام كقوله تعالى (وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) ولذلك أضاف الفساد اليهم بقوله تعالى (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) وقوله تعالى (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) يدل على قدرتهم على الامرين وأنهم إذا أساءوا فمن جهتهم وبيّن تعالى بقوله (إِنَّ) تنزيه القرآن (15)

(هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ويُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ) ان الواجب على من يتلوه أن يتدبر ذلك فيكون داعية له الى التمسك بما هو اقوم وصارف عن طريقة من لا يؤمن بالآخرة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ والنَّهارَ آيَتَيْنِ) كيف يصح ذلك ومعلوم ان كون آية النهار مبصرة دون الليل لا صحة له مع وجود القمر. وجوابنا ان ذلك يدل على انه تعالى يحرك الشمس في سمائها فاذا كانت بحيث يصحّ أن ترى كان نهارا واذا كانت بخلافه كان ليلا وان ذلك لا يكون بالطبع ولا بغيره على ما ذهب اليه بعض الملحدة وذلك من عظيم نعم اللّه تعالى كما قال (لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ولِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ والْحِسابَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) ان ذلك لا يعرف في اللغة لأنه لا يقال فيمن له الحق أو عليه أنه طائر في عنقه. وجوابنا ان كتاب اللّه تعالى وصف بأنه عربي فما يوجد فيه يجب أن يعلم أنه لغة إما مجاز وإما حقيقة واذا كنا نقبل ذلك متى ورد به شعر منظوم أو كلام منثور فلأن يلزم ذلك لما ذكرنا أولى والمراد ألزمناه جزاء عمله وما يستحقه وذلك من فصيح الكلام وقد يقال فيما يخرج من سبب وحظ خرج لفلان الطائر بكذا فلا وجه لما قالوه والوجه فيه ظاهر لان الطائر يلزم المرء لا بحسب اختياره وربما يجتهد في دفعه فلا يصح فجعل تعالى ما يستحقه على ذنوبه بهذه المنزلة ولذلك قال تعالى (وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) فبين أن المطوي المكتوم الذي يمكن المرء إصلاحه بالتوبة يصير في الآخرة ظاهرا ولذلك قال تعالى بعده (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) قال الحسن البصري لقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك فكل ذلك زجر عن المعاصي وبين بقوله تعالى (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ومَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أن

الاهتداء بالايمان والضلال بالكفر من قبل العبد وحقق ذلك بقوله تعالى (وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وأن أحدا لا يؤاخذ بما يفعله غيره أكّد ذلك بقوله تعالى (وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) فإذا كان تعالى لا يعذب حتى يقيم الحجة بالرسل وبالبينات فكيف يجوز أن يعذب المرء على أمر لم يقدر عليه وكيف يجوز أن يعذب الطفل بذنب أبيه وهو من لا يقدر ولا يعرف الخير من الشر وكل ذلك يبطل قول هؤلاء المجبرة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) أ ليس ذلك يدل على أنه أراد منهم ذلك الفسق. وجوابنا أنه تعالى لم يذكر ما أمرهم به ومعلوم أنه لم يأمرهم بالفسق بل أمرهم بخلافه فكأنه قال تعالى (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) بالطاعة (فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي الوعيد والهلاك المعجل ولذلك قال بعده (وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) وقد قرئ (وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها) فتأويله أمرناهم بمنعهم عن المعاصي ففسقوا فيها وقد قيل ان معنى قوله (وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) ارادة الطاعة منهم والعبادة دون الهلاك فان ذلك قد يستعمل في اللغة على هذا الوجه فقد يقال إذا أراد العليل الهلاك تعاطى التخليط في المأكل لا أنه في الحقيقة يريد الهلاك وإن أراد التاجر ان تأتيه البضائع من كل جهة فعل كيت وكيت لا أنه يريد ذلك في الحقيقة وما قدمناه أولا أقرب الى المراد والذي يحكي من القراءة الثانية وهو قوله تعالى (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) فالمراد به يقرب مما قدمناه إذ المراد كثرناهم ليطيعوا ففسقوا فيها ولذلك قال بعده (وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) وكل ذلك ترغيب في الطاعة وتخويف من خلافها وقوله تعالى من بعد (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ) دلالة على انه يمكن العبد من الطاعة والمعصية فاذا أراد العاجلة وما

يتصل بالهوى والشهوة لم يمنعه النعم وان كان يزجره عن ذلك وقوي هذا الزجر بقوله (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) ثمّ قال تعالى (وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) يعني الفعل الذي يؤدي الى الثواب في الآخرة (وَ سَعى لَها سَعْيَها وهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) واذا وصف تعالى سعي العبد بأنه مشكور فقد عظم موقعه ثمّ بيّن أنه لأجل المعصية لا يمنع من الانعام المعجل فقال (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) فان عطاء المعجل تفضل وقد تكفل تعالى بهذا التفضل للعاصي وللمطيع وإنما يخص المؤمن بالثواب لأنه مما لا يحسن أن يفعل إلا بمن يستحقه كما لا يحسن منا الاعظام إلا لمن يستحق وان حسن منا الهبات لمن يستحق ولمن لا يستحق. ثمّ بين أنه فضل بعضهم على بعض وان الفضل العظيم هو الفضل في الآخرة فقال تعالى (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ولَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) وبين تعالى في قوله (وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وقضاؤه لا يكون الا حقا ان المراد بذلك الالزام وبين في هذه الآيات جل جلاله جملة مما إذا تمسك بها المرء عظمت منزلته الى قوله (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) فدل بذلك على أنه كاره للسيئات لا كما يقوله كثير من العامة أنه يريد ذلك ويشاؤه كيف يجوز ذلك مع شدة نهيه عنها وزجره وتخويفه ووعيده وذكر تعالى في هذه الآيات من الآداب والاحكام نحو عشرين خصلة إذا تدبرها القارئ عظم نفعه بها وفي جملتها ما يلزم في حق الابوين وما يجب أن يتعاطاه في تدبير النفقات وما ينبغي أن يستعمله في حق الاولاد واليتامى وبسط ذلك يطول. فان قيل كيف يقول تعالى (وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) وذلك مما لا يقع من أحد فكيف نهى عنه قيل له ليس المراد بذلك ما يقتضيه ظاهره بل المراد أن لا يضيق على نفسه وعلى من تلزمه نفقته وهذا من أفصح الكلام في وصف البخل ولذلك قال تعالى بعده (وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) منع بذلك من التبذير ثمّ نبه على

ما يقتضي ذلك من الحسرة فيما بعد فقال (فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) ثمّ بين تكفله تعالى بالرزق فقال (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ ويَقْدِرُ) يعني بحسب المصالح وبعث النبي صلّى اللّه عليه وسلم على تدبر هذه الآيات بقوله تعالى من بعد (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) والمرء يلزمه أن ينظر ويتدبر في وصية اللّه للصالحين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ والْأَرْضُ ومَنْ فِيهِنَّ وإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) كيف يصح ذلك من الجمادات. وجوابنا أن من تدبر ذلك عرف المراد فانه تعالى قال من قبل (سُبْحانَهُ وتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) يعني اتخاذ قوم لآلهة سواه ثمّ أتبعه بذكر الدلائل على التوحيد فقال (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ) يعني انها تدل على توحيده وتنزيهه عن الاشباه فالمراد بتسبيح السموات والارض ومن فيهن ما ذكرناه لا أن المراد به القول الذي يسمّى تسبيحا لأن دلالة هذه الامور على توحيد اللّه تعالى أوكد من دلالة القول فهذا معناه وكذلك قوله تعالى (وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) يجب أن يحمل على ما ذكرناه لأنه لا شيء إلا وله حظ في الدلالة على توحيد اللّه وكذلك قال تعالى (وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) لأن ذلك إنما يعرفه من ينظر ويتدبر ومن هذا حاله قليل في الناس.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) كيف يصح أن يمنعهم من سماع القرآن الذي فيه الشفاء والبيان. وجوابنا ان المراد بذلك من المعلوم انه لا ينتفع بل يظهر منه الاذى للرسول ولذلك قال تعالى (أَكِنَّةً) والمراد انهم لشدة انصرافهم عن الانتفاع به صار قلبهم بهذا الوصف وصاروا كالصم ولذلك قال تعالى (وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ

(وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ) فبين انهم لا ينتفعون ويؤذون ولذلك قال من بعد (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً) ثمّ قال (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) أما يدل ذلك على أنهم لا يقدرون على خلاف هذا الضلال. وجوابنا انهم لا سبيل لهم بالطعن في نبوّتك إلى تحقيق ما نسبوه إليك من سحر وغيره وليس المراد أنهم لا يقدرون على الطاعة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) كيف يجوز في تكذيبهم من قبل أن يكون مانعا لذلك. وجوابنا أن المراد الآيات التي لا ينتفع القوم باظهارها فقد كانوا يطلبون عين المعجزات الظاهرة على الأنبياء كقوله تعالى (وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) الى غير ذلك فبين تعالى أن جرى العادة بتكذيب الامم بمثل ذلك يمنع من أن يفعله تعالى ويحتمل أن يريد بذلك اهلاك المكذبين الذين لا يؤمنون كما جرت به عادته تعالى فيمن يكذب الأنبياء من الغرق وغيره من ضروب الاهلاك ولذلك قال بعده (وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) فأما قوله تعالى (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) فالامر فيه ظاهر أنه ليس بأمر وكذلك قوله (وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) أنه تهديد وزجر فليس لأحد أن يسأل عن ذلك ولذلك قال بعده (وَ عِدْهُمْ وما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) وبيّن من بعد أنه لا سلطان للشيطان إلا من جهة الوسوسة الضعيفة فقال (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) ويحتمل أنه يريد تعالى بذلك أهل الايمان والصلاح من حيث لا تؤثر فيهم وسوسة الشيطان.

[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) كيف يصح ذلك مع علمنا بخلافه. وجوابنا أن المراد من ذهل عن تمييز الخير والشر في الدنيا فهو بأن يذهل عن ذلك في الآخرة أولى وليس المراد اثبات العمى في الحقيقة بل هو ترغيب في التمسك بالطاعة وبين تعالى بعد ذلك ألطافه التي خص بها الرسول صلّى اللّه عليه وسلم بقوله تعالى (وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) وبقوله (وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا) وانما صلّى اللّه عليه وسلم يمنع من هذه الامور بما جرت به عادة اللّه تعالى من صرفه عنها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) كيف يصح منهم اخراجه من الارض. وجوابنا ان المراد الارض المعهودة فهذه الالف واللام دخلتا على معهود فبيّن تعالى ما كانوا عليه من شدة المعاداة حتّى همّوا بإخراجه من الأرض المعروفة به صلّى اللّه عليه وسلم وبين أن ذلك لو تم لما لبثوا إلا قليلا على سنة اللّه تعالى فيمن تقدم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وضِعْفَ الْمَماتِ) ما فائدة اضافة الضعف الى الحياة والى الممات. وجوابنا أن ذلك وعيد بالعذاب المعجل في حال الحياة في الدنيا والمؤخر الى الآخرة فاضاف ذلك العذاب الى الممات لما كان لا يموت الا بعده.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) ما الفائدة في ذكر الحمد في استجابتهم يوم القيامة. وجوابنا أن المراد إنكم حامدون للّه تعالى على نعمه المتقدمة وأن أمر بكم الى النار والى المحاسبة الشديدة ويحتمل (فَتَسْتَجِيبُونَ) استجابة حامد شاكر لا يمكن من جهتكم الامتناع.

[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) كيف يصح ان يخصه بأنه مشهود واللّه تعالى شاهد لكل شيء وكيف يضيف القرآن الى الفجر. وجوابنا أن المراد أقم القرآن الفجر فنبه بذلك على وجوب القراءة في الصلاة وبين ما لهذه الصلاة من الخصوصية بأنه يشهدها ملائكة الليل والنهار وقوله تعالى من بعد (وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) يدل على أن موقع هذا التهجد عند اللّه عظيم وإن كان نفلا ومعنى عسى هو وقوع ذلك لا بمعنى الشك وعلى هذا الوجه قال المتقدمون في عسى ولعل انهما من اللّه واجبان.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أ ليس يوجب ذلك أن بعضه شفاء ورحمة دون بعض. وجوابنا أن المراد أنه ينزل ما يدعوهم الى التمسك بالايمان ولا يجب ذلك في كل القرآن وبعد فان ذكر بعضه بهذا الوصف لا يدل على ان سائره بخلافه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) كيف يصح أن يكون هذا جوابه. وجوابنا أن المراد أنهم سألوه عن الروح ولما ذا يحتاج الحيّ منا إليها فبيّن تعالى أن ذلك ممّا لا يعلمه إلا اللّه تعالى ولم يسألوه عن نفس الروح ما هو وقد قيل إنهم سألوه عن جبريل صلّى اللّه عليه وسلم في وقت نزوله بالوحي دون آخر وذلك مما لا حاجة بهم الى معرفته ولذلك قال بعده (وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) ثمّ بين تعالى عظم شأن القرآن بقوله (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ والْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) فنبه بذلك على أن له من الرتبة في

الفصاحة ما لا تدركه العباد انفردوا أو اجتمعوا ولو كانوا يقدرون عليه وإنما صرفوا عنه لم يكن لهذا القول معنى وبين تعالى بقوله (وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) أنه تعالى لا يجعل معجزات أنبيائه ما يوافق شهوة القوم وإنما يظهر من ذلك ما يعلمه أصلح فلذلك قال وقد طلبوا تفجيرا لينبوع وطلبوا البيت من الزخرف وأن يرقى في السماء وأن ينزّل عليهم الكتب والجنة من النخل والعنب وإسقاط الكسف من السماء وأن يأتي باللّه والملائكة قبيلا بالكلمة الواحدة ما كان جوابا لهم وهو قوله تعالى (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا) والمراد ان معرفتي بالمصالح مفقودة وأنه تعالى هو العالم بذلك. فبين أن بعثة الملك ليست لصلاح كبعثة البشر بقوله تعالى (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا) فبين أن قبول الشرع للبشر من البشر أقرب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وبُكْماً وصُمًّا) كيف يصح ذلك وهم يسمعون في الآخرة ويتكلمون. وجوابنا أنه تعالى لم يذكر الا أنهم يحشرون كذلك لا أنهم يكونون بهذا الوصف أبدا فلا تناقض في الآيات الواردة في ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ والْأَرْضِ) كيف يجوز أن يقول لفرعون ذلك مع ادعائه أنه الاله دون اللّه تعالى. وجوابنا أنه لا يمتنع أن يجحد ذلك وان كان يعلمه طالبا لثبات ملكه وقد اتفق منه أشياء تدل على ذلك نحو قوله (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) وغير ذلك وانما يصح أن يسأل عن ذلك على أحد القراءتين فإما اذا قرئ لقد علمت فانما المراد موسى وقد عنى نفسه بذلك.

22 / 47
ع
En
A+
A-