تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) وذلك يجمع كل العبادات والطاعات التي تختص به ثمّ قال (وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وبِذِي الْقُرْبى والْيَتامى والْمَساكِينِ والْجارِ ذِي الْقُرْبى والْجارِ الْجُنُبِ والصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وابْنِ السَّبِيلِ وما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يجمع تعالى بذلك الاحسان الى كل محتاج وان كان بعضهم أقرب الى المرء كنحو ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وملك اليمين وبعضهم أبعد كنحو اليتامى والمساكين وابن السبيل فأمر بالاحسان الى الكل ثمّ من بعد ذلك نبه المرء على طريقة التواضع فقال (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً) فهذه الآية جامعة لكل ما يحتاج المرء اليه فتدخل فيه العبادات بكمالها وضروب الاحسان والانفاق في سبيله والمنع من ضروب التكبر والعدول عنه الى التواضع فهو على اختصاره بجمع ما يدخل في المجلدات الكبار ثمّ قال تعالى (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ويَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ويَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) فجعل ذلك من صفات من يكون مختالا فخورا فنبه بذلك على ان الانفاق هو الذي يخرجه من أن يكون فخورا ومن أن يكون بخيلا فالذي يخرج من ذلك لا يكتم ما آتاه اللّه من فضله فيرى شكورا معترفا بنعم اللّه قولا وفعلا فكل ذلك تأديب من اللّه تعالى في باب الدين. وبين من بعد كيف ينبغي أن ينفق في ذات اللّه تعالى فقال (وَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ ولا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ومَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً وما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ وأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً) فرغب في ذلك حتى ختم الكلام بقوله جل وعز (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ويُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) فبين كيف يدبر المكلفين ولا يظلم أحدا منهم حتى يمنعه المصالح ويمنعه الثواب أو يزيد في عقابه وبين انه في الحسنات
يضاعف ثوابها وبيّن أنه يؤتى المرء الاجر العظيم على ما ينزل به من الشدائد ودل بقوله إنه لا يظلم مثقال ذرة على بطلان قول هؤلاء القدرية الذين يقولون لا ظلم الا من قبل اللّه وبخلقه وإرادته. تعالى اللّه عن قولهم علوا كبيرا ثمّ بيّن تعالى أنه صلّى اللّه عليه وسلم يكون شاهدا على أمته بما يقع منهم من خير وشر فحذر بذلك من المعاصي وأن المرء اذا علم ان الرسول صلّى اللّه عليه وسلم مع عظم محله يشهد عليه كان أبعد من المعصية وبين أن شهادته تكون يوم القيامة وان (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) فيتمنون أن يبقوا في التراب وفي القبر لما رأوه من العذاب ويصيرون بحيث لا يكتمون اللّه حديثا حتى تشهد عليهم أيديهم وألسنتهم بما كانوا يعملون فلو لم يتدبر المرء الا هذه الآيات لكفاه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) كيف يصح ذلك والسكران لا يخاطب لزوال عقله. وجوابنا ان المراد المنع من السكر الذي لا يمكن اقامة الصلاة معه لا انه اذا سكر يؤمر وينهى هذا هو الوجه.
وروى عن بعض الصحابة انه جعل ذلك أول دلالة على تحريم الخمر ودل قوله (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) على ان الصلاة لا تصح إلا بقول فذلك احد ما يدل على وجوب الذكر والقراءة في الصلاة ويدل أيضا على ان المصلي يجب ان يكون عالما بصلاته وبقراءته متدبرا لها فلا يصلي وهو غافل ونهى تعالى الجنب ان يقرب الصلاة الا عابر سبيل حتى يغتسل فدل بذلك على انه متى لم يكن مسافرا لم تصح صلاته الا بالاغتسال ونبه جل وعز على انه اذا كان مسافرا يجوز ان يصلي بلا اغتسال بل بالتيمم.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ) تنزيه القرآن (7)
(وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ) كيف يصح أولا ان يكون القرآن مصدقا لما معهم وكيف يصح في الوجوه ان ترد على أدبارها وذلك يخرجها من أن تكون وجوها. وجوابنا أن القرآن مصدق لكتبهم من حيث فيها البشارة بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ومخالفة شريعتهم لما في القرآن لا تمنع من أن يكون مصدقا كما أن ثبوت الناسخ والمنسوخ في القرآن لا يمنع من ذلك. فأما طمس الوجوه وردها على أدبارها فمن عظيم ما يخوف به المرء من المعصية ولم يقل تعالى انه بعد ردها على ادبارها تكون وجوها لهم ولو قيل ذلك كان لا ينكر لان صورة الوجه اذا لم تتغير اجرى عليه هذا الاسم وبين تعالى من بعد انه لا يغفر ان يشرك به والمراد الاصرار على الشرك ثمّ انه (يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) والمراد مع الاصرار واذا صح ذلك فانما أراد أصحاب الصغائر دون أصحاب الكبائر لقوله تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ والطَّاغُوتِ) وليس في اليهود من يعبد الصنم ويؤمن به فكيف يصح ذلك. وجوابنا انه ليس المراد بالجبت والطاغوت الأصنام بل المراد به الشيطان والسحرة على ما روي عن الحسن وغيره والمروي عن ابن عباس ان كعب بن الاشرف قال لقريش أنتم خير من محمد ووعدهم بمعونة عليه فقالوا له أنتم أهل الكتاب ولا نأمن ان يكون ذلك خديعة فان أردت أن نثق بقولك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ففعل فنزلت هذه الآية «و قد قيل ان المراد به الكهنة والسحرة كقوله يريدون ان يتحاكموا الى الطاغوت» وبعد فليس في قوله (أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) انهم أهل كتاب لان كثيرا ممن بعث اليه موسى وعيسى صلّى اللّه عليهما وسلم يدخلون في هذا الوصف وان لم يؤمنوا فلا يدل على ما ذكروه وقد يقال لمن تبع طريقة من يعبدون الاصنام انه يؤمن بها كقوله تعالى (اتَّخَذُوا
أَحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) لما اطاعوهم وكل ذلك يسقط هذه الشبهة.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) ان ذلك يوجب تعذيب من لم يذنب أو تعذيب بعض من العاصي لم يكن بعضا له في حال الذنب ويوجب أيضا ان يصير الواحد من أهل النار على الايام في نهاية العظم بأن يخلق له الجلد حالا بعد حال وكل ذلك لا يحسن. وجوابنا ان المراد بهذا التنزيل انه تعالى يغير ذلك الجلد عن صورة الاحتراق الى صورة الصحة فيقال انه بدل وان كان الجلد ثانيا هو الذي كان أولا كما يقال في الماء انه قد تغير وتبدل اذا اذا صار ملحا بعد ان كان عذبا. وقد قيل ان اللّه تعالى يخلق جلدا بعد جلد ولا يوجب ذلك فسادا لان المعذب هو العاصي دون ابعاضه ويصح عندنا ان يعظم اللّه تعالى جسد أهل النار على ما روى في الخبر ويعذبون وهذا كما يذم ويلعن الكافر وان صار بعد كفره سمينا ولا يؤدي الى العظم الذي ينكر فانه تعالى كما يخلق جلدا بعد جلد يفنى ذلك حالا بعد حال ولذلك قال تعالى (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) فجعل ذلك عذابا لهم لا للجلد.
[فصل] وقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) يدل على ان العبد هو الفاعل والا لم يكن لهذا الامر معنى ولا للوعظ فائدة اذا كان تعالى هو الخالق لرد الامانة وللحكم وأي نفع في هذا الوعظ ان كان مراده تعالى ذلك وأي تأثير بهذا الوعظ حتى يصفه بهذا الوصف وحتى يمن تعالى على عباده بذلك وكذلك قوله تعالى من بعد (أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) لا يصح الا اذا كان العبد هو المختار لفعله فيكون موافقا لما في الكتاب ولسنة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم
ولطريقة العلماء. وقد اختلفوا في أولى الامر منكم فمنهم من قال الامراء ومنهم من قال العلماء وقوله من بعد (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ) يدل على انهم الفاعلون لهذا الرد عند التنازع والا كان قوله (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ) لا يفيد اذا الفائدة في ذلك ان إيمانكم باللّه يقتضي امتثال أمره بهذا الرد وصف تعالى بعد ذلك المنافقين بانهم يزعمون انهم آمنوا باللّه والرسول ويريدون مع ذلك (أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) والمراد بذلك شيطان الانس أو الجن على ما تقدم ذكره ولذلك قال بعده (وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) كيف يصح ان يكلفهم قتل أنفسهم مع ان الانسان ملجأ الى ان لا يقتل نفسه. وجوابنا ان المراد قتل بعضهم لبعض كقوله تعالى (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) وعلى هذا الوجه تأوله المفسرون ويحتمل ان يكون المراد التعرض لاسباب الهلكة وقد يقال لمن يفعل ذلك انه قتل نفسه ولذلك قال بعده (وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) فنبه بذلك على ان الايمان منهم مما يصح ويصح خلافه وذلك يدل على ان ذلك فعلهم لانه لا يقال لمن لا يصح منه الا القيام فقط لو فعل القعود لكان خيرا له وبيّن من بعد حال المطيع بما يرغب نهاية الترغيب في الطاعة فقال (وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ والرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحِينَ وحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً) ثمّ رغب تعالى في الجهاد فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) ووصف
بعده حال المنافقين بقوله (وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً ولَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) ثمّ رغب تعالى في الجهاد وبيّن ان للمجاهد الثواب قتل أو غلب فقال (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ ومَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) لان الذي يحصل له هو لتحمله المشقة لانه يقتل وقتل الكفار له مصيبة فبيّن انه سواء قتل أو غلب فله الثواب الجزيل على ما تحمله من الكلفة.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ والْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ والْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) كيف يصح ذلك ان يحكى عن الولدان وهم لا يعرفون ربهم. وجوابنا انه تعالى ذكر جملة من يحب ان يهاجر ويتخلص من القرية الظالم أهلها والمراد بقوله ربنا أخرجنا من يصلح ان يقول ذلك كما يقال ان أهل البصرة معتزلة يقولون بالعدل والتوحيد ويراد بذلك كبارهم وان لم يفصل ولذلك قال (وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) ومثل ذلك لا يقع من الولدان فهو كقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) والمراد انه من تصح منه العبادة.
[مسألة]
وربما قالوا كيف قال تعالى (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ ولَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) ما فائدة ذلك وقد علم كل أحد ان آخر أمره الموت. وجوابنا انه تعالى بعث على الجهاد وبيّن ان المؤمن
يقاتل في سبيل اللّه والكافر يقاتل في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان ان كيد الشيطان كان ضعيفا. ثمّ بيّن ان من كتب عليهم القتال قالوا (رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) وبيّن ان حياة الدنيا قليل وان الآخرة خير لمن اتقى ثمّ بين ان الذي لأجله تحذرون الجهاد نازل بكم وان كنتم في القصور والبروج فلا وجه لرغبتكم عن الجهاد مع الثواب العظيم حذرا من ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله (وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أو ما يدل على ان الحسنات والسيئات من خلق اللّه. وجوابنا أن المراد بهذه الحسنة الخصب والرخاء وبهذه السيئة الشدة والأمراض فقد كانوا يقولون في مثل ذلك انها بشؤم محمد صلّى اللّه عليه وسلم ينفرون العوام عن اتباعه ولذلك قال تعالى عنهم (وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) والأمر يذهب في السيئات الى انها من عند غير المكتسب وغير اللّه يدل على ذلك قوله تعالى من بعد (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) وأراد بذلك ما يفعله المرء من الطاعة والمعصية ولو لا صحة ما ذكرناه لكان الكلام متناقضا ولقالت العرب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنت تزعم في القرآن انه لو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وقد وجدنا ذلك وانما عدلوا عن هذا القول لأنّ المراد بالأوّل المصائب والأمراض وبالثاني المعاصي فأضافها الى نفس الانسان.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا) كيف يصح أن يستثنى القليل وفضل اللّه ورحمته على الجميع وجوابنا أن هذا الاستثناء قد اختلف فيه فقال بعضهم انه راجع الى ما تقدم وهو قوله (وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ
أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) فكأنه قال أذاعوا به الا قليلا منهم وقال بعضهم هو راجع الى قوله (وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) الا قليلا وقال بعضهم هو راجع الى قوله (وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ) فكأنما كان يصح طعن هذا الطاعن لو لم يصح رجوع هذا الاستثناء الى هذا الوجه الآخر فأما اذا صح رجوعه الى الوجهين الأوّلين فقد زال الطعن ومع ذلك فانه يحتمل في هذا الفضل أن يكون المراد به باللطف في باب الدين فبيّن تعالى انه لو لا ذلك اتبعوا الشيطان الا قليلا فانهم مما لا لطف لهم واذا لم يكن لهم لطف لم يكن لفعل ذلك بهم معنى فهم يطيعون مع عدم هذا الفضل فهذا الطعن زائل على كل وجه.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) ان ذلك يقتضي أنه المخصوص بتكليف الجهاد.
وجوابنا أن المراد أنه لم يكلف هو الجهاد الا في نفسه ولم يكلف جهاد غيره وانما كلف في غيره البعث على ذلك والأمر به ولذلك قال تعالى بعده (وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ) انه يدل على انه يضل الكافر. وجوابنا ان ذلك دليلنا لانه تعالى قال في المنافقين (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ واللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا) فبين تقدم نفاقهم وبيّن نزول اللعن بهم ثمّ قال (أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا) وأراد هنا الثواب والمدح من أضل اللّه على ما تقدم من كفره وقد بيّنا ذلك في أول الكتاب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله (وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ
مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) أنه يدل على أن له أن يقتل خطأ. وجوابنا ان المراد ان ايمان المؤمن لا يثبت مع قتل المؤمن وقد ثبت مع قتل الخطأ فكأنه قال لا يصح وهو مؤمن أن يقتل مؤمنا الا أن يكون قتله خطأ ثمّ بيّن حكم قتل الخطأ في الكفارة وقد قيل أن المراد لكن أن قتله خطأ وأنه استثناء منقطع والأوّل أبين.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) أ فما يدل ذلك على أن توبة قاتل العمد لا تقبل كما روى عن بعضهم. وجوابنا أنه تعالى قد قدر في العقول أن التوبة من كل المعاصي مقبولة وبيّنه أيضا في القرآن بقوله (إِلَّا مَنْ تابَ) في سورة الفرقان بعد تقدم ذكر الكفر والقتل والزنا، فالمراد اذا فجزاؤه جهنم ان لم يكن معه توبة بيّن ذلك قوله (وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ) ومعلوم من حال التائب انه حبيب اللّه وأنه لا يلعن ولا ينزل به الغضب من اللّه بل يناله الرضا من جهته.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) ما فائدة هذا التخصيص وهو عالم بسرائر القلوب. وجوابنا ان ذلك تهديد من اللّه تعالى واذا خص قلوبهم بالذكر كان أقوى ولا يمنع من كونه عالما بكل شيء اذ العادة جارية في الوعيد أن يخص كقول القائل لوكيله احذر مخالفتي فاني عالم بما تأتيه.
[مسألة]
وربما قيل ما فائدة قوله تعالى (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ). وجوابنا أن ذلك كالدفع لتقدير من يقدر أن المراد في اكتسابها للطاعات ناقصة عن الرجل كنقصان حظها في الميراث فبيّن تعالى ان حالهم في الآخرة لا تختلف فلذلك قال من بعد (وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) فبيّن أنه في مصالحهما لا يتغير ما يفعله كما لا يتغير ما يستحقانه من الثواب.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً) لما ذا كرر والمراد واحد ولما ذا قال (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ) ولم يقل بهما.
وجوابنا ان من المعاصي ما يكون خطأ ومنها ما يكون عمدا فالاثم لا يكون إلا عمدا والخطيئة قد تقع وهو غير عالم بها وذلك نحو أن يأكل ويعلم أنه صائم وأن يأكل ولا يعلم ذلك وان كان في الأمرين قد يكون عاصيا فلذلك ذكرهما تعالى ومعنى قوله (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ) أي يرم بذلك فأشار إلى ما تقدم فلذلك لم يقل بهما.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) كيف يشهد على نفسه. وجوابنا أن المراد بذلك ليس الشهادة التي تؤدى بل المراد المعرفة بما يأتي ويذر فأوجب أن يعرف من نفسه ما يكون معروفا وما يكون منكرا فيتركه ويتوب كما ينكر ذلك على غيره ولذلك قال بعده (أَوِ الْوالِدَيْنِ والْأَقْرَبِينَ) (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) وتوعدهم بقوله (وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً).
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ) كيف يصح ذلك. وجوابنا ان المراد من آمن فأمره اللّه أن يدوم على ذلك ويثبت عليه في المستقبل ويحتمل أن يريد مجموع ما ذكره في قوله (آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ والْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ والْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) ان مجموع ذلك ربما لا يحصل للكثير من المؤمنين ولذلك قال بعده (وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ) فتوعد بكل ذلك.
[مسألة]
وربما قيل في قوله تعالى (وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ)