كيف يصح ذلك مع حكمته. وجوابنا أنه تعالى لما خلاهم ونفاقهم ولم يلطف بهم من حيث كان المعلوم أنه لا لطف لهم لتقدم النفاق فيهم جاز أن يضيف ذلك إلى نفسه وذلك قوله (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ) والمراد به التخلية ولذلك قال تعالى بعده (بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ) فبين أن المراد هو ذلك لا أنه خلق فيهم النفاق وقال تعالى بعده (وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ ونَجْواهُمْ) وكل ذلك لا يليق الا بزجرهم عن النفاق ولو كان هو الخالق لذلك فيهم لما صح ولذلك قال تعالى بعده (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) فبين أن استغفاره لا يؤثر وكذلك سائر الالطاف (وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وآتاهُمْ تَقْواهُمْ) لان تقدم ايمانهم صير ما يفعله لطفا لهم فاذا لم يتقدم حرموا أنفسهم ذلك وخرجوا بسوء اختيارهم عن أن يتأتى فيهم اللطف فيكون ذلك كالجناية منهم على أنفسهم وهو معنى قوله تعالى (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) ويقال ان المعاصي اذا اجتمعت وكثرت بلغ القلب في القسوة ما لا تؤثر فيه الالطاف.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً ونِفاقاً) كيف يصح مع ذلك أن يقول (وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ) وذلك كالمتناقض. وجوابنا أن الكلام اذا اتصل دل آخره على أوّله فالمراد بذلك البعض ويحتمل أن يراد بالاعراب من امتنع عن المهاجرة فقد كان يقال مهاجر واعرابي. وبين ذلك قوله تعالى (وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ والْأَنْصارِ) فميزهم من الأعراب الذين أرادهم بهذه الآية.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) ما فائدة ذلك واللّه تعالى يقبل التوبة ممن لم يعمل الا السيئات كما يقبلها ممن خلط الصالح بالسيّئ. وجوابنا أنه تعالى نبه بقوله (اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) على وقوع التوبة منهم والندامة فلذلك خصهم بقبول التوبة لا أنه نفى قبول التوبة عن غيرهم ممن ذكره تعالى بقوله (وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ) لأن هؤلاء لم يتوبوا بل أصروا فلذلك قال تعالى (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) لأنهم اذا بقوا فاما أن يصروا فالعذاب وإما أن يتوبوا فتوبتهم مقبولة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بِها) كيف يصح الأخذ من قبل الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وبفعل غيرهم لا يلحقهم المدح حتى يوصفوا بأنهم مطهرون مزكون وكيف يقول (وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ). وجوابنا ان المراد بذلك من تاب وقبل اللّه توبته. فبين أنه اذا أخذ منهم الصدقة فهذه حالهم وأمره بأن يدعو لهم بالرحمة والثواب وهي معنى قوله (وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ) ولذلك قال بعده (أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ويَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) والمراد بهذا الاخذ القبول وذلك لا يليق الا بالمؤمن التائب الذي يسر ويرضى بما فعله الرسول صلّى اللّه عليه وسلم من أخذ الزكاة منه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والْمُؤْمِنُونَ) كيف يصح من الرسول والمؤمنين أن يعلموا أعمالهم ولا سبيل الى ذلك لا فيما بطن ولا فيما ظهر. وجوابنا أن المراد الاعمال الظاهرة التي يشهد الرسول بها ويشهد المؤمنون كما ذكره اللّه تعالى في الشهداء.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
أَنْفُسَهُمْ وأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ) كيف يدخل قتل الكفار لهم فيما به يستحقون المدح وذلك كفر منهم. وجوابنا ان قتل الكفار لهم يتضمن وقوع الصبر الشديد على الجهاد فيدل على هذه الطاعة العظيمة فلذلك ذكره تعالى وعلى هذا الوجه الذي ذكرناه يوصف المقتول في الجهاد بانه شهيد لما دل القتل له على ما ذكرناه ودل تعالى بقوله فيما بعد (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ والْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) على ان المؤمن لا يتكامل كونه مؤمنا الا بهذه الخصال ونبه تعالى بقوله (ما كانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) على انهم مستحقون العقاب لا يجوز لنا أن نستغفر لهم ونترحم عليهم وانما يجوز ذلك في المؤمن الذي نقطع بايمانه أو تظهر منه دلالة ذلك ودل تعالى بقوله (وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) على انه تعالى يريد بالضلال المضاف اليه العقاب وما شاكله فلذلك قال (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) فنبه على ان اضلاله بالعقاب لا يكون الا بعد هذا البيان وأضاف الايمان والكفر الى السورة في قوله (وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) الى آخر الآية على وجه المجاز لما كان الايمان منهم عند نزولها ولما كان الرجس والكفر من الكفار عند نزولها وذلك معلوم وهو كقوله تعالى (وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ) اذ معلوم لكل واحد ان المراد أهلها وزجر تعالى عباده بقوله (أَ ولا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ ولا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) فبين أنه لا يدع بما ينزل بهم من الامراض والمصائب والمحن سترا يحجبهم عن الطاعة والتوبة وهم مع ذلك غافلون وذلك زجر عظيم عن الاعراض وترك التوبة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) ان ذلك يدل على أنه جل وعز يصرفهم عن الطاعة فما تأويل ذلك. وجوابنا أن المراد ثمّ انصرفوا بترك الطاعة والتوبة صرف اللّه قلوبهم أي عاقبهم على انصرافهم كما قال تعالى «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ») وقوله (وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) ان هذا كالنص في انه تعالى خلق الكفر فيهم. وجوابنا أنهم كانوا يؤخرون الحج من شهر الى شهر، فبين تعالى انهم يضلّون بذلك لا ان اللّه تعالى يفعله فالاضلال منسوب اليهم لا اليه تعالى.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) ان ذلك يدل على أنه يمنعهم من الطاعة. وجوابنا ان كلامنا في الطبع وانه علامة كالختم وانه لا يمنع من الايمان كما تقدم.
سورة يونس
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) ان ذلك كالنص في انه تعالى جسم يجوز عليه المكان. وجوابنا ان المراد بالاستواء الاستيلاء والاقتدار كما يقال استوى الخليفة على العراق وكما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
وقد ثبت بدليل العقل أن ما يصح عليه الاستواء من الأجسام. ولا يكون إلا محدثا مفعولا فلا بد من هذا التأويل (فإن قيل) فلما ذا قال اللّه تعالى (ثُمَّ اسْتَوى) ومعلوم أن اقتداره لم يتجدد. وجوابنا ان ثمّ في اللفظ دخلت على الاستواء والمراد دخولها على التدبير وهو قوله (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) والتدبير من اللّه تعالى حادث.
ومتى قيل فلما ذا خص العرش بالذكر وهو مقتدر على كل شيء فجوابنا لعظم العرش وهذا كقوله تعالى (رَبُّ السَّماواتِ والْأَرْضِ) وان كان ربا لغيرهما ومعنى قوله بعد ذلك (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) ان مرجع الخلق اليه حيث لا مالك سواه، كما يقال رجع أمرنا الى الخليفة اذا كان هو الناظر.
في أمرهم وليس المراد بذلك المكان.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) ان ذلك يدل على جواز لقائه بالرؤية والمشاهدة. وجوابنا ان المراد لا يرجون لقاء ثوابنا واكرامنا ولا يرجون المجازاة على ما يكون في الدنيا وهذا كقوله (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) وكقوله (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ) وبعد فقد يقال لقي فلان فلانا وان لم يره وقد يوصف بذلك الضرير اذا حضر غيره وقد يرى الرجل غيره من بعد ولا يقال لقيه، فليس معنى اللقاء الرؤية ولذلك قال تعالى بعده (وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا واطْمَأَنُّوا بِها) فنبه بذلك على ان المراد انهم لا يؤمنون بيوم القيامة وقوله تعالى بعد ذلك (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) يدل على أن الهدى هو الثواب فيكون حجة على ما نتأول عليه وربما قيل في قوله تعالى (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ) ان ذلك يدل على ارادته لذلك، وجوابنا أن المراد نخلي بينهم وبين ذلك وان كنا لا نأمر ولا نريد الا الطاعة وهذا كقوله (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) والمراد التخلية وكما يقال أرسل فلان كلبه على من يدخل داره اذا لم يمنعه من الوثوب على الناس.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أ ليس في ذلك دلالة على أنه تعالى لا يعلم الشيء حتى يكون. وجوابنا أن المراد بذلك لننظر نفس العمل وهو تعالى يراه بعد وجوده وأما علمه فلم يزل ولا يزال.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) فعمم ذلك ثمّ قال (وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فخص كيف يصح ذلك. وجوابنا أنه يدعو إلى دار السلام الكافة ومعنى قوله ويهدي
من يشاء أي من قبل ما كلفه دون من لم يقبل. ويحتمل ان يراد بهذه الهداية نفس الثواب فيكون قد دعا كل الخلق وأثاب من آمن منهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وزِيادَةٌ) أ ليس المراد بها الرؤية على ما روي في الخبر. وجوابنا ان المراد بالزيادة التفضيل في الثواب فتكون الزيادة من جنس المزيد عليه وهذا مروي وهو الظاهر فلا معنى لتعلقهم بذلك وكيف يصح ذلك لهم وعندهم ان الرؤية أعظم من كل الثواب فكيف تجعل زيادة على الحسنى ولذلك قال بعده (وَ لا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ) فبيّن أن الزيادة هي من هذا الجنس في الجنة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) كيف يصح ذلك وكثير من الأحكام يعول فيها على الظن وجوابنا أنه تعالى ذكر ذلك في محاجة من يعبد الاصنام في قوله تعالى (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) إلى غير ذلك والظن في هذا الحق لا يقبل وانما يقبل الاجتهاد.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي ولَكُمْ عَمَلُكُمْ) ما الفائدة في هذا الجواب. وجوابنا أنه لا يقول ذلك على وجه الحجاج لكنه إذا أقام الحجة واستمروا على التكذيب صح أن يزجرهم بهذا القول، وقد كان صلّى اللّه عليه وسلم يغتم بمثل ذلك فكان تسلية من اللّه تعالى له وما بعده من قوله (أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ولَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) وقوله (أَ فَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ) كل ذلك يدل أن المراد طريقة الزجر لهم ثمّ ذكر تعالى بعده بقوله (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ولكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ان الظلم من قبلهم ولم تنزيه القرآن (12)
يؤتوا فيه إلا من جهة تقصيرهم وأنهم ممكنون من تركه والعدول عنه كما نقول في هذا الباب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ ومَلَأَهُ زِينَةً وأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ واشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) كيف يجوز من موسى أن يسأل ربه ذلك وأن يعتقد انه تعالى رزقهم لكي يضلوا.
وجوابنا أن المراد أنعمت عليهم بهذه النعم فسيروها سببا لضلالتهم فمعنى قوله (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) أن عاقبتهم ذلك كقوله (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وحَزَناً) وأما قوله تعالى (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ واشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) فهو دعاء عليهم وقد ضلوا ويجوز أن يدعى على من قد ضل وكفر بضروب العقاب ويجوز أنه يدعو عليهم بالاخترام والاماتة الذين معهما لا يؤمنون حتى يروا العذاب الاليم في الآخرة لأنه من المعلوم أنه لا يؤمن أبدا كلما عجل اخترامه يكون عقابه أخف وبين تعالى بقوله (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) ثمّ قال (آلْآنَ وقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) أن الايمان مع الالجاء لا ينفع وانما ينفع والمرء متمكن من اختيار الطاعة والمعصية وداعيته مترددة بين الامرين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) كيف يصح في العلم ان يكون سببا للاختلاف والقول الباطل.
وجوابنا أن المراد بذلك انهم اختلفوا وقد أقام الحجة وأوضح الطريق لهم على جهة الندم لهم، ولذلك قال بعده (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ)
(الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).
[مسألة]
وربما قيل كيف يجوز أن يقول تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) ومعلوم ان الشك في ذلك لا يجوز عليه. وجوابنا انه تعالى ذكره والمراد من شك في ذلك على وجه الزجر أو قال ذلك لاهل الكتاب الذين يجوز أن يسألهم غيرهم عما في الكتب من تصديق محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) أ ليس ذلك يدل على ان تقدم كلمته تعالى يمنع من الايمان. وجوابنا ان المراد ان من المعلوم انه لا يؤمن وقد سبقت الكتابة من اللّه تعالى بذلك في اللوح المحفوظ لا يؤمن لكنه انما لا يؤمن اختيارا وكما سبق ذلك في الكتاب فقد سبق فيه أيضا انه يمكن من الايمان فيعدل عنه بسوء اختياره ولذلك قال تعالى (وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) ولو كان ذلك يمنع من الايمان لم يكن في مجيء الآيات فائدة وقوله تعالى من بعد (وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) دلالة على انه لم يشأ إيمانهم على وجه الاكراه مع قدرته على أن يكرههم عليه وأنما سأل ذلك على وجه التطوع والاختيار لكي يفوزوا بما عرضوا له من الثواب، وقوله تعالى من بعد (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا والَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) بعد تقدم ذكر العقاب يدل على ان من ليس بمؤمن من الفساق والكفار لا ينجيهم اللّه من العقاب.
[مسألة]
وربما قيل كيف جاز أن يقول موسى للسحرة (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) وذلك معصية لا يحسن الأمر بها. وجوابنا انه قال لهم لا على وجه الأمر لكن على وجه التعريف بأنهم مبطلون وان باطلهم ينكشف بما
سيأتيه فهو قريب من تحدي الانبياء بالمعجزات.
[مسألة]
وربما قيل ما فائدة قوله تعالى (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) والتنجية لا تكون الا بالبدن. وجوابنا ان المراد انا ننجيك خاصة دون غيرك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما تُغْنِي الْآياتُ والنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) كيف يفعل من ذلك ما لم يغن عنهم شيئا.
وجوابنا ان ذلك كالزجر من حيث ينصرفون عما فيه حظهم ويحتمل انه لا يغني عنهم في الآخرة اذا عوقبوا من حيث تركوا القبول.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي ورَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) كيف يجوز وقد سألوه أن يقتصر على الجواب واليمين دون الحجة. وجوابنا انه قد أقام الحجة وانما أراد منه الفتوى فأفتاهم وأكد ذلك باليمين.