على مذهب من يقول انه تعالى يخلق فيهم هذه الأفعال من المجبرة.
[مسألة]
قالوا فقد قال تعالى (خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ وعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) وهذا يدل على أنه قد منعهم من الايمان ومذهبكم بخلافه وكيف تأويل الآية. وجوابنا ان للعلماء في ذلك جوابين، أحدهما أنه تعالى شبه حالهم بحال الممنوع الذي على بصره غشاوة من حيث أزاح كل عللهم فلم يقبلوا كما قد تعين للواحد الحق فتوضحه فاذا لم يقبل صح أن تقول انه حمار قد طبع اللّه على قلبه وربما تقول انه ميت وقد قال تعالى للرسول (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) وكانوا أحياء فلما لم يقبلوا شبههم بالموتى وهو كقول الشاعر.
لقد اسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
ويبين ذلك انه تعالى ذمهم ولو كان هو المانع لهم لما ذمهم وانه ذكر في جملة ذلك الغشاوة على سمعهم وبصرهم وذلك لو كان ثابتا لم يؤثر في كونهم عقلاء مكلفين. والجواب الثاني ان الختم علامة يفعلها تعالى في قلبهم لتعرف الملائكة كفرهم وانهم لا يؤمنون فتجتمع على ذمهم ويكون ذلك لطفا لهم ولطفا لمن يعرف ذلك من الكفار أو يظنه فيكون أقرب إلى أن يقلع عن الكفر وهذا جواب الحسن رحمه اللّه ولذلك قال تعالى (وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).
[مسألة]
يقال كيف يجوز أن يقول (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) وذلك يدل على الماضي ثمّ ينفي بعد ذلك بقوله (وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) فجوابنا انه أراد تعالى المنافقين الذين يظهرون الايمان ويبطنون الكفر وقص تعالى خبرهم لعظم مضرتهم في ثلاث عشرة آية كما أنه ذكر صفة المؤمنين في أربع آيات وصفة الكفار في آيتين فقد كانت مضرتهم أعظم في أيام الرسول صلّى اللّه عليه وسلم فكشف تعالى بذلك حالهم لئلا يغتر بهم ولكي يتحرز من مخالطتهم ودل ذلك على ان اظهار الايمان ليس بايمان وان المعتمد على ما في
القلب من المعرفة وعلى هذا الوجه قال صلّى اللّه عليه وسلم الايمان قول باللسان ومعرفة بالقلب وعمل بالجوارح.
[مسألة]
يقال كيف قال تعالى (يُخادِعُونَ اللَّهَ والَّذِينَ آمَنُوا) ومعلوم ان الخداع منهم وان جاز على المؤمنين الذين لا يعرفون باطنهم فلا جائز على اللّه تعالى فكيف جاز أن يقول ذلك. وجوابنا ان فعلهم لما كان فعل المخادع قال تعالى ذلك وان لم يكن خداعا للّه في الحقيقة ولذلك قال تعالى بعده (وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وما يَشْعُرُونَ) لأن الذي فعلوه عاد بأعظم الضرر عليهم من حيث ينالهم ذلك بغتة وهم لا يشعرون.
[مسألة]
ان قيل ما معنى قوله تعالى (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً) والمراد في قلوبهم كفر ونفاق فزادهم اللّه ذلك أو ما يدل على ان الكفر من خلق اللّه ومن قبله. فجوابنا أنه تعالى ذكر المرض ولم يذكر الكفر فحمله على ان المراد به الكفر غلط والمراد بذلك أن في قلوبهم غما أو حسدا على ما يخص اللّه تعالى به الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وأصحابه فقد كانوا يغتاظون ويعظم غمهم ثمّ قال تعالى (فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً) أي غما بما يفعله بالرسول ويجدده له من المنزلة حالا بعد حال فقول من قال بحمله على الكفر غلط عظيم ولذلك قال (وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) فان كان اللّه تعالى خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم فأيّ ذنب لهم حتى يعذبهم وكيف يضيف اليهم فيقول (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) وعلى هذا وصفهم تعالى بأنهم مفسدون في الارض وانهم السفهاء بعد ذلك وانهم (وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ).
[مسألة]
قالوا كيف وصف تعالى نفسه بالاستهزاء فقال (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ويَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ). فجوابنا أن الاستهزاء لا يجوز على اللّه تعالى لأنه فعل مخصوص يفعله من لا يمكنه التوصل الى مراده إلا بهذا الجنس فتعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا وإنما أراد بذلك أنه يعاقبهم
ويجازيهم على استهزائهم كما قال تعالى (وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) وما يفعله اللّه تعالى لا يكون سيئة ولا اعتداء ويقول العرب الجزاء بالجزاء والاول ليس بالجزاء وقال صلّى اللّه عليه وسلم أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك وانما أجرى اللفظ على جزاء الاستهزاء مجازا واتساعا. فان قيل ما معنى قوله تعالى (وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أ فتجوزون على اللّه تعالى ان يمدهم في كفرهم وان يريد ذلك. وجوابنا أنه تعالى أراد بمدهم في جزاء طغيانهم لا نفس طغيانهم ويحتمل أن يكون ذلك عاقبة أمرهم في ذلك لقلة قبولهم ويكون ذلك مآل أمرهم وعلى هذا الوجه ذمهم بقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) فالمراد بقوله (وَ يَمُدُّهُمْ) أنه يبقيهم وهذا حالهم ويبين تعالى ذلك بأن (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) فان ظلمة المكان وقد كان فيه الضياء ثمّ فقد أعظم من الظلمة الدائمة.
[مسألة]
ان قيل كيف يصح أن يقول تعالى (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) ولم يكونوا كذلك في الحقيقة. فجوابنا انه تعالى شبه حالهم من حيث لم ينتفعوا بما يسمعون ويبصرون ويقولون بحال من هذا وصفه وذلك بين في اللغة فيمن لم يقبل ولا ينتفع والبيان انه يوصف بذلك على ما قدمنا من انه ربما يوصف بأنه ميت وبأنه بهيمة وبأنه حمار وقد تقدم ذكر ذلك وعلى هذا الوجه يقال حبك للشيء يعمي ويصم والمراد يصيره الى رتبة الأعمى والأصم في انه لا ينتفع ويتعدى وجه الصواب.
[مسألة]
فان قيل كيف يقول تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ ورَعْدٌ وبَرْقٌ) ولفظة أو يستعملها من شك في الامور دون العالم ويتعالى اللّه عن هذا الوصف: (فجوابنا) انه تعالى كما يجوز أن يمثلهم بشيء يجوز أن يمثلهم بشيء آخر في باب الضلالة وليس المراد الا الجمع بين الامرين وقد يقال لفظة أو فيما طريقة الجمع في ذلك كقوله تعالى (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ)
(تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ) أراد الجمع وكذلك قوله (وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ) أراد الجمع وقد يقال جالس الحسن أو ابن سيرين والمراد الجمع واذا جاز في الواو أن يراد به معنى أو كقوله تعالى (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ) فكذلك يجوز أن يذكر أو ويراد به الجمع.
[فصل] ثمّ انه تعالى بعد وصف المنافقين بعث المكلفين على عبادته فقال (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ والَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ولا يصح أن يقول ذلك الا مع الامر بمعرفة اللّه تعالى ليصح أن يعبد ومع اقامة الدلالة التي يصل بالنظر فيها الى معرفة اللّه تعالى وذلك ما نبه عليه بقوله (الَّذِي خَلَقَكُمْ والَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ونبه بذلك على ان العبادة انما تليق به لانه خالقنا والمنعم علينا ونبه بذلك على بطلان التقليدي لأنه لا يصح أن يكون طريقا لمعرفته ونبه بذلك على انه ليس بجسم وأنه انما يعرف بفعله وخلقه.
[مسألة]
ان قيل فما معنى قوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ولعل انما يستعمله المتكلم بمعنى الشك: فجوابنا ان المروى عن ابن عباس والحسن ان لعل وعسى من اللّه واجب فالمراد لكي تتقوا ولكي تشكروا وتفلحوا وذلك أحد ما يدلنا على انه تعالى لا يريد من المكلف الا الطاعة التي هي التقوى والشكر وما شاكل ذلك وعلى هذا الوجه قال اللّه تعالى لموسى وهارون صلّى اللّه عليهما وسلم (فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) لانه أراد بذلك تذكره وخشيته وهو الذي يفهم في اللغة واذا ذكر في غير ذلك فهو مجاز. وقد أجاب بعض العلماء بان المخاطب اذا كان لا يعلم هل يختار ذلك أو لا يختاره صح من المخاطب ان يخاطبه بذلك ليترجاه فمن حيث كان المخاطب مترجيا غير قاطع جاز ان يخاطب بذلك فامر تعالى بعبادته ثمّ قال في آخره (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) وهذا هو معنى الاخلاص أي اعبدوه ووحدوه ثمّ نبه تنزيه القرآن (2)
على وجوب الاعتراف بنبوة النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال (وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) فقد أوتيتم الفصاحة التامة فان كان غير صادق ولكم الحمية والآنفة وقد الزمكم طاعة اللّه والانقياد فما الذي يقعدكم عن ان تأتوا بمثله وهلا دل قعودكم عن ذلك على ان القرآن معجز يدل على صدقه في النبوة وبين انهم كما لم يأتون بمثله فكذلك حالهم أبدا بقوله (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ولَنْ تَفْعَلُوا).
[مسألة]
يقال لم قال تعالى (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ والْحِجارَةُ) وكيف تكون الحجارة وقودا وكيف يصح في الناس ان يكونوا وقودا لها وهم لا يحترقون. فجوابنا انه تعالى نبه على عظمها وانها لذلك تحترق بالحجارة وليس اذا كان الناس وقودها وجب ان يفنوا لانه تعالى يمنع وصول النار الى المقاتل وانما تحترق ظواهرهم كما قال عز وجل (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) أعاذنا اللّه منها بالتقوى.
[مسألة]
قالوا فقد قال تعالى في هذه النار (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) فهلا دل على ان غير الكفار لا يدخلونها. فجوابنا ان للنيران دركات فهذا صفة واحدة منها وبعد فليس اذا ذكر اللّه تعالى انها معدة للكافرين دل على نفي غيرهم وعقب ذلك بقوله (وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) وبين ان لهم فيها أزواجا مطهرة من الامور التي ربما تنفر في دار الدنيا من ضروب ما يتأذى به.
[مسألة]
ان قيل فما معنى قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها). فجوابنا أنه تعالى لما ضرب مثل آلهتهم بالذباب (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً
وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) وضرب أيضا مثلهم بالعنكبوت وضعف نساجته قال الكفار طعنا في ذلك كيف يضرب تعالى مثل آلهتنا بهذه المحقرات فأنزل اللّه تعالى هذه الآية وأراد أنه انما يضرب المثل بما هو أليق بالقصة وأصلح في التشبيه فاذا ضرب مثلهم في باب الضعف كان ذكر الحقير في المنظر من الحيوان أحسن موقعا ومعنى قوله (بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) أي في الصغر والضعف وعجائب الحكمة في البعوضة وصغار الحيوان أزيد من عجائبهما في كبار الحيوان لمن تأمل.
[مسألة]
قالوا فقد قال تعالى (وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً ويَهْدِي بِهِ كَثِيراً) وذلك يدل على أنه تعالى يضل ويهدي لا كما تقولون بأنه تعالى لا يجوز عليه ذلك «قلنا» انا انما ننكر أن يضل تعالى عن الدين بخلق الكفر والمعاصي وارادتها كما ننكر أن يأمر بها ويرغب فيها ولا ننكر أن يضل من استحق الضلال بكفره وفسقه وقد نص اللّه تعالى على ما نقوله في تفسير هذه الآية ودل عليه لانه قال (وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) فنبه بذلك على أن قوله «يضلّ به كثيرا» أريد به يضل بالكفر به كثيرا والا كان لا يكون لقوله (وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) معنى لان غير الفاسقين يضلهم على قول القوم ثمّ انه تعالى وصف من يضله فقال «الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ويَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» فبين تعالى أنه يضلهم بهذه الخصال لا أنه يبدؤهم بالضلالة وعلى هذا الوجه قال «فَرِيقاً هَدى» أي الى الثواب «وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ» بين كيف حق ذلك فقال «إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» وعلى هذا الوجه قال «وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ» فخصهم بذلك وقال «وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ» أي الى الثواب وقال (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ)
(رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) وقال (وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) وقال (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وزِدْناهُمْ هُدىً) أي بالالطاف والتأييد وقال تعالى (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) أي بالادلة وقال (وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي بالأدلة وقال (كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) وقال تعالى (وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) أي بقبوله لذلك وقال (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا) وذم تعالى الشيطان وفرعون والسامريّ بما كان منهم من الضلال فالاضلال من اللّه تعالى مخالف لإضلالهم لا كما يقوله المجبرة والقدرية الذين يضيفون تقدير الفواحش إلى ربهم فنقول إنه تعالى هدى الخلق بالأدلة والبيان ويهدي من آمن بالثواب خاصة ويهديهم أيضا بالالطاف ونقول انه يضل من استحق العقاب بالمعاقبة وبأن يعدلهم عن طريق الجنة وبأن لا يفعل بهم من الألطاف ما ينفعهم ولا نقول انه يضل عن الدين بأن يخلق الضلال فيهم ولا انه يريده ولا انه يدعوهم اليه لان ذلك هو الذي يليق بالشياطين والفراعنة وانما قال تعالى (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) وأراد يعاقب بالكفر به (وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً) أي يثيب بالايمان به كثيرا ويجوز إضافة هذا الضلال إلى نفسه وقد قيل أيضا انهم لما ضلوا عنده جاز أن يضاف إلى نفسه كما قال تعالى (وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) ثمّ قال من بعد (وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) فأضاف ايمانهم وكفرهم إلى السورة لما آمن بعضهم عند نزولها وكفر بعضهم فكذلك أضاف هذا الضلال إلى نفسه لما كفروا بالمثل عند نزوله ثمّ بين تعالى بقوله (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) على أن الكفر من قبلهم وانهم قد كفروا نعمة ربهم وعدد نعمه عليهم معظما لذنبهم وكفرهم لأن عظم النعمة تعظم معصية المنعم ونعم اللّه علينا لا يدانيها نعم فلذلك يكون اليسير من المعاصي عظيما كما يكون اليسير من عقوق الوالد البار
عظيما ودلّ بذلك على بطلان قول من يقول خلق اللّه فريقا للكفر وفريقا للايمان لان ذلك لو صح لكان لا نعمة له على من خلقه للكفر والنار.
[مسألة]
قالوا ما معنى قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ).
وجوابنا ان المراد ثمّ قصد خلق السماء لأنّ الاستواء عليه تعالى على الحد الذي يجوز على أشخاص لا يجوز ولذلك قال تعالى بعده (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ).
[مسألة]
ان قيل أنتم تنزهون الملائكة عن المعاصي فكيف قال تعالى (وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ) أ فليس هذا القول منهم كالاعتراض على ربهم.
وجوابنا انه تعالى أعلمهم طريقهم في العبادة وانه سيسكن الارض من يقع من بعضهم الفساد والقتل فلما قال تعالى وقد صور آدم وخلقه (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) قالوا على وجه المسألة والتعرف (أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) وعلى هذا الوجه يحسن ذلك ولذلك جعل تعالى جوابهم (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) فبين سبحانه وتعالى انه العالم بالمصالح المستقبلة فاذا كان في معلومها ما يظهر من الفضل والعلم من الانبياء والمؤمنين كان ذلك أصلح في الحكم.
[مسألة]
قالوا أ فما يدل قوله تعالى (وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) على ان الامر بما لا يطاق يحسن لأن الملائكة لم تقدر على هذه الأسماء ولذلك قالت (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا). وجوابنا ان ذلك جعله اللّه تعالى معجزة لآدم ودلالة على نبوته من حيث عرفه أسماء المسميات جميعا فعرفت الملائكة بذلك انه نبي وعظّمته وجعل اللّه تعالى ذلك مقدمة الى ما أمرهم به
من تعظيمه بقوله (وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) والمراد عظموه بتوجيه السجود اليه وان كنتم تعبدون اللّه تعالى بذلك ولذلك قال تعالى (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ والْأَرْضِ وأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) وانه تعالى قد عرف الملائكة بما كتب في أم الكتاب من الآجال والأرزاق وغيرهما إنه عالم بذاته بكل شيء فقال لهم (أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ) أ لم أدلكم منبها على ان الذي خص به آدم من الاسماء لم يخصهم به ارادة لاظهار نبوته وتعظيمه وقوله (أَنْبِئُونِي) هو على وجه التحدي وتقدير عجزهم ولذلك كان جوابهم (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) ولذلك قال (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ومن لا علم له لا سبيل له الى العلم بانه صادق في الاخبار عما لا يعلم ومعلوم انهم لو أخبروا لجاز أن يكونوا كذبة ولا يجوز أن يأمر تعالى بما هذا حاله.
[مسألة]
قالوا كيف استثنى تعالى ابليس من الملائكة وهو من الجن في قوله (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) وجوابنا انه لما دخل معهم في الأمر له بأن يسجد لآدم وأريد منه ذلك بهذا القول فصح الاستثناء لأن الاستثناء من جهة المعنى لا يكون الا كذلك وذم اللّه تعالى له بأنه لم يسجد وتكفيره اياه يدل على قدرته على السجود بخلاف قول القدرية انه تعالى يأمر بما لا يقدر العبد عليه وقوله تعالى في وصف ابليس (أبى) يدل أيضا على بطلان قولهم لانه لا يقال أبى الا اذا قدر على الشيء ثمّ امتنع منه اذ أبى فعل نفسه.
[مسألة]
يقال كيف أسكن تعالى آدم وحواء الجنة وكيف أذلهما الشيطان عنها وكيف نفذ قول ابليس عليهما فخالفا أمر اللّه تعالى وكيف فعلا ما عوقبا عنده على الاخراج من الجنة. وجوابنا انه لا يمتنع في سكنى تلك الجنة أن يكون صلاحا اذا لم يفعلا أمرا من الأمور وغير صلاح اذا فعلا ذلك فلما
وقع منهما أكل الشجرة التي هي من جنس ما نهى اللّه تعالى عنه ويقال انها العنب ويقال التين ويقال الحنطة والأول أقرب أخرجهما تعالى من تلك الجنة ولم يخرجهما عقوبة لان معاصي الانبياء لا تكون الا صغائر ولو فعلوا كبائر لحسن ذمهم ولعنهم والنبوة تمنع من ذلك فلما عصيا كان الصلاح اخراجهما الى الارض لما في المعلوم من العواقب الحميدة وكان ابليس يظهر لهما فوسوس اليهما وكان عندهما أن اللّه تعالى انما نهى عن شجرة بعينها وأراد اللّه تعالى ذلك الجنس كله فذهلا عن هذا التأويل ولذلك قال تعالى (فَنَسِيَ ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ولو علما ان النهي عام في ذلك الجنس لم يقدما على اكل ذلك ثمّ من بعد تاب اللّه عليهما فزال تأثير تلك المعصية فلذلك قال تعالى (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) وكان اللّه تعالى يعظم محل الانبياء لعلمهم كيف يتوبون وما الذي يؤدون من الكلمات ثمّ انه تعالى ذكر من يعد نعمه على بني اسرائيل وذكر أولادهم نعمة على الآباء لأن النعمة على الآباء بحيث تخلصوا من قتل الأعداء اياهم نعمة على الاولاد الذين لو لا ذلك الخلاص لم يوجدوا فعلى هذا الوجه خاطبهم بهذه النعم وأمرهم بالوفاء بعهده لقوله تعالى (وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) وهو المجازاة (وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي يجب أن تخافوا معصيتي فان ذلك يوقعكم في العقاب وآمنوا بما أنزلت على محمد صلّى اللّه عليه وسلم ولا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب (وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا) فقد كانوا يطمعون في الضعفاء فيضلونهم ويصرفونهم عن اتباع محمد صلّى اللّه عليه وسلم فلذلك قال (وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا) ثمّ قال (وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وتَكْتُمُوا الْحَقَّ) فدل بذلك على وجوب اظهار الحق بالدعاء اليه ودل به على ان من لبس الحق بالتشبيه فقد أقدم على عظيم وبين ان المرء كما يجب أن يدعو الى الخير يجب أن يتمسك به ومن لم يتمسك به لم يؤثر دعاؤه للغير فقال (أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ واسْتَعِينُوا)