(أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) هو كيف تصح التسوية بين من يقتل الواحد ومن يقتل الخلق جميعا وذلك بعيد عن متعارف الشرع وطبيعة العقل. وجوابنا ان بيان عظم هذا القتل في العقاب وانه من حيث يقتدي به ويسهل سبيل القتل وغيره عظم اثمه كما قال صلّى اللّه عليه وسلم من سنّ سنّة سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة (فان قيل) أ فتقطعون على ان من قتل هذه النفس فعقابه كعقاب من قتل الناس جميعا (قيل له) ذكر اللّه تعالى ذلك في بني اسرائيل خاصة فلا يمنع مثل ذلك فيهم وان لم يجب في غيرهم لان عظم المعاصي يختلف بالاوقات واختلاف الأحوال ويحتمل أن يراد به فكأنما قتل الناس جميعا في عظم ما فعل، وان لم يبلغ ذلك الحد في العقوبة لأن الظاهر لا يدل الا على هذه الجملة. ومتى قيل فما معنى قوله تعالى (وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) وذلك ليس في مقدور أحد. فجوابنا ان المراد التخليص من القتل والهلاك وذلك يعظم في الواحد كما يعظم في الجماعة (فان قيل) أ ليس يدل على قوله تعالى (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) على انه ندم والندم توبة.
وجوابنا انه لم يندم من حيث انها معصية وقبيح. بل ندم لما افتضح وكان ظن ان ذلك يخفى فلما ظهر قتله ندم لشيء يخصه.
[مسألة]
ومتى قيل ما معنى قوله تعالى (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ) وكيف يصح أن يحاربوا اللّه. وجوابنا ان المراد محاربة أنبيائه فقدم ذكره تعالى تعظيما لذلك وبين ان من عادى رسله وحاربهم، فقد عادى اللّه تعالى فنبّه بذلك على عظم هذا الفعل وفخامته والمراد بالمحاربين من ذكره العلماء من الكفار والمفسدين في الصحارى والبلاد ثمّ بيّن ان حكمهم فيما يأتون من القتل وأخذ الاموال لا يخرج عما ذكر تعالى من أن (يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ)

(أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) فيلزم ذلك فيهم بحسب جناياتهم ولذلك قال تعالى أولئك (لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا ولَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) وبيّن أن من تاب قبل القدرة عليه فهذه الاحكام عنه زائلة فيما كان من حق اللّه تعالى.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) كيف يصح وهم ملجئون الى أن لا يفعلوا القبيح وارادتهم ما حكم اللّه تعالى بخلافه تقبح. وجوابنا ان لعلماء التوحيد في ذلك جوابين (أحدهما) أنه يصح أن يريدوا ذلك ويحسن وان كان اللّه تعالى لا يفعله وعلمهم بأنهم لا يخرجون من النار لا يمنع من حسن ذلك لو وقع.
فهذا القائل يحسنه على ظاهره (و الثاني) ان المراد انه يقع منهم ما يقع من المريد في دار الدنيا فوصفهم تعالى بالارادة لاجل ذلك ولذلك قال تعالى بعده (وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) كيف يصح ذلك في المنافقين واليهود وقد أراد اللّه عز وجل عندكم تطهير قلوب الخلق المكلفين من الكفر والمعاصي ومن قبل ذلك (وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً).
وجوابنا ان الفتنة قد يراد بها التشديد في التكليف وقد يراد بها العقوبة واللّه يريد كلا الأمرين فأما تطهير القلب فالمراد به انه عز وجل علم أن لا لطف لهم حتى يريده فيصير صارفا لهم عن المعاصي ويحتمل أنه لقي قلوبهم ليس عليهم سمة الايمان كما قال تعالى (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ).
[مسألة]
وربما قيل كيف يصح قوله (وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) ومعلوم ان كثيرا منهم ليس بكافر عندكم وقد كرر اللّه تعالى ذلك فقال مرة هم الكافرون وأخرى هم

الظالمون واخرى هم الفاسقون وجوابنا ان المراد به اليهود لان هذه الآيات واردة فيهم ولأنه تعالى قال بعده (وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) وذلك صفة اليهود وهم كفار وقد قيل فيه ان المراد به من لا يحكم بما أنزل اللّه مستحلّا له وقيل ان المراد ومن لم يحكم بشيء مما أنزل اللّه فلا يلزم ما قالوه وان تعلق بذلك الخوارج فلم يصح لأكثرهم ففيهم من لا يقول بأن من لم يحكم بما أنزل اللّه يكون كافرا اذا كان صغيرا أو كان على التأويل أو على السهو فلا بد من أن يرجع الى ما ذكرناه من التأويل.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً ونُورٌ ومُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) كيف يصح ذلك وشريعة عيسى مخالفة لشريعة موسى. وجوابنا أن وقوع النسخ في الشرائع لا يخرجها من أن تكون متفقة كما أن اختلاف الشرع في الغني والفقير والمقيم والمسافر لا يخرج الشرع من أن يكون متفقا، لأن كل شيء من ذلك صلاح في وقته وعلى هذا الوجه بيّن تعالى في القرآن أنه مصدق للتوراة والانجيل والزم رسوله اذا حكم بينهم أن يحكم بالقرآن وأن لا يتبع أهواءهم التي هي بخلاف القرآن. وبيّن بعد ذلك بقوله (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً ومِنْهاجاً) أن الذي يجمع الكل في كونه مصلحة يخرجه من أن يكون مختلفا بل يكون بعض مصدقا لبعض ولذلك قال تعالى بعده (وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ولكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) فجعل اختلافهم ثابتا في المذاهب التي هي مخالفة للحق لا في الشرائع الحقة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ والنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) كيف يصح مع الذي بينهما من المعاداة. وجوابنا انه تعالى لم يعين البعض وبعض من النصارى

أولياء بعض منهم وكذلك بعض اليهود ومع ذلك فاليهود والنصارى يتولى بعضهم بعضا فيما يتفقون عليه من التكذيب لشريعة نبينا صلّى اللّه عليه وسلم ولذلك قال بعده (وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) فنبه بذلك على أنه أراد بالتولي الاجتماع على ما ذكر وذكر بعد ذلك أحوال المنافقين الذين يتولون الكفار في الباطن فقال (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ) وبين طريقهم مع المؤمنين وانهم يقولون (نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) ثمّ بيّن بعد انهم سيندمون اذا ظهرت النصرة من اللّه تعالى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم (عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) ومعلوم من حال المؤمن انه يعز المؤمن ويعظمه ويتولاه. وجوابنا أن مراده تعالى بيان ما يحصل بهم من القهر والغلبة للكفار وما يحصل لهم من اللين والخضوع للمؤمنين فوصف ذلك بالعزة وهذا بالذلة، وهذا كما يقال لمن يخضع لغيره انه يذل له ويذلل ولذلك قال تعالى بعده في وصفهم (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) وبيّن تعالى ان جهادهم على هذا الوجه فضل من اللّه من حيث يوفق لذلك ومن حيث يؤديهم الى النعم العظيمة من الثواب. وبيّن بعده عز وجل بقوله (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ) صفة من يتولى المؤمنين وأنه تعالى يتكفل بنصرتهم وغلبتهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وغَضِبَ عَلَيْهِ وجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ والْخَنازِيرَ وعَبَدَ الطَّاغُوتَ) كيف

يصح وصف من تقدم ذكره من أهل الكتاب والمنافقين بذلك ولم يكن فيهم من يعبد الطاغوت. وجوابنا انه تعالى قد ذكر من قبل أهل الكتاب بقوله (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ والْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) فلا يمتنع أن يرجع هذا الوصف اليهم ويحتمل في الطاغوت أن يراد به شياطين الانس والجن فقد كان فيهم من يضل العوام ويدعوهم الى الكفر ومن يطع هؤلاء يسمى عابدا له كما قال تعالى (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) لما أطاعوهم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) كيف يصح ذلك وليس فيهم من يقول هذا القول لا على ظاهره ولا على وجه التخيل. وجوابنا ان في التوراة أن قوما منهم كانوا يستبطئون الرزق من جهة اللّه تعالى وينسبونه الى البخل ففيهم نزلت هذه الآية. فبيّن تعالى ان يده مبسوطة العطاء والافضال والرزق لكنه ينفق كيف شاء بحسب المصلحة، ولم يرد تعالى بذكر اليدين الجارحة ولا صفة مجهولة كما يذهب اليه المشبهة بل أراد تعالى النعم وانما ثنى ذلك لأنه أراد نعم الدنيا والدين والنعم الظاهرة والباطنة ولو أراد تعالى الجارحة لم يكن لذكر البسط والانفاق معنى لانه لا يثبت التكذيب في قولهم الا بالانفاق، فزال ما نسبوه اليه من البخل وليس للجارحة في ذلك مدخل.
[مسألة]
وربما قيل ما معنى قوله تعالى (وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ والْإِنْجِيلَ وما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ ومِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) وكيف يكون الاكل على هذا الوجه.
وجوابنا أنه تعالى في كثير من القرآن يذكر الاكل ويعني سائر وجوه الانتفاع نحو قوله (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) ومعلوم من حال الانتفاع انه يكون سببه ما ينزل من السماء وما ينبت من الأرض وعلى هذا

الوجه قال تعالى (وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وما تُوعَدُونَ) فكنّى تعالى عن ذلك بهذين الحرفين اللذين يجمعان كل المنافع. ثمّ بيّن تعالى ان منهم أمة مقتصدة وهم الذين أسلموا وسلكوا طريق الحق من قبل فنبّه بذلك على ان كل أهل الكتاب ليسوا بالصفة التي ذكرها.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) معلوم انه اذا لم يبلغ الرسالة فما فائدة التكرار. وجوابنا ان المراد بقوله بلغ ما أنزل اليك من ربك هو القرآن. وبيّن انه ان لم يبلغ القرآن لا يكون قد بلغ الرسالة أجمع فليس ذلك بتكرار بل هو تنبيه على ان في جملة ما حمل من الرسالة ما لا ينطق القرآن به ومتى لم يبلغ القرآن لم يتم ابلاغ الرسالة أجمع، فالفائدة في ذلك عظيمة ولذلك قال تعالى بعده (وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فأزال عن قلبه الخوف من ابلاغ كل الرسالة وعلى هذا الوجه نقول ان الرسول صلّى اللّه عليه وسلم لا يجوز أن يكتم شيئا من الشرائع ولا ان يغير. وبين بأنه تزال عنه سائر الموانع في ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والصَّابِئُونَ والنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ) كيف يصح ذلك فكأنه قال ان الذين آمنوا من آمن منهم. وجوابنا ان قوله تعالى (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) يرجع الى الذين هادوا الى الصابئين والنصارى دون المؤمنين فالكلام مستقيم، فكأنه قال ان الذين آمنوا ومن آمن من اليهود والنصارى والصابئين وعمل صالحا وبعد فلو رجع الى الكل لكان المراد الايمان في المستقبل فكأنه قال ان الذين آمنوا من ثبت على ايمانه في المستقبل واستمر عليه وعمل صالحا فيستقيم الكلام.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ)

كيف يصح ذلك ومعلوم من حالهم انهم ماتوا ولم يمسهم من العذاب ما ذكره تعالى. وجوابنا أنه أخبر عن المستقبل ولم يذكر اللّه ان ذلك يمسهم في الدنيا.
فالمراد انه يمسهم ان ثبتوا على الكفر العذاب الأليم في الآخرة وان تابوا أزال ذلك عنهم وقد قيل ان المراد بذلك ما ينالهم من الذل والجزية وغيرهما لان ذلك صغار وعذاب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) ما الفائدة في ذلك. وجوابنا انه بيّن بذلك أنه رسوله لا معبود ولا إله لان من جاز ذلك عليه واحتاج الى الطعام لا يجوز أن يكون إلها معبودا. فبيّن بذلك بطلان قول النصارى ولذلك قال بعده (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) ثمّ قال بعده أيضا (قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولا نَفْعاً) ثمّ قال بعده (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ولا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وأَضَلُّوا كَثِيراً وضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) وكل ذلك يبين صحة ما قلنا وعظم تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوله جل وعز (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) الى آخر الآيات ثمّ عظم اثم من يتولى أعداء اللّه بقوله جل وعز (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) ثمّ قال تعالى (وَ لَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيِّ وما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ) فدل بكل ذلك على ما يجب من تولي المؤمنين ومعاداة الكافرين والفاسقين.

[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ) كيف يصح ذلك وما يستحقه من الاثم في اليمين أو في الحنث لا يزول بذلك.
وجوابنا ان لهذه الكفارة حظا في التكفير وان لم يزل الكل فلذلك سمي بهذا الاسم لا انه اذا فعلها لاجل يمينه وحنثه زال كل عقابه بل خففه فلذلك يحتاج الى التوبة ليقطع بها على زوال العقوبة لان قدر تأثير الكفارة غير معلوم وقد يقال ان ذلك كفارة لا لانها تكفر الاثم، وعلى هذا الوجه يكون كفارة في عظم الامور ويكون كفارة فيما هو طاعة أيضا.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها واللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) كيف يصح المنع من المسألة والتكفير وهي تعرف بحال ما سأل عنه السائل. وجوابنا أن المسألة في باب الدين تعرف الحق لا ينكر وليس هذا هو المراد بل المراد المسألة على وجه التعنت لقوله تعالى (وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) الآيات فان ما جرى هذا المجرى يقبح وربما عظم حتى بلغ حد الكفر اذا اقترن به القدح في النبوّة وبين تعالى بقوله (ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ ولا سائِبَةٍ ولا وَصِيلَةٍ ولا حامٍ) وبقوله (وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) ان كل ذلك من فعلهم ولو كان ما فعل العبد مخلوقا من جهة اللّه لما صح ذلك وبين بقوله (وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) ان تقليد الآباء وغيرهم في باب الدين جرم عظيم.

[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ان ذلك يوجب أن يتشاغل المرء بنفسه ولا يفكر في حال غيره فيأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر. وجوابنا ان الأثر المروى عن ابي بكر الصديق في ذلك هو الجواب، فانه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول ان الناس اذا رأو الظالم ولم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم اللّه بعقاب. فبين ان منع الغير من الظلم والمنكر من الواجبات على من يتمكن فيضره اذا لم يمنعه والمراد بذلك ان أحدا لا يؤخذ بذنب غيره واذا لم يؤخذ فكيف يؤاخذ اللّه تعالى بما يخلقه فيه فيوجبه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا) كيف يصح منهم هذا القول وقد علموا بما ذا أجابهم من دعوة الى الدين من الأمم. وجوابنا ان المراد لا علم لنا الا ما أنت يا رب به أعلم ولذلك قال بعده (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ويحتمل أنهم قالوا لا علم لنا بباطن أمورهم لأنهم انما يعلمون الظاهر واللّه تعالى هو العالم بباطن ما فعلوه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) كيف يجوز من الحواريين أن يحملوا قدرة اللّه تعالى على ذلك.
وجوابنا انهم ذكروا الاستطاعة وأرادوا نفس الفعل ولذلك (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) ولذلك صار جواب قولهم أن عيسى عليه السلام قال (اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) ولو كان مرادهم القدرة فقط ما كان لذلك معنى. ويحتمل أن يكون المراد انزال مائدة تكون مصلحة للكل لأن ذلك ربما لم يدخل تحت القدرة كما نقول في باب الألطاف ولذلك قال تعالى بعده (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ)

(مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) كيف يصح ذلك وعيسى لم يقل ذلك للناس وكيف يصح أن يقول (وَ إِذْ قالَ اللَّهُ) وذلك يخبر به عن الماضي ولم يتقدم ذلك منه تعالى في الدنيا.
وجوابنا ان ذلك من اللّه تعالى على وجه التوبيخ والتقريع لمن قال ذلك، وقد يجوز من الحكيم أن يخاطب بذلك متهما بفعل ليكون ردعا وتوبيخا لمن فعل واللّه تعالى عالم بالأمور، ولا يصح الاستفهام عليه فالمراد ما ذكرنا فقد كان فيهم من يزعم ان عيسى صلّى اللّه عليه وسلم أمرهم بأن يتخذوهما إلهين فيعبدوهما ويطيعوهما كطاعة المرء للّه ولذلك قال بعده (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) وقد قيل ان هذا القول وقع منه تعالى في مخاطبة عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة عند ما رفعه الى السماء فلذلك قال تعالى (وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) وقيل أيضا واذ قال يستعمل في المستقبل اذ قدر فيه تقدير الماضي كقوله تعالى (وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) لما قدر فيه تقدير الماضي ولذلك قال تعالى بعده (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أ ليس ذلك من قول عيسى صلّى اللّه عليه وسلم يدل على انه كان لا يعرف انه تعالى يعذب الكفار لا محالة.
وجوابنا ان المراد تفويض أمرهم الى اللّه وأنه يفعل بهم ما يريد مما يكون عدلا وحكمة ويحتمل أن يكون المراد بقوله (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) من استمر على كفره وبقوله (وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) من آمن.

12 / 47
ع
En
A+
A-