سورة الأنعام
[مسألة]
وربما سألوا عن قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) كيف يصح ذلك في الجميع وقد بين في غير موضع انه خلقهم من نطفة.
وجوابنا ان المراد أصل الخلقة في آدم لانه خلق من طين على ما ذكره تعالى فلما كان الكل يرجع في خلقهم الى آدم صح أن يقول تعالى خلقكم من طين.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (ثُمَّ قَضى أَجَلًا وأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) أ ليس ذلك يدل على أن للانسان أجلين وأنتم تمنعون من ذلك.
وجوابنا ان أجل الانسان في الحياة هو وقت حياته وأجله في الموت هو وقت موته فاذا كان موته لا يقع الا في وقت واحد في الدنيا كان مقتولا أو غير مقتول فأجله واحد والمراد بذلك، ثمّ قضى أجلا في الدنيا لانها دار الفناء وأجل مسمى عنده وهو أوقات حياتهم في الآخرة التي لا انقطاع لها بين ذلك، أن الآخرة دار البقاء ولذلك قال بعده (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) فانما وقع ذلك منهم في باب الاعادة في الآخرة.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وفِي الْأَرْضِ) كيف يصح أن يكون في مكانين وكيف يصح مكان للّه تعالى وقد كان موجودا ولا مكان أصلا. وجوابنا ان المراد أنه في السموات والارض بأن يعلمهما ويحفظهما ويدبرهما وقد بيّن ذلك تعالى بقوله من بعد (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وجَهْرَكُمْ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا واللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) ان الكذب يكون قبيحا وأهل الآخرة ملجئون الى ان لا يقع منهم القبيح.
فالمراد بذلك (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا واللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) أي في الدنيا لانهم كانوا يحسبون انهم بخلاف ذلك ثمّ قال (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي في دار الدنيا لانهم أخبروا عن أنفسهم بنفي الشرك وهم كانوا مشركين في الحقيقة. فالكذب انما وقع منهم في الدنيا وأخبروا في الآخرة عن أحوالهم في الدنيا ومثل ذلك يكون فتنة في الآخرة عليهم لانهم يخبرون بما ليس بعذر، فلا ينفعهم ذلك ولذلك قال تعالى بعده (وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) يعني ذهب ذلك عنهم وظنوا خلافه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وفِي آذانِهِمْ وَقْراً) كيف يصح ذلك وقد أمرهم بهذا الاستماع، فكيف يمنعهم بالوقر والكن.
وجوابنا ان ذلك تمثيل لا تحقيق من حيث لم يسمعوا ما أمروا فصاروا بمنزلة من في آذانه وقر ولم ينتفعوا بما فهموا فصاروا كمن في قلبه كن. وقد قيل ان المراد بذلك انهم كانوا يؤذون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم اذا قرأ القرآن فحجبوا عن استماعه من حيث كان المعلوم انهم لا ينتفعون به ولذلك قال بعده (وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) وبين اللّه تعالى بعد اقامة الحجة ان الحجب مانعة عن معرفة كثير من الآيات اذا كان المعلوم ان يكذّب ولا ينتفع به ولذلك قال تعالى بعده (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وكانُوا) وذمهم بذلك ولو كان المنع وقع منه لما صح أن يذمهم على منعهم منه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ ولا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ونَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ثمّ قال تعالى (وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) كيف يصح ذلك. وجوابنا انهم تمنوا الرد الى دار الدنيا والتمني لا يقع فيه الكذب وجد الأمر على ما تمنى أم لم يوجد، وانما يقع الكذب في الاخبار فمعنى قوله (وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) انهم بمنزلة من يكذب من حيث لو ردوا لعادوا.
فان قيل أ تقولون بجواز ردهم الى الدنيا حتى يقال لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه (قيل) اما من اضطره اللّه تعالى الى معرفته عند المعاينة أو بعدها فلا جائز ان يكلفه بعد ذلك لكنه لما كان يجوز أن يرد من دون هذا الاضطرار جاز أن يتمنى ذلك وجاز أن يخبر تعالى عن حالهم بما وصفه على وجه التقدير.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) ما فائدة ذلك. وجوابنا شدة محبته صلّى اللّه عليه وسلم لإيمانهم وقبولهم كان يوجب أن يغتم باعراضهم ويكبر ذلك عليه فبين تعالى أن ذلك ليس في طوقه وهو متعلق باختيارهم فلو فعل ما فعل لم يجد منهم الانقياد ولذلك قال تعالى بعده (وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) والمراد لو شاء أن يلجئهم الى ذلك الفعل لكنه تعالى أراد ايمانهم اختيارا لينتفعوا بالثواب. ثمّ بين تعالى بقوله (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) من ينتفعون بقبولهم (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) فيجازيهم على ما فعلوا.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ) تنزيه القرآن (9)
(آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً ولكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ما الفائدة في ذلك. وجوابنا انه تعالى بيّن أن ما يلتمسونه من الآيات مقدور للّه تعالى لكنهم لا يعلمون ان ذلك بمنزلة ما قد أظهره من الآيات في انهم لا يؤمنون عنده.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ولا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) أ ليس يوجب ذلك ان كل حي مكلف. وجوابنا أن المراد بقوله أمم جماعة فكأنه قال ما من دابة ولا طائر الا وهم جماعة من الجنس الواحد فأما أن يريد بذلك انهم مكلفون فمحال لأنا اذا كنا نعلم ان الصبيّ قبل البلوغ لا يكلف لفقد العقل فالبهائم والطير أولى بذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) كيف يصح ذلك ونحن نعلم انه ليس في القرآن بيان أشياء كثيرة.
وجوابنا ان المراد الشيء الذي يحتاج اليه في باب الدين لأنه الذي اذا لم يبينه تعالى يكون مفرطا، اذ المفرط يكون مفرطا بأن لا يبين ما يجب بيانه وجميع أمور الدين قد بينه اللّه تعالى في القرآن إما مجملا وإما مفصلا ولذلك قال تعالى بعده (وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ) نبه بذلك على انهم بمنزلة من هذه حاله لعدو لهم عما يجب أن يتبعوه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وأَبْصارَكُمْ وخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) كيف يصح أن يذكر أشياء ويجمع ثمّ يوحد بقوله يأتيكم به. وجوابنا ان المراد يأتيكم بما تقدم ذكره وقد يصح في ذلك أن يوحد كما قد يصح أن يجمع. وبين تعالى بذلك انه آتاهم هذه الآيات من سمع وبصر
وقلب لينتفعوا بها فلما لم ينتفعوا بها فكأنها مفقودة ولذلك قال بعده (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) موبخا لهم على عدو لهم.
[مسألة]
وربما سألوا في قوله تعالى (وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) كيف يصح أن ينهاه عن ذلك مع وصفه لهم بالعبادة والخشية. وجوابنا انه صلّى اللّه عليه وسلم ربما كان يقدم الأكابر من العرب محبة منه لإيمانهم وتألفا لهم فأدبه اللّه تعالى بهذه الآية في المؤمنين لئلا يقدم غيرهم عليهم ولذلك قال تعالى بعده (وَ كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) نبه بذلك على ان المقدم هو من يعلمه اللّه تعالى عابدا شاكرا ثمّ قال تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم (وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) فأمره بأن يحييهم ويعرفهم عظم منزلتهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) كيف يصح أن يؤاخذ من عمل السوء ولا يعرفه. وجوابنا ان كل عامل السوء والمعصية يوصف بأنه عمله بجهالة وان كان عالما به والمراد بذلك أنه عمل ذلك على غير ما يقتضيه عقله فان الذي يوجبه العقل التحرز من ذلك؛ وعلى هذا الوجه يوصف كل من يقدم على المعاصي بأنه جاهل ولا يراد بذلك الاعتقاد الذي هو جهل فلذلك قال تعالى (ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لا رَطْبٍ ولا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ما فائدة ذلك واللّه عليم بكل شيء. وجوابنا انه تعالى كتب في اللوح المحفوظ ما سيحدث من الامور. لكن تستدل الملائكة متى
وجدته على علمه وقدرته وهذا كما يحاسب يوم القيامة ويوكل الحفظة بالمكلف لاحصاء ما يأتيه ويفعله ليكون مصلحة له في الدنيا وتبكيتا له في الآخرة.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) أنه يدل على جواز المكان له. وجوابنا ان المراد فوقهم في القدرة والقهر لا في المكان ولذلك قال بعده (وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) الى غير ذلك مما يدل على قدرته.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) فجمع وقال في موضع آخر (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) فوحد وذلك مناقضة. وجوابنا ان ملك الموت هو الموكل بقبض الأرواح وله جمع عظيم من الملائكة يأمرهم بذلك فلا مناقضة في هذا الباب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) كيف يصح والمكان مستحيل عليه. وجوابنا ان المراد ردوا الى حيث لا مالك ولا حاكم الا هو وقد تقدم نظائر ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) كيف يصح ذلك وليس يثبت مولى باطل فيتميز مولى الحق عنه. وجوابنا ان المراد (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) أنه الذي خلقهم فأحياهم وبلغهم هذا الحد ولا يجوز أن يشاركه غيره في ذلك وهذا هو المراد ولذلك قال بعده (أَلا لَهُ الْحُكْمُ وهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) فانه اذا جعل المكلف بهذه الأوصاف جازاه في الآخرة بحسب ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ والْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أما يدل ذلك على انه تعالى أرسل الى الجن رسلا منهم كما أرسل الى الانس. وجوابنا ان قوله (مِنْكُمْ) لا يدل
على المشاركة في انه من الجن بل قد يجوز أن يريد المشاركة في أنه من المكلفين العقلاء الذين يصلحون لذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) أن هذا يدل على المنع من النظر في الأدلة. وجوابنا أن المراد خوضهم في الآيات على وجه الرد والوقيعة كما كان كثير منهم يفعله وكيف يصح ذلك وقد بعث صلّى اللّه عليه وسلم بالآيات في الدعاء اليه.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي) أ ليس ذلك كفرا من قائله فكيف يجوز ذلك على ابراهيم. وجوابنا ان ذلك في حال النظر ذكر على وجه الاستدلال لا على وجه الخبر ولذلك قال بعده (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) فاستدل بحركته وغيبته على انه ليس برب وكذلك قال في الشمس والقمر وقال في آخره (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ والْأَرْضَ حَنِيفاً وما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فعرفه تعالى استدلالا بالسماوات والأرض كما نقل عنه الاستدلال على اللّه تعالى وقد قيل إن المراد بقوله هذا ربي على وجه الاستفهام والنظر ومثل ذلك قد يتفق من المستدل.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وقَدْ هَدانِ ولا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) وان ذلك يدل على انه تعالى يجوز أن يشاء الشرك. وجوابنا ان المراد إلا أن يشاء ربي شيئا مما أخافه، فرجع الاستثناء الى أسباب الخوف لا إلى الشرك. ولذلك قال بعده (وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) وقال بعده أيضا «فأي الفريقين أحق بالأمن» فنبه بذلك على انه لا يخاف الا ما يكون من قبل
اللّه تعالى دون ما يتوهم للاصنام ثمّ قال بعده (الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) فبين ان الأمن في الآخرة والاهتداء الى الثواب انما يحصل لمن يتحرز من الظلم وكل المعاصي تعد في الظلم ولذلك قال تعالى (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ثمّ بيّن قوله تعالى (وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) الى آخره ذكر الانبياء ثمّ قال بعده (ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) فبيّن أن الحجة على توحيد اللّه واحدة في الانبياء وغيرهم. ثمّ قال من بعد (وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فبيّن أن الشرك يحبط كل هذه الطاعات ثمّ قال (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فنبه بذلك ان الدلالة واحدة.
[مسألة]
وربما سألوا عن قوله تعالى (وَ مِنْ آبائِهِمْ وذُرِّيَّاتِهِمْ وإِخْوانِهِمْ واجْتَبَيْناهُمْ وهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أ ليس ذلك دلالة على أنه خصهم بالهدى. وجوابنا ما تقدم من أنهم لما قبلوا خصهم بالذكر.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ) كيف يصح وليس في الناس من يجعل للّه شريكا من الجن. وجوابنا ان المراد انهم جعلوا الملائكة شركاء الجن من حيث اتفقوا في انهم لا يرون. وقيل ان ابليس يعبده كثير من الناس كالشريك للّه على ما يحكى عن بعض المجوس.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وعن قوله تعالى (اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وقالوا يدل ذلك على صحة قول المجبرة. وجوابنا عن ذلك ان المراد وخلق كل شيء مما يوصف بأنه مخلوق لان كل ذلك من قبل اللّه تعالى وهذا كقول القائل
أكلت كل شيء يريد مما صح كونه مأكولا فلا يدل على ما قالوه وقد أجيب عنه بأن المراد التكثير والمبالغة لا أنه عموم في الحقيقة كقوله تعالى (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) وقوله (وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) وذلك مذهب العرب في المبالغة وبين ذلك قوله (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) فبيّن حسن ما خلق فلا يصح أن يضاف اليه شيء من القبائح وقيل أيضا ان المراد قدر الأشياء لا أنه أوجدها وأحدثها فما هو من فعله قد قدره وما ليس من فعله قدره أيضا بأن بيّن أحواله وذلك كقوله تعالى (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) والمراد الأخبار عن حالها، فأما دلالة قوله عز وجل (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) على أنه تعالى لا يجوز أن يرى بالأبصار فبيّن وذلك مشروح في الكتب وأما قوله تعالى (وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) فالمراد به لطيف الفعال لان اللطف عليه في ذاته يستحيل كما يستحيل عليه الصغر تعالى اللّه عن ذلك، وقوله تعالى من بعد (وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا) فالمراد به لو شاء أن يمنعهم ويحول بينهم وبين الاختيار لما وقع الشرك منهم ويحتمل ولو شاء ان يلجئهم الى خلاف الشرك لما أشركوا ومن عظيم آداب القرآن قوله تعالى (وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) فنهاهم عن سب آلهتهم لئلا يقع منهم ذكره تعالى بما لا يليق به على وجه المقابلة لأن من ظن أنه اذا سب آلهتهم وقع منهم ذلك يكون قد أغراهم بهذه المعصية.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) أ ليس ذلك يدل على انه تعالى قد زين عمل الكفار والعصاة وذلك بخلاف قولكم وقول المسلمين. وجوابنا ان المراد به ما ألزمهم تعالى من العمل وشرعه لهم وليس المراد ما وقع منهم وعلى هذا الوجه يقول الوالد للولد قد زينت لك العمل الذي رسمته لك فخالفتني فيسمى ما لم يقع منه عملا من حيث الامر والالزام وبين ذلك قوله تعالى من بعد (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ
فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» على وجه الدفع لهم عن الكفر وغيره فكيف يصح أن يكون مع ذلك مزينا لما فعلوه وقد بيّن تعالى في غير موضع أن الشيطان هو المزين لعملهم وقد قيل ان المراد زينا أعمالهم من حيث ميل الطبع والشهوة وأمرناهم مع ذلك بالمخالفة والجواب الأول أبين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأَبْصارَهُمْ) ان ذلك يدل على انه تعالى يخلق في قلوبهم الكفر والايمان قالوا ويقوي ذلك قوله (وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
وجوابنا ان المراد بذلك أنه يجعلهم كذلك في الآخرة فتقلب أفئدتهم وأبصارهم في النار تنكيلا لهم وأما قوله (وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) فالمراد أنه يخلي بينهم وبين ما اختاروه فلا يمنعهم كما نقول فيمن بصرناه برشده فلم يقبل قد تركناه ورأيه لأنا لم نكره ذلك منه وبين صحة ذلك قوله تعالى من بعد (وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) فنبه بذلك على انهم خلاهم لعلمه بسوء فعالهم وانهم لا يعدلون الى الطريقة المثلى ومعنى قوله (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) ان يلجئهم الى الايمان لكن ذلك لا ينفع وانما ينتفعون بما يفعلونه اختيارا فيستحقون به الثواب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ كَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) وان ذلك يدل على أن مكرهم بكفرهم من قبله تعالى. وجوابنا ان المراد بينا ذلك من حالهم كما يقال في الحاكم انه جعل الشاهد مزورا اذا بيّن ذلك من حاله ويقال ان المعتزلة جعلت المشبهة كفارا لما بينوا ذلك من حالهم كما يقال ان الحنفي جعل الوتر واجبا لما ذهب هذا المذهب فأما قوله تعالى (لِيَمْكُرُوا فِيها) فالمراد