سورة الحجر
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) كيف يجوز ذلك ولا شك في انهم يتمنون في الآخرة ذلك فما فائدة (رُبَما). وجوابنا ان ذلك من باب الردع وربما يكون أقوى فأحدنا يقبل على ولده وقد عدا عن التعلم فيقول ربما تندم على ما أنت عليه فيكون في الزجر أبلغ ولأن الكافر قد يسلم ويتوب فلا يقطع منه على ذلك ومعنى قوله بعد (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا ويَتَمَتَّعُوا ويُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) تبين صحة ما قلناه لأن ذلك وان كان بصورة الامر فهو تهديد وزجر عظيم.
[مسألة]
وربما قيل ما فائدة قوله تعالى (وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا ولَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) وكل شيء يفعله فهو في معلومه ويثبت في أم الكتاب فأي فائدة في هذا التخصيص. وجوابنا ان القوم كانوا يستعجلون العذاب من الانبياء اذا توعدوهم فبين تعالى ان ذلك مؤقت بوقت لا يقدم ولا يؤخر.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) كيف يصح ذلك مع جحدهم لنبوّته وانكارهم ان اللّه تعالى أنزل ذلك عليه. وجوابنا انهم قالوا على وجه ان ذلك صفته عند نفسه لأنه صلّى اللّه عليه وسلم كان يدعى ذلك وهذا كرجل يدعى انه صانع فينادي بما يدعيه وان كان المنادى لا يعترف له به وبين ذلك ما ذكروه من بعد

(إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) وبين تعالى لهم انه ما ينزل الملائكة الا بالحق ومتى أنزلهم لم يكن انكار وامهال وقوله تعالى من بعد (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) يدل على ان القرآن لا يغير ولا يبدل ولا يزاد فيه ولا ينقص وشبههم بمن يجهل ما يشاهده بقوله جل وعز (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ولَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) فبين انهم في العدول عن التمسك بالنبوات والقرآن بهذه المنزلة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) أما يدل ذلك على أن أفعال العباد من خلقه لدخوله في قولنا شيء.
وجوابنا ان المراد ان عندنا علم كل شيء ولذلك قال (وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) أو يكون المراد عندنا القدرة على ما ذكرنا من النعم فلا ننزّل ذلك الا بقدر الحاجة إليه بيّن ذلك أنه تعالى قال من قبل (وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) فبين بعده انه قادر على إدامة ذلك وكنّى عن القدرة التي لا آخر لها بذكر الخزائن ولذلك قال بعده (وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) فذكر ما ينزله من الأمطار وما ينبته من الاقوات ثمّ قال (وَ ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) ثمّ قال (وَ إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي ونُمِيتُ ونَحْنُ الْوارِثُونَ) دل كل ذلك على عظم نعمه على عباده مرغّبا لهم في شكره وطاعته ثمّ بين تعالى كيف خلق آدم من (صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) وكيف خلق الجان ليعتبر بذلك وكيف أمر بالسجود لآدم وتقدم القول في ذلك وبين بقوله تعالى (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) ان الذي يقال من أن الشيطان محبط لا أصل له وإنه إنما يوسوس فلا يكون له سلطان

إلا على من يتّبعه فيقبل منه الوسوسة وعلى هذا الوجه كرر تعالى في القرآن التحذير من الشيطان فحاله في ذلك دون حال الواحد من الانس إذا رغب غيره في المعاصي فعلى هذا الوجه قال تعالى (وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) التابع والمتبوع ثمّ بين تعالى ما للمتقين من المنزلة بقوله تعالى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وعُيُونٍ ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) الى آخر الآيات وأدب اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه وسلم بقوله (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ولا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ واخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) فأمره بتحقير ما عليه الكفار من متاع الدنيا وأمره بالتواضع لمن آمن به وأمره بأن يقوم بالانذار في كلا الفريقين فلا يمنعه تمنع القوم عن الانذار كما لا يمنعه ايمان من آمن به عن ذلك. ثمّ أقسم تعالى بعد ذلك على أنه يسألهم أجمعين عما كانوا يعملون ولم يقتصر على الخبر حتى اكده بالقسم زجرا للناس عن المعاصي فان من تصوّر أن معاصيه طول عمره محصية عليه يصير في الآخرة كالمشاهد لها جميعها يزجره ذلك عن الاقدام عليها وترك التوبة منها ولذلك قال بعده للرسول صلّى اللّه عليه وسلم (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) فقد أقمت الحجة عليهم (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) الذين يقع في قلبك الخوف منهم فشبّهه تعالى بالصّادع في الابلاغ والانذار ليكون مقيما للحجة على من آمن وكفر واكد تعالى بقوله (وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) فقد كانوا ينسبونه مرة الى السحر ومرة الى الجنون ومرة الى الفرية ومثل ذلك يعظم على المرء ويأنف منه فقوّى اللّه تعالى قلبه على احتماله وعلى ألا يجعله سببا للفتور في الابلاغ والبيان فلذلك قال بعده (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ واعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) وهذه الآداب وان خص اللّه تعالى بها الرسول صلّى اللّه عليه وسلم فهي عامة في سائر الناس وهي من عظيم نعم اللّه تعالى على خلقه إذا تأملوه وتمسكوا به فما أحد من المكلفين إلا وله وليّ وعدو يتردد بين محن ونعم فكل ذلك تأديب له.

سورة النحل
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) وكيف يكون إنزالهم بالروح وكيف يكون الروح أمرا. وجوابنا أن المراد به ذلك القرآن والشرع كما قال (وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) وسمّى القرآن روحا لأنه بمنزلة الرّوح الذي يحيا به أحدنا من حيث يحيا به الانسان في أمر دينه وأنه يؤدي الى الحياة الدائمة فإن قيل فما معنى قوله (أَتى أَمْرُ اللَّهِ) وهل المراد به هذا الامر الذي تنزله الملائكة قيل له بل الأقرب في أتى أمر اللّه أنه الوعيد ولذلك قال بعده (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) لأنهم كانوا يستعجلون العذاب كقولهم (ائْتِنا بِما تَعِدُنا) وكما قال (وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) فبين أن أمر اللّه قد أتى بالوعيد في الآخرة واللّه تعالى حليم لا يعجل فلا تستعجلوه ثمّ قال تعالى (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وعنى به الاحكام وسائر الشرائع التي بيّنها اللّه تعالى في القرآن وعلى لسان الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ولذلك قال بعده (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) ثمّ قال بعده (خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) وبيّن أنه خلق ذلك لكي يؤمن العباد وذلك يبطل قول من يقول خلق بعضهم ليكفروا وكيف يقول جل وعز (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) وهو الذي يخلق فيهم الشرك ويجعلهم بحيث لا يقدرون الا عليه.
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى (وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ)

وإنما يخلق ما يخلقه لمصالح المكلفين. وجوابنا أن ما لا يعلمه الملائكة قد يكون صالحا لنا وقد يجوز فيما يخلقه أن يكون نفعا لنا وان لم نعلمه أو نفعا لبعض الحيوان أو تفضلا فلا يلزم ما قالوه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ومِنْها جائِرٌ) كيف يصحّ في قصد السبيل أن يكون على اللّه وكيف يصح أن يكون منها جائر. وجوابنا أنه تعالى لما بيّن من قبل نعمه وبين من جملتها الأنعام والخيل والبغال وكيف خلقها نفعا للمكلفين قال بعد ذلك إن على اللّه قصد السبيل والمراد بيان ما يلزم المكلف وازاحة سائر علله فلا يجوز أن يكلفه ما لا يصح إلا بالأنعام وغيرها إلا ويخلقها له وكذلك سائر ما يحتاج اليه وبيّن بقوله ومنها جائز أن في جملتها ما يخرج المكلف عنه ويعصى مع أن في جملتها ما يقبل ويطيع ولو شاء (لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) بالالجاء لكن ذلك لا ينفع.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ) أما يدل ذلك على أنه لا فعل إلا للّه. وجوابنا أنه تعالى بيّن من قبل أصناف النعم من انزاله الماء وإنباته أنواع الخيرات والثمرات وتسخيره الليل والنهار والبحر وما فيها من النعم والنجوم ودلالتها على الامور فقال بعده تنبيها للخلق عما يلزم شكره وعبادته (أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) فبعث بذلك على عبادة اللّه تعالى وبكّت به من يعبد الاصنام وغيرها ممّا لا تصحّ منه هذه النعم ولا يدخل في ذلك أفعال العباد لأنه نبّه بذلك على أن الواجب أن يفعلوا الطاعة والشكر والعبادة وكيف يكون نفس الفعل خلقا من قبل اللّه تعالى ولذلك قال بعده (وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها) فبين أن الذي قدم ذكره من نعمه هو قليل من كثير النعم التي يفعلها اللّه تعالى حالا بعد حال في جسم الانسان وحواسه وجوارحه وغير ذلك ثمّ قال (وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وما تُعْلِنُونَ) يخوّف بذلك

العبد من أن يخالف ما يظهر من الطاعة ويبعثه على أن يكون باطنه في الاخلاص كظاهرة والذي بيّن ما قلناه قوله تعالى من بعد (وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ومِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) كيف يصح أن يحملوا أوزار غيرهم ولئن جاز ذلك لم يمتنع أن يعذب اللّه تعالى أطفال المشركين بذنوب آبائهم. وجوابنا إن الذين أضلوهم لما كانوا سببا لضلالهم جاز أن يقول تعالى ذلك والمراد أنهم لما ضلوا وأضلوا كانت أوزارهم أعظم كما روي عنه صلّى اللّه عليه وسلم (فيمن سنّ سنّة سيّئة أنّ عليه وزرها ووزر من عملها) والمراد مثل ذلك لا أنّ عين ما يستحقه من يتأسّى به يستحقه من سنّ فعل السنّة السيّئة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ ومِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) أما يدلّ ذلك على أنه تعالى يهدي ويضل وان ذلك من خلقه. وجوابنا أن المراد فمنهم من هدى اللّه الى الثواب لتمسكه بالعبادة ومنهم من حقّت عليه الضلالة عن الثواب الى العقاب بمعصيته وهذا كقوله (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وسُعُرٍ) فسمّى نفس العقاب ضلالا كما سمّى نفس الثواب هدى في قوله (الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ ويُصْلِحُ بالَهُمْ) والهدى بعد القتل لا يكون الا بالاثابة ولذلك قال بعده (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) فنبّه بذلك على ما ذكرنا ويحتمل أن يريد بالهدى زيادة البصيرة فيفعله بمن قبل وأطاع عنده دون من علم أنه لا يقبل كما قال تعالى (وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً).

[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) كيف يصح أنه يوحي الى ما لا يعقل وعندكم أنه تعالى إنما يوحي إلى الأنبياء. وجوابنا ان المراد بذلك ألهمها هذه الامور وخلق فيها العلم بهذه الأشياء ولم يرد بذلك الوحي الذي يكون بانزال الملائكة وكل أمر يلقى الى الغير على وجه الاخفاء والاستسرار يوصف بأنه وحي فلما كان ما ألهم جل وعز النحل على هذا الحد جاز أن يقول أوحى اليها ونبه بذلك على عجيب أمر النحل فيما تتعاطاه من هذا الطعام الذي هو أشرف الاطعمة وكيف تلتقط ذلك من الشجر المختلف حتى يحصل منه هذا الطعام وكيف تتولى مكان ذلك وكيف ترتبه ومتى تأمل العاقل ذلك عرف به من عجيب نعم اللّه تعالى ما لا يكاد يوجد في سائر الحيوان.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) أما يدل ذلك على أنه تعالى يخلق فيها الطيران. وجوابنا أنه تعالى لما جعل في الجو الهواء المتكاثف الذي يصح من الطير أن يطير فيه ويتوقف عليه جاز أن يضيفه الى نفسه بأنه سخرها لما فعل ما لولاه لم تثبت في الجو لأنه تعالى جعل ذلك الهواء اللطيف بمنزلة الماء الذي يسبح فيه وهذا هو وجه الكلام ثمّ إنه تعالى بعد ذلك رغب في عبادة اللّه تعالى بأقوى وجوه الترغيب فقال (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ) فنبه بذلك على أن ما عندنا له نهاية وآخر وان الذي يدوم من النعم هو ما يجازي جل وعز عباده المطيعين به فرغب بذلك في فعل ما يؤدي الى هذه النعم الباقية ولذلك قال بعده (وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) كيف يصح ذلك والاستعاذة تتقدم قراءة القرآن لا أنها تتأخر عنه. وجوابنا أن المراد فاذا عزمت على قراءة القرآن

وهممت فاستعذ باللّه من الشيطان الرجيم وهذا كقوله (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) والمراد اذا أردتم ذلك ومثل ذلك يستعمل في اللغة بقول القائل لغيره اذا سافرت فاستعد لسفرك يريد اذا هممت بذلك وقوله تعالى من بعد (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) يدل على أن سلطان الشيطان ليس الا بالوسوسة فقط فمن يقبل منه يوصف بأن له عليه سلطانا دون من لا يقبل ولذلك قال (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ واللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) كيف يصح أن يفعل تعالى ما يدعوهم الى تكذيبه وذلك مفسدة. وجوابنا أنه تعالى ذكر ما يقولون عند إبدال آية مكان آية ولم يذكر أنه السبب في هذا القول بل كانوا في تكذيب الرسول على طريقتهم ومثل ذلك جائز عندنا ولا يكون مفسدة وانما يكون مفسدة متى وقعت المعصية عنده ولولاه كانت لا تقع. وبيّن تعالى ما به يدفع عنهم هذه الشبهة فقال (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) وانما أحالهم على علمهم برتبة القرآن في الفصاحة ولو لا ذلك لقالوا له ومن أين روح القدس أنزله فبطل بذلك ما أوردوه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ) أ ليس هذا يدل على أن من لم يؤمن لم يهده اللّه كما يقوله المخالف. وجوابنا أن المراد لا يهديهم الى الجنة والثواب من حيث لم يؤمنوا ولذلك أتبعه بقوله (وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) أ ليس ظاهرة يقتضي اباحة الكفر والكذب وذلك قبيح لا يجوز على اللّه تعالى. وجوابنا أن قوله

(إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) استثناء منقطع ومعناه لكن من اكره وقلبه مطمئن بالايمان. فان قال قائل إن السؤال عليكم في ذلك لازم لأنه كأنه قال لكن من أكره على الكفر والكذب والاكراه لا يحسن ذلك. قيل له إنه تعالى لم يبين ما يكره عليه وما يأتيه المكره والذي يكره عليه هو غير الذي يأتيه المكره لان المكره انما يكرهه على الكفر والكذب والذي ينبغي أن يأتيه المكره هو ما أباحه اللّه تعالى له من التعريض فكأنه يقول ان لم تقل ان اللّه ثالث ثلاثة قتلتك فيقول هو عند الاكراه ذلك على وجه الحكاية أو على وجه دفع الضرر من غير أن يقصد الخبر فيحسن منه ذلك عند الاكراه فأما نفس الكذب فلا يحسن من العاقل على وجه وفي العلماء من يقول اذا كذب فالاثم مرفوع عنه وان كان قبيحا لمكان الاكراه والذي قدمناه هو الصحيح ولذلك قال تعالى بعده (وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فمدحه ثمّ ذمه بقوله (وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ) اذ كانوا مختارين والاكراه زائل وقوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) يدل على قدرتهم على الطاعة والمعصية فصحّ بذلك أن يؤثروا أحد الامرين على الآخر لان قوله استحبوا الحياة الدنيا المراد به آثروا ما يشتهونه من الباطل وقوله (عَلَى الْآخِرَةِ) المراد به على ما يؤدي الى عمارة الآخرة من الحق ثمّ قال تعالى (وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) مع علمنا بأنه قد بين لهم ودلهم على ما يلزمهم ولو لا ذلك لما كفروا يدل على أنه أراد بما نفاه الهدى الى الثواب والجنة على ما بيّناه من قبل ثمّ بين تعالى حال الكافرين بأنه طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم والمراد به تشبيه حالهم بحال من هذا صفته ولو لا ذلك لم يكن ليذمهم ولذلك قال بعده (وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) ومن يمنعه اللّه من هذه الافعال لا يسمى غافلا ثمّ حقق ذلك بقوله (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) وقوله تعالى من بعد (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) يدخل في

جملته من أكره على الكفر بمكة حتى صبر وعرّض ثمّ تخلص بالهجرة وذلك يبين أن كلا الامرين يحسن من المكره وأن الأفضل أن يصبر على ما يخوف به ولا يدخل على طريق الاباحة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) أ ليس ذلك يدل على اثبات نفسين لنا وذلك لا يصح عندكم.
وجوابنا ان المراد بالنفس غير المكلف فكأنه قال يوم تأتي كل مكلف تجادل عن نفسه وهذا أحد ما يدل على صحة القول بالعدل لانه لو لم يكن له فعل وكان اللّه تعالى يفعل فيه ان يشاء الكفر وان يشاء الايمان لم يكن للمجادلة وجه ثمّ قال تعالى بعده (وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) والمراد جزاء ما عملت لان نفس عملها وقد تقضي لا يجوز أن توفاه فليس الا ما ذكرناه ولذلك قال بعده (وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ) والظلم انما يصح في المجازاة لا في نفس العمل.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ والْخَوْفِ) بعد ذكر كفرهم أ ليس ذلك يدل على انه تعالى يعاقب في الدنيا الكفار وعندكم ان ما يلحقهم من فقر ومرض لا يكون عقابا. وجوابنا انه يحتمل ان الصلاح عند كفرهم ما يفعله بهم من جوع وخوف لأن ذلك عقوبة كما تأولنا عليه قوله تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) أ ليس الفاعل مع الجهالة معذورا فيما يأتيه فكيف أوجب الغفران بالتوبة من ذلك. وجوابنا أنه قد يقال ذلك فيمن دخلته الشبهة فيعمل السوء عندها فلا يكون معذورا والاصل في الجهالة انه موضع للذم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أ ليس ذلك يوجب انه متعبد بشرائع ابراهيم صلّى اللّه عليه وسلم

21 / 47
ع
En
A+
A-