(الصَّادِقِينَ) كيف يصح الحكم بمثل ذلك مع تجويز خلافه. وجوابنا انه لا يمنع في شريعة ذلك الزمان الحكم بمثل ذلك وقد يجوز مثل ذلك في شريعتنا أيضا في أشياء كثيرة كالحكم بالقافة عند بعضهم وكإلحاق الولد بالفراش عند جميعهم وكرد للقطة بالعلامات عن بعضهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) كيف يصح ذلك من جماعة العقلاء حتى يتفق منهن قطع اليد عند مشاهدته. وجوابنا ان حديث يوسف اذا كان قد تمكن في قلبهن لما سمعن من خبر امرأة العزيز وشدة كلفها به لم يمتنع وبين أيديهن فاكهة ومعهن ذلك السكين أن يخرجن في حال ارادتهن لقطع ذلك وأكله الى أن يقع منهن خطأ وليس في القرآن ان ذلك القطع كيف كان وفي أي موضع كان في اليد ولا في القرآن كم كان عدد النسوة ولا فيه ان ذلك وقع من جميعهن أو من أكثرهن ومثل ذلك لا يستنكر.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى في جواب منام الفتيين كيف يصح أن يقطع بذلك فيقول (أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ) ويقول (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) وذلك كلام قاطع بهذا الأمر. وجوابنا انه يجوز أن يكون قاله من وحي، فقد كانت الحال حال نبوّة ولو لم يثبت ذلك لجاز أن يحمل على وجه الظن على أن الخبر في ذلك كان يثبت لديه، فالقرآن يدل على ان نفس يعقوب ونفس ابراهيم صلّى اللّه عليهما وسلم كانوا قد أوتوا المعرفة بتأويل الرؤيا وقد قيل في الخبر أنهما قالا بعد اظهارهما ما رأياه أنهما كذبا، فقال يوسف (قُضِيَ الْأَمْرُ) وذلك لا يكون إلا عن وحي.
[مسألة]
وربما قيل كيف يصح وهو في السجن أن يظهر أن آباءه ابراهيم
واسحاق ويعقوب ولا يظهر ذلك في القوم وكيف يصح ممن نجا منهما أن لا يذكر يوسف الا بعد زمان والا بعد رؤيا الملك أو ليس كل ذلك نقيض العادات.
وجوابنا أن يوسف عليه السلام كان في صورة العبد الرقيق لذلك الملك وكان يخاف أن يظهر من كلامه ما يدل على خلاف ذلك خاصة فيمن كان خادما لذلك الملك وراجيا لان يعود الى الخدمة فلذلك أخفى نسبه فأما النسيان فقد يصح في مثل ذلك اذا قل الحرص في مثله فلذلك قال تعالى (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) وقال (وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) ثمّ ما كان من جوابه لرؤيا الملك وموافقة الصدق في ذلك، يدل على نبوّته.
[مسألة]
وربما قيل أن يوسف لما أجاب في رؤيا الملك (قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) ولم يذكر له جواب الرؤيا، كيف يصح ذلك وجوابنا أنه في هذه السورة قد ذكر تعالى أشياء حذف جزء منها اختصارا ولدلالة الكلام عليه وذلك يحسن.
[مسألة]
وربما قيل كيف يجوز وقد أمر الملك أن يخلص من السجن ان يختار أن يبقى فيه ويقول (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) وقد كان يمكنه ان يخرج ثمّ يفتش عند ذلك. وجوابنا أنه رأى وقد أحب الملك حضوره عنده أن التفتيش عن ذلك يكون أقوى وموقعه أحسن فأوهم أنه لا يخرج من السجن إلا وقد ظهرت براءة ساحته كالشمس فلذلك قال ما قال فلما قلن ما قلن من قولهن (حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) أيقن بظهور أمره فيما كان اتّهم به فعند ذلك خرج الى حضرة الملك.
[مسألة]
وربما قيل كيف جاز من يوسف ان يمدح نفسه فيقول
(اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) ومدح النفس مكروه ومنهيّ عنه بقول اللّه تعالى (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) وكيف يجوز للنبي أن يتولّى من قبل الكفار. وجوابنا أن مدح النفس عند الحاجة إليه يحسن فلا يكون المراد المدح بل يكون المراد ذلك الوجه الذي يقع به النفع وعلى هذا الوجه قال صلّى اللّه عليه وسلم «أنا سيّد ولد آدم ولا فخر» فنبه بقوله ولا فخر على أن مراده ليس مدح النفس فيوسف صلّى اللّه عليه وسلم أظهر ذلك لما كان في توليته الخزائن من المصلحة خصوصا في تلك السنين الشديدة فاما تولي ذلك من جهة الكفّار فانه يحسن اذا لم يمنع الشرع منه فان كان ذلك الملك كافرا فذاك حسن وان كان مؤمنا فلا سؤال.
[مسألة]
وربما قيل كيف يجوز في اخوته وهم جماعة ان لا يعرفوا يوسف كما قال تعالى (فَعَرَفَهُمْ وهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) وذلك بخلاف العادة في الجماعة. وجوابنا أن القوم فقدوا يوسف وهو في سن الصبي فتغير وجهه وقد كان لباسه أيضا من قبل بخلاف لباسه وقد صار له الملك وكذلك سائر أحواله وكان القوم يتهيّبونه عند المخاطبة لشدة الحاجة اليه وكلّ ذلك مما يجوز أن لا يعرفه القوم فيجوز أن حالته في معرفته لهم بخلاف حالهم لتمكنه من الامور وفراغ قلبه لتأملهم.
[مسألة]
وربما قيل كيف يجوز مع المجاعة الشديدة أن لا يكيل لهم مع الحاجة حتى يأتوا بأخيه ومثل ذلك لا يحل. وجوابنا أنه عرف أن الحاجة ليست في ذلك الوقت وكان له بغية في حضور أخيه وأنه سينتهي ذلك الى حضور أبويه أيضا فلذلك فعل.
[مسألة]
وربما قيل كيف يجوز أن يخفى خبره عليهم المدة الطويلة مع قرب المسافة بين مصر وبين البدو الذي كانوا فيه حتى يجري الأمر على ما ذكره تنزيه القرآن (13)
اللّه عز وجل في كتابه. وجوابنا أن إخوة يوسف لما أقدموا على ما فعلوه في أمر يوسف وجملة جماعة من السيارة وقد اشتروه بثمن بخس ظنوا فيه خلاف ما ظهر فقلّ تفتيشهم عنه ولما حمل واشتراه ذلك العزيز لامرأته واتخذاه كالولد كان كالمكتوم عن الناس مع حسن صورته ومثله ربما يخشى ظهوره ثمّ أقام محبوسا ما أقام وتردد في المجلس فعمي أمره وقد طالت المدة فلذلك ولأمثاله خفي خبره على أبيه وإخوته فأما خبرهم فلم يخف عليه لأن الذي عامل به اخوته يدل على أنه كان بذلك عارفا وكان يتلطف في تحصيل أخيه ثمّ أبيه بالوجوه التي أباحها اللّه تعالى ومثل هذا السبب قد يخفى عنده الخبر فلذلك خفي على يعقوب وعلى اخوته خبره (فان قيل) كيف يجوز مع شدة محبة يعقوب أن لا يفتش عن خبره وقد كان قال لهم ما يدل على أنه اتهمهم في أن الذئب أكله. وجوابنا أن يعقوب ما كان يعرف الاخبار الا من جهة أولاده لأن سائر الناس كان يقبض عنهم وأولاده كانوا لا يفتشون عن ذلك لأن سبب الجناية كان منهم وظنوا أنه مفقود في الحقيقة ولأن شدة حزنه وما لقي من المحن في تلك السنين كان يشغل عن مثله (فان قيل) كيف يجوز من يعقوب وهو نبي ان يحزن كل ذلك الحزن على يوسف أو ليس ذلك يصرف عن أمور الآخرة. قيل له قد أبيح للوالد محبة الولد والسرور بأحواله خصوصا اذا كان الولد على مثل صفات يوسف أو ما يقاربها ويحتمل أيضا أنه كان اشتد حزنه لانه ظن أنه قصّر في حفظه وأنه فرّط في أن سلمه من اخوته فتضاعف حزنه لذلك أيضا. فان قيل له كيف جاز أن يقول يوسف وقد جعل السقاية في رحل أخيه إنهم لسارقون وهذا في الظاهر كذب. وجوابنا أن جعل السقاية في رحل أخيه يجوز أن يكون من قبله بأمره فأما ما قاله المؤذن من أنهم سارقون فهو من قبل المؤذن لا من قبل يوسف. فان قيل فكيف قال (فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ). وجوابنا أن كل ذلك ليس من قول يوسف فأما تملك السارق فقد كان بين ذلك الملك ويجوز ان يكون في بعض شرائع الانبياء فلذلك قالوا فهو جزاؤه. فان قيل
وكيف قال تعالى (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) وأخذه على هذا الوجه معصية لا يجوز أن يشاءه اللّه فكيف يصح ذلك. وجوابنا أن المراد مشيئة حصوله هناك حتى يصح أخذه لأنّ كل ذلك مما يجوز أن يشاءه اللّه ولذلك قال بعده (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ). فان قيل كيف يصح أن يقول يعقوب صلّى اللّه عليه وسلم (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) فيضيف اليهم التنفيذ والذم له وكيف جاز أن يقولوا له (إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) فينسبون الضلال اليه. وجوابنا أنه لا يمتنع أن يجد ريح يوسف وأمارات حياته وأن يكون اللّه تعالى قوي ذلك لما أراده من اجتماعهم وأما الضلال في اللغة فهو الذهاب عن الشيء الذي فيه نفع فأرادوا بقولهم إنك لفي ضلالك القديم انك تجري على عادتك في العدول عما ينفعك ومثل ذلك قد يجوز أن يقال للانبياء فيما يتعلق بأمور الدنيا فان قيل كيف يعود بصيرا بالقاء القميص اليه قيل له أنه نبي وفي أيام الانبياء قد يصح ظهور ما يخرج عن العادة فان لم يكن من معجزات يعقوب فهو من معجزات يوسف فلا سؤال في ذلك. واختلفوا فقال بعضهم كان بصره قد ضعف لا أنه قد زال ومثل ذلك كالمعتاد اذا كان المرء شديد الخوف ثمّ يعود له الفرج والسرور فتعود قوة بصره ومنهم من قال بل كان بصره قد زال على ما يدل الظاهر عليه فيكون الجواب ما تقدم. فان قيل كيف قال وقد عاد بصره (أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أو ليس ذلك يدل على أنه كان عالما بحياة يوسف. وجوابنا انه لا يمتنع أن يكون عالما بذلك من جهة الوحي ولا يمتنع أن يكون ظانا لذلك لعلامات وأمارات واذا علم فقد يجوز أن يكون عالما بشرط لا يحل معه القطع ويجوز خلافه وأحواله كانت تدل على أنه لم يكن قاطعا على موته ولا يمتنع أن يكون قد أوحي اليه بما يدل على عوده اليه آخرا. فان قيل كيف يجوز أن يقولوا (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) وهذا كلام معتذر تائب فيكون جوابه (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) فلم يقبل عذرهم
في الحال وذلك لا يجوز على الانبياء. وجوابنا أنه قبل عذرهم في الوقت وانما وعدهم باستغفار مستقبل يقتضي استدعاء حصول المغفرة من قبل اللّه تعالى فاراد الدعاء للّه تعالى وذلك مما لا يجب في الوقت وانما الذي يلزم في الحال قبول العذر فقط كما قال يوسف عليه السلام (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) ويحتمل أنه عليه السلام لم يعرف أن مقصدهم بقولهم (اسْتَغْفِرْ لَنا) الاعتذار الخالص وان كانوا قد تابوا من قبل فقال سوف استغفر لكم ربي اذا عرفت منكم الاخلاص. فان قيل كيف قالوا وقد دخلوا عليه أنك لأنت يوسف وقد ترددوا عليه حالا بعد حال حتى قال (أَنَا يُوسُفُ وهذا أَخِي) وكيف يخفى عليهم حديث أخيهم خاصة وكيف قال لهم (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) وكانوا أنبياء. وجوابنا ما تقدم من أن حال يوسف كان قد تغير في صورته وفي محله وكانوا لا يتأملون تأمل متعرف فلذلك خفى عليهم فأما أخوه فكانوا يعرفونه ولم يقل يوسف (وَ هذا أَخِي) لانهم لم يعرفوه لكنه أراد اظهار نعمة اللّه عليه باجتماع أخيه معه ولذلك قال (قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ ويَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) فاما قوله (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) فالمراد به أيام الصبا وقد يقال لمن لا يعرف الامور انه جاهل لا على طريق الذم. فان قيل فما معنى قوله وقد آوى اليه أبويه (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) وكانوا قد دخلوا. وجوابنا انهما التقيا به خارج مصر فقال ما قال وذلك صحيح وهذا كما يستقبل المرء من يعظمه خارج البلد وأراد بذلك تعريفهم انهم تخلصوا مما كانوا عليه من المحق والمجاعة في ذلك البدو. فان قيل فما معنى (وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) وكيف يسجدون له وذلك من العبادات التي لا تليق الا باللّه تعالى. وجوابنا ان رفعه لهما على العرش كان على وجه الاعظام وايصال السرور اليهما برفعهما على السرير المرتفع فاما السجود فقد يحسن شكرا للّه اذا وصل المرء الى نعم عظيمة فيجوز أن يكون سجودهما له على هذا الوجه وأضيف السجود اليه لما كان سبب ذلك كما يضاف
السجود الى القبلة على قريب من هذه الطريقة. ويحتمل في السجود أن يكون وقع منهما على وجه الاعظام له فان ذلك يحسن على بعض الوجوه. وقد قيل ان اللّه تعالى ذكر السجود وأراد الخضوع بضرب من الميل الى الارض أقرب الى الظاهر بين ذلك قوله تعالى (وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) ودل بقوله (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وبَيْنَ إِخْوَتِي) على انه قد زال عن قلبه ما عملوه به فاضافه الى الشيطان تحقيقا لذلك ودل بقوله وقد جعله اللّه نبيّا (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا والْآخِرَةِ) بعد التحية وقوله (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) على وجوب الانقطاع الى اللّه تعالى والخضوع له في المسألة مع العلم بالغفران فمنّ اللّه تعالى على نبينا صلّى اللّه عليه وسلم بقوله (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) لان في قصة يوسف من العجائب والعبر ما يوجب الشكر ودل بقوله (وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ ولَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) على ان من يؤمن من الناس قليل من كثير وان كان الانبياء يحرصون على ايمانهم ودل بقوله (وَ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) على ان دعاء الغير الى الايمان لا يكاد يؤثر الا مع رفع الطمع ودل تعالى بقوله (وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) على ان الواجب على العاقل التفكر في الآيات اذا شاهدها وان ذلك من أعظم ما يأتيه المرء وكذلك قال بعده (وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وهُمْ مُشْرِكُونَ) ثمّ بين ما يلحقهم إذا أعرضوا عن الآيات من العقاب فقال (أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) فنبه بذلك على وجوب الحذر من قرب الساعة وقرب الاجل ثمّ أمر نبيّه صلّى اللّه عليه وسلم بأن يقول (هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي) ودل بذلك على ان هذا الدعاء كما يلزم الرسول يلزم من اتبعه من أهل المعرفة واليقين ودل بقوله (وَ سُبْحانَ اللَّهِ وما أَنَا مِنَ)
(الْمُشْرِكِينَ) على وجوب تنزيه اللّه تعالى ممن يدعو الى الدين عما لا يليق به وقوي من نفسه صلّى اللّه عليه وسلم من بعد بقوله (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) وبين ما في قصص الانبياء من النفع في الدين فقال (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) وهذا أحد ما يدل على ان الواجب أن يقرأ القرآن بتدبر حتى ينتفع المرء بذلك.
سورة الرعد
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) كيف يصح أن يرفعها بعمد ونحن لا نراها.
وجوابنا ان المراد انه يرفعها ويمسكها لا بعمد أصلا ودل بذلك على قدرته لان أحدنا لا يصح أن يرفع الثقيل الا بعمد وعلى هذا الوجه قال (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ والْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) وذلك من عظم نعم اللّه تعالى فلولا ذلك لم يصح التصرف على الارض ولا أن يدور الفلك والشمس والقمر والنجوم.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) اذ لم يجز عليه المكان. وجوابنا ان المراد الاستيلاء والاقتدار وذكر ثمّ في الاستواء والاقتدار وأراد ما بعد من تسخيره الشمس والقمر لان اقتداره ليس بحادث ولا متجدد فكأنه قال ثمّ (سَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ) وهو مستول على ذلك مقتدر ثمّ يدبر الأمور التي قدر آجالها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ما الفائدة في قوله اثنين وقد عقل ذلك مما تقدم. وجوابنا انه تأكيد يفيد فائدة زائدة لأن الزوجين قد يراد بهما أربعة فبين بقوله اثنين المراد وهو خلقه من كل شيء الذكر والانثى وما يجري مجراه وفي قوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وزَرْعٌ ونَخِيلٌ) دلالة على نعمه وان الواجب التفكر فيها
ليستدل بها على قدرته وليعرف ما يلزم من شكره وعبادته وجعل جل وعز ذلك مبطلا لقول من أنكر الاعادة فلذلك قال (وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ).
[مسألة]
وربما قيل ما فائدة قوله تعالى (وَ أُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) وانما يحسن ذلك منا لانا لا نقدر على التعذيب والمنع الا بالآلات.
وجوابنا انه تعالى يزجر المكلف عن المعاصي بما جرت العادة أن يعظم خوفه لاجله كما يرغب في الطاعة بما جرت العادة به من الملاذ والمناظر والا فهو قادر على أن يؤلم المعاقب بغير هذه الامور.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) أما يدل ذلك على ان كل شيء مخلوق من جهته. وجوابنا انه تعالى ذكر ذلك بقوله (اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وما تَزْدادُ) فبين بعده ان كل شيء عنده بمقدار لانه عالم بكل ذلك وقد يقال عنده ويراد به في علمه كما يقال ذلك ويراد القدرة ويراد الفعل ولذلك قال بعده (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ ومَنْ جَهَرَ بِهِ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) أ ليس ذلك يدل على انه الفاعل لهذه التغيرات.
وجوابنا انه أضافها اليهم كما أضافها الى نفسه والمراد انهم اذا غيروا طريقتهم في الشكر والطاعة غير اللّه تعالى أحوالهم بالمحن وغيرها زجر بذلك المكلف عن المعاصي. فان قيل فقال بعده (وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) وذلك يدل على ان السوء من عنده. وجوابنا ان المراد المحن والشدائد وتوصف بالسوء مجازا وليس في الآية انه يفعل ذلك وانما فيها انه اذا أراده لا مرد له لان ما يريده اللّه تعالى يكون أبدا بالوجود أولى اذا كان ذلك المراد من فعله. فأما اذا أراد من عباده الطاعات فانما يريدها على وجه اختيار وقد يجوز أن لا تقع لسوء اختيار المكلف.