اللَّهَ قَتَلَهُمْ وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ اللَّهَ رَمى) كيف يصح ذلك مع القول بأن اللّه تعالى لا يخلق أفعال العباد. وجوابنا أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان يرمي يوم بدر واللّه تعالى بلغ برميته المقاتل فلذلك أضافه تعالى الى نفسه كما أضاف الرمية أوّلا اليه بقوله اذ رميت والكلام متفق بحمد اللّه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ) كيف يصح أن يضم الصم البكم الى الذين لا يعقلون. وجوابنا أنه تعالى ذكر قبله (وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وهُمْ لا يَسْمَعُونَ) فذمهم على ترك القبول ثمّ شبههم بالصم البكم على طريقة اللغة في مبالغة ذم من لا يقبل الحق فربما قيل فيه انه ميت كما قال تعالى لرسوله صلّى اللّه عليه وسلم (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) ولذلك قال بعده (وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) يعني القبول ثمّ قال (وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وهُمْ مُعْرِضُونَ) فذمهم نهاية الذم وقوله تعالى من بعد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) وهو بعث من اللّه تعالى على الجهاد فكما ذم من قعد عنه ولم يطع الرسول كذلك مدح من قام بحقه وأراد بقوله (إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) أن الجهاد يؤدي الى حياتهم من حيث لولاه لقتلهم الكفار فهو كقوله (وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) ويحتمل اذا دعاكم للامر الذي يؤدي الى حياة الابد وهو الثواب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وقَلْبِهِ) بالاماتة وبغير ذلك فبعث على الجهاد قبل أن يرد عليهم ما يمنع من ذلك من موت أو غيره.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ والرَّسُولَ) كيف يصح ذلك والمضار على اللّه تعالى لا تجوز. وجوابنا ان اللّه تعالى
ذكر نفسه وأراد غيره على مثال قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ) لأنه قد ثبت أن خيانة الكافر للغير إنما تكون بارادة السوء والمضار وذلك لا يجوز على اللّه تعالى وذلك قوله تعالى (وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ) لكنه من المجاز الحسن الموقع لأن الامانة لا تسلم اذا تخللها الخيانة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وأَنْتَ فِيهِمْ وما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ) كيف يصح ان ينفي ذلك أوّلا ثمّ يثبته آخرا. وجوابنا أنه تعالى نفى ذلك بشرط وأثبته مع فقد ذلك الشرط وذلك متفق وقد قيل انه نفى بالاوّل عذاب الاستئصال وأثبت ثانيا عذاب الآخرة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا) أ ليس ذلك يدل على ان كل فعل يقع بقضاء اللّه. وجوابنا ان الآية نزلت في وقعة بدر وانه اتفق لهم ما لم يظنوه من الجهاد والظفر وذلك لا شبهة في أنه من قضاء اللّه كقوله تعالى (وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وقد يقال في كل معقول انه من قضاء اللّه على وجه الاعلام والأخبار إما مجملا واما مفصلا وقوله تعالى من بعد (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) يدل على أن العبد الفاعل المختار وأنه بعد البينة اختار ما يؤديه الى الهلاك ولو كان اللّه تعالى هو الخالق لذلك فيه لكان وجود البينة كعدمها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) قد أضاف موافقة بعضهم لبعض الى نفسه وذلك بخلاف قولكم.
وجوابنا ان الاسباب التي بها يؤتلف كانت من قبله تعالى فأضاف اليه الائتلاف وهذا كما تضيف الى اللّه تعالى الرزق وان كان المرء يسعى في الاكتاب وأراد تعالى اعظام المنة على رسوله صلّى اللّه عليه وسلم بما سهله من تألف القوم على طاعته وموافقته
مع الذي كانوا عليه من المباينة الشديدة ومن الآنفة والحمية.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) كيف يصح ان يضيف ذلك الى الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وهو منزه عن الرغبة في الدنيا ولا يريد الا ما أراده اللّه تعالى. وجوابنا انه لم يضف ذلك الى الرسول صلّى اللّه عليه وسلم على الحقيقة حتى يلزم ما ذكرته وانما نسبه الى غيره ممن كان بغيته الغنائم وقد يصح ايضا من الانبياء إرادة عرض الدنيا من المباحات وان كان تعالى يريد العبادات ومعنى قوله تعالى (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) فالمراد ما كتبه اللّه تعالى في اللوح المحفوظ من كون ما وقع من باب الصغائر المغفورة وقيل لو لا كتاب سبق نزوله ما أحدثتموه من الاسرى والكتاب هو القرآن فآمنتم به واستحققتم بالايمان غفران صغائر ذنوبكم لمسكم فيما أخذتم من الامر عذاب عظيم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) أ ليس يدل ذلك على حدوث علم من اللّه تعالى. وجوابنا انه تعالى يذكر العلم ويريد المعلوم من حيث صح أن معلوم العلم يكون على ما تناوله وعلى هذا الوجه يمدح أحدنا صاحبه ويقول قد علمت ما أنت عليه من الخير والفضل وذلك كثير في القرآن.
تنزيه القرآن (11)
سورة التوبة
[مسألة]
وربما سألوا عن قوله تعالى (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) ثمّ قوله (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) وانسلاخها بانقضاء المحرم وذلك ينقض الأول. وجوابنا انه كان في الكفار من له عهد ومن لا عهد له ومن له عهد يختلف عهده فقوله تعالى (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) هو لمن هذا عهده وقوله تعالى (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) هو لمن لا عهد له أو لمن ينقضى عهده بانقضاء هذه المدة فلا اختلاف بين الكلامين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ) كيف يتولون.
وجوابنا ان هذه اللفظة تفيد التهديد والمراد أنه تعالى قادر على انزال العقوبة فلم لا يجوز عليه المنع وما أكثر ما يرد في القرآن هذا اللفظ على الوجه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ بَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كيف يصح أن يستثنيهم لمكان العهد وذلك لا ينجيهم من العذاب الاليم. وجوابنا ان قوله وبشر الذين كفروا يوهم أن الاقدام على كل كافر بالقتل يجوز فانزال اللّه تعالى هذا الايهام بقوله (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) والمراد لكن الذين عاهدتم من المشركين فليس لكم اذا وفوا الا الوفاء لهم ومعنى قوله تعالى من بعد ان اللّه يحب المتقين ان الوفاء بالعهد يحبه اللّه وهو من باب التقوى.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) كيف يستقيم تشبيه سقاية الحاج بمن آمن باللّه. وجوابنا ان المراد أ جعلتم القيم بسقاية الحاج كمن آمن باللّه. أو يكون أ جعلتم سقاية الحاج كايمان من آمن باللّه ومثل هذا الحذف يحسن في اللغة اذا كان الثابت في الكلام يدل على المحذوف.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ثمّ قوله (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهُمْ صاغِرُونَ) كيف يصح فيمن يكفر باللّه تعالى أن يسوغ له الكفر ببذل الجزية. وجوابنا ان قتلهم لأجل كفرهم وهو شرعي لا عقلي ويجوز ان يكون الصلاح في ذلك ما لم يعطوا الجزية. فاذا أعطوا حرم قتلهم وربما يكون في ذلك هدايتهم للاسلام اذا أقروا ثمّ سمعوا الشرائع وقد قيل ان قتلهم على الشرك لو لم يجز تركه لأدى الى الاكراه وقد قال تعالى (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) فان قيل فأنتم متى قلتم ذلك فان في الكفار من لا يرضى منه الا بالقتل فيجب أن يكون مكرها على الاسلام. وجوابنا انه لا كافر الا وقد يجوز أن يتخلص ببعض الوجوه وان كان مقيما على الكفر فلا يلزم ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) ما فائدة وصف قولهم بذلك وكل الاقوال هذا سبيلها. وجوابنا ان المراد به ان هذا القول لا حقيقة له لانه قد يوصف ما لا حاصل له من الأقوال بذلك وقد يقبل أحدنا على من يتكلم بما لا يصح فيقول هذا قولك بلسانك ولا تقوله عن قلبك ويراد به ما ذكرنا ولذلك قال بعده (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) فبين ان ذلك من الافك الذي لا حاصل تحته.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ والْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) كيف يصح ذلك وليس
فيهم من يتخذ أحبارهم أربابا وانما يقول بعضهم ذلك في عيسى فقط. وجوابنا ان المروى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم انه قال في معناه انهم لما أطيعوا فيما أمروا به ونهوا عنه وصفوا بأنهم اتخذوا أربابا وذلك صحيح فيهم وعلى هذا الوجه يوصف مالك العبد بأنه ربه اذا أطاعه فالأمر مستقيم وبين تعالى بعده بقوله (وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ان الطاعة والعبادة لا تحق الا للّه وكل من يطيع غيره فانما يطيعه بأمر اللّه فتكون طاعته طاعة للّه ثمّ قال تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ) فوصف باطلهم بهذا الوصف وقال تعالى (وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) فوصف الحق بهذا الوصف لصحته وبيانه ثمّ أردف ذلك بقوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ودِينِ الْحَقِّ) فبين ان الذي يؤديه صلّى اللّه عليه وسلم هو الدين الحق ووصفه بأنه يظهره على الدين كله تحقيقا لقوله جل وعز (وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) ثمّ بين ما عليه الاحبار والرهبان بقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ والرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ويَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) فبين أن طاعتهم محرمة الا من أمر اللّه بذلك فيه على ما قلنا، ثمّ أتبعه بالوعيد العظيم لمن امتنع عن الزكاة بقوله تعالى (وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ) واكثر المفسرين على أن المراد به مانع الزكاة وبين أن الأموال التي منعت منها الزكاة (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وجُنُوبُهُمْ وظُهُورُهُمْ) وذلك من أعظم الوعيد.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) كيف خصها بالنهي عن الظلم وحال جميع الشهور سواء في ذلك. وجوابنا ان للاشهر الحرم التي هي رجب وشوال وذو القعدة وذو الحجة مزية في أن الظلم فيها يكون اعظم كما أن لنفس
الحرم مزية على الاماكن في الظلم فلذلك خصه بالذكر ولا يمنع ذلك فيما عداه انه بمنزلته.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) كيف يصح ذلك وقد أمرهم بالجهاد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم. وجوابنا انه لما كان في خروجهم مضرة على المسلمين لنفاقهم اذ كانوا يضمرون التخريب جاز ان يقول تعالى ذلك لان الصلاح في صرفهم عن الخروج ولو خرجوا على الوجه الصحيح لما كره اللّه ذلك ولذلك قال تعالى بعده (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا ولَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) وقال (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) وكل ذلك يشهد بصحة ما ذكرناه وبين تعالى بعد ذلك ما يدل على أنه مع الفسق لا يتقبل من المرء شيء من الطاعات فقال (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) والتقبل لا يصح الا في الطاعات فيدل ذلك على أن الفسق والكفر لا يمنعان من وقوع الطاعة وان منعا من التقبل.
[مسألة]
وربما قيل كيف يصح قوله تعالى (وَ لا يُنْفِقُونَ إِلَّا وهُمْ كارِهُونَ) في صفة المنافقين وفاعل الانفاق لا يجوز أن يكون كارها له.
وجوابنا ان المراد أنهم يكرهون ذلك الانفاق على الوجه الذي أمروا وانما ينفقون خوفا ولا يمتنع ان يراد الشيء على وجه ويكره على وجه آخر كما يراد من الغير ان يصلي للّه ويكره منه أن يصلي على وجه الرياء والسمعة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ ولا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وهُمْ كافِرُونَ) كيف يصح ان يريد تعالى أن يعذبهم بأموالهم وأولادهم في الدنيا. وجوابنا ان تكثير الاموال والاولاد في
الدنيا لا يكون عقوبة لان اللّه تعالى يفعله تفضلا أو مصلحة في الدين لكنهما لما جاز أن يكونا فتنة ومحنة وسببا للعقوبة من حيث يغتر المرء بهما فينصرف عن طريق الطاعة الى خلافه جاز أن يقول تعالى ذلك بعثا للعباد عن هذا الجنس من الاغترار وهذا كقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) ويحتمل أن يريد أنه يعذبهم في الآخرة بها فيكون التعذيب متناولا الآخرة دون الدنيا.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) كيف يصح أن يأمر اللّه تعالى ببذل المال تالفا على الدين ومتى صاروا الى الدين للمال لم ينتفعوا به. وجوابنا ان ذلك وان كان في الحال لا ينتفع به فقد يكون تلطفا في الاستدراج اليه فيصير الواحد منهم بذلك من أهل الدين وقد أمرنا اللّه تعالى بأن نأخذ أولادنا بالصلاة لمثل هذا المعنى وان كانوا لا ينتفعون بالصلاة وليسوا مكلفين. واختلف العلماء في المؤلفة هل يدخلون الآن في سهم من الزكاة فأكثرهم يمنع من ذلك لظهور الاسلام وقوته واستغنائه عن تألف قوم في الذّبّ عنه والمجاهدة فيه ومن العلماء من يقول بل سهمهم ثابت ابدا واذا وجد من ليس يقوى على الايمان ويظن أنه يصير من أهل القوة فيه اذا دفع ذلك اليه فيكون حاله كحال سهم في سبيل اللّه للذين يجاهدون.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ويَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) كيف يصح ان يكون خيرا وما يسمع قد يكون الخير والشر والصواب والخطأ. وجوابنا انه تعالى قيد ذلك فقال بعده (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ويُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ورَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) فبين انه اذن يقبل ما تكون هذه صفته وقبول الخير وما يؤدي الى الخير هو طريقة الصالحين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ اللَّهُ ورَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ) فذكرهما ثمّ وحّد كيف ذلك. وجوابنا ان الواجب ان لا يذكر تعالى مع غيره بل يجب أن يفرد بالذكر إعظاما وقد روي انه صلّى اللّه عليه وسلم سمع رجلا يقول اللّه ورسوله فقال اللّه ثمّ رسوله، ولذلك قال تعالى بعد ذكر نفسه ورسوله (وَ اللَّهُ ورَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) فأفرد ذكره وقد أفرد اللّه ذكر جبريل وميكائيل عن الملائكة تفخيما لهما وتعظيما، فما ذكرناه أحق وأولى.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) كيف يصح ذلك وأكثر الفساق لا يوصفون بالنفاق. وجوابنا انه تعالى بيّن في المنافقين انهم كذلك لأن جميع المنافقين هم فاسقون، وانما كان يحب ذلك لو قال ان الفاسقين هم المنافقون.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ) كيف يصح ذلك في تعذيب المنافقين وانما يستعمل حسب في الخير ويستعمل في خلافه حسيب. وجوابنا ان المراد بذلك الزجر عن النفاق كما تزجر من ينهمك في شرب الخمر، فتقول حسبك هذا الفعل فيكون على وجه الزجر لا على وجه الوصف ولذلك قال تعالى بعده (وَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ولَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) ثمّ انه تعالى بعد ذكر قصة المنافقين ذكر ما يحقق عدله وحكمته فقال (فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ولو كان الظلم خلقا للّه تعالى لكان هو الظالم دون أنفسهم ثمّ ذكر بعده جل وعز طريقة المؤمنين فقال (وَ الْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ ويُطِيعُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ) فوقف رحمته تعالى على من هذه صفته، وبين انها صفة المؤمنين وان من ليس هو كذلك لا يمدح بالايمان، وبين انه وعدهم جنات عدن على ما وصف ووعدهم برضوان من اللّه وان ذلك من باب الانعام الاكبر
والاعظم. وبين ان ذلك هو الفوز العظيم لان من اوتي ذلك فقد أدرك نهاية المطلوب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ والْمُنافِقِينَ) كيف يصح ذلك ومن حكم المنافقين ان لا يجاهدوا وان يجروا مجرى المؤمنين في أحكام الدنيا. وجوابنا ان النفاق ما دام مكتوما فحاله ما وصفه فأما إذا ظهر فحال المنافقين في المجاهدة كحال الكفار، وإنما ذكر تعالى ذلك عند ظهور نفاقهم على ما تقدم ذكره ولو صح ما ذكرته لحملنا مجاهدة المنافقين على غير الوجه الذي تحمل عليه مجاهدة الكفار.
ولذلك قال تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم بعد ذلك (وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ ومَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) وقال بعده (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا ولَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) فنبه بذلك على ظهور النفاق.
[مسألة]
وربما قيل كيف قال تعالى في وصفهم (وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) وكانوا لم يزالوا على النفاق. وجوابنا أن المراد أظهروا الكفر بعد إظهار الاسلام وذلك دلالة على ما قلنا من أن نفاقهم ظهر فأوجب اللّه تعالى فيهم ما تقدم ذكره، ولذلك قال تعالى بعده (وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) ثمّ قال تعالى بعده (وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وتَوَلَّوْا) فنبه بذلك على عظم الذم في نقض العهد والمواثيق وأن من نقضه يكون أعظم حالا ممن ابتدأ بذلك.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله جل وعز (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) فأضاف نفاقهم الى نفسه وأنه أدامه فيهم