الكتاب: تنزيه القرآن عن المطاعن
المؤلف: القاضى عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني المعتزلي (المتوفى: 415هـ)
عدد الأجزاء: 1
الناشر: دار النهضة الحديثة
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
أعده للشاملة: //محمود الجيزي - عفا الله عنه//

حياة المؤلف
هو قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني.
وهو الذي تلقبه المعتزلة قاضي القضاة ولا يطلقون هذا اللقب على سواه ولا يعنون به عند الاطلاق غيره قرأ على أبي اسحاق بن عياش مدة ثمّ رحل الى بغداد وأقام عند الشيخ أبي عبد اللّه مدة مديدة حتى فاق الاقران وصار فريد دهره.
قال الحاكم وليس تحضرني عبارة تحيط بقدر محله في العلم والفضل فانه الذي فتق علم الكلام ونشر بروده ووضع فيه الكتب الجليلة التي بلغت المشرق والمغرب وضمنها من دقيق الكلام وجليله ما لم يتفق لأحد قبله وطال عمره مواظبا على التدريس والاملاء حتى طبق الأرض بكتبه وأصحابه وبعد صيته وعظم قدره واليه انتهت الرئاسة في المعتزلة حتى صار شيخها وعالمها غير مدافع وصار الاعتماد على كتبه:
وشهرة حاله تغني (عن الاطناب في الوصف).
استدعاه الصاحب الى الريّ بعد سنة ستين وثلاثمائة فبقي فيها مواظبا على التدريس الى أن توفي رحمه اللّه سنة خمس عشرة أو ست عشرة وأربعمائة وكان الصاحب يقول فيه هو أفضل أهل الأرض ومرة يقول هو أعلم أهل الأرض ويقال ان له أربعمائة ألف ورقة مما صنف في كل فنّ:
ومصنفاته أنواع منها في الكلام ككتاب الخلاف والوفاق وكتاب المبسوط وكتاب المحيط. ومنها نوع في الشروح كشرح الاصول وشرح المقالات. ومنها في أصول الفقه كالنهاية والعمدة وشرحه وله كتب في النقض على المخالفين كنقض اللمع ونقض الامامة. ومنها جوابات مسائل وردت عليه كالرازيات

والنيسابوريات. ومنها في الخلاف ككتابه في الخلاف بين الشيخين. ومنها في المواعظ كنصيحة المتفقهة وله كتب في كل فنّ وعلى الجملة فحصر مصنفاته كالمعتذر وهو من اهل الطبقة الحادية عشرة من طبقات المعتزلة ذكر ذلك احمد بن يحيى المرتضى في كتاب المنية والامل في شرح كتاب الملل والنحل.
الناشر

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الحمد للّه على نعمه وإحسانه في الدين والدنيا وصلواته على محمد وآله الطيبين (أما بعد) فان أولى ما يتكلفه المرء في أثارة العلوم ما يعظم النفع به في دينه ودنياه فيعرف كيف يعبد ربه في الصلاة والصيام وغيرهما (و ذلك) بقراءة القرآن وبالانقطاع إلى اللّه، وكل ذلك لا يتم الا بمعرفة معاني ما يقرؤه وما يورده في ادعيته من الأسماء الحسنى إما مفصلا وإما على الجملة فانه تعالى قد أودع القرآن من المواعظ والزواجر وغيرهما ما اذا تأمله المرء وقعت به الكفاية: وقد روى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم انه قال لعليّ بن أبي طالب عليه السلام وقد حذره عن اختلاف الأمة بعده: عليكم بكتاب اللّه فان فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم ما يدعه من جبار إلا قصمه اللّه ومن يتبع الهدى في غيره اضله اللّه وهو حبل اللّه المتين وأمره الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لما سمعه الجن لم يتناءوا أن قالوا (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) هو الذي لا تختلف به الألسنة ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه: ومعلوم انه لا ينتفع به إلا بعد الوقوف على معاني ما فيه وبعد الفصل بين محكمه ومتشابهه فكثير من الناس قد ضل بأن تمسك بالمتشابه حتى اعتقد ان قوله تعالى (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الْأَرْضِ) حقيقة في الحجر والمدر والطير والنعم وربما رأوا في ذلك تسبيح كل شيء من ذلك ومن اعتقد ذلك لم ينتفع بما يقرؤه ولذلك قال تعالى (أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) وكذلك وصفه تعالى بأنه (يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ويُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ) وقد أملينا في ذلك كتابا يفصل بين المحكم والمتشابه عرضنا فيه سور القرآن على ترتيبها وبينا معاني ما تشابه من آياتها مع بيان وجه خطأ فريق من الناس في تأويلها ليكون النفع به أعظم ونسأل اللّه التوفيق للصواب ان شاء اللّه.

(بسم اللّه الرّحمن الرّحيم)
معنى بسم اللّه الابتداء به تبركا والاستعانة في كل امر مهم: ومعنى اللّه ان العبادة به تليق دون غيره لأنه الخالق والمنعم بسائر النعم: ومعنى الرحمن المبالغة في الانعام العظيم الذي لا يقدر عليه إلا اللّه تعالى: ومعنى الرحيم المبالغة في الاكثار من الرحمة والنعمة وقد يوصف بذلك غيره أيضا.
[مسألة]
قالوا ما وجه الابتداء ببسم اللّه وهلا قيل باللّه الرحمن الرحيم فالاستعانة باللّه تقع لا باسمه. وجوابنا ان الأمر كما قالوا لكنه ذكر اسمه وأريد هو على وجه الاعظام وهذا كقوله تعالى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) فأمر بتنزيه اسمه وأراد تنزيهه عما لا يليق به لكنه ذكر الاسم تعظيما له وهذا كما يقال صلوات اللّه على ذكر النبي صلّى اللّه عليه وسلم.
[مسألة]
قالوا فما وجه ذكر هذه الاسماء الثلاثة دون غيرها. قيل له ذكر اللّه لأن المكلف قد اختص بأن لزمته عبادته وهو الذي يعرف أنواع نعمه وذكر الرحمن الرحيم لأنه لأجل ذلك استحق العبادة.

سورة الحمد
معنى الحمد للّه الشكر للّه وكيف نشكره فعلمنا تعالى ذلك.
[مسألة]
قالوا الحمد للّه خبر فان كان حمد نفسه فلا فائدة لنا فيه وان أمرنا بذلك فكان يجب أن يقول قولوا الحمد للّه. وجوابنا عن ذلك ان المراد به الامر بالشكر والتعليم لكي نشكره لكنه وان حذف الامر فقد دل عليه بقوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لأنه لا يليق باللّه تعالى وإنما يليق بالعباد فاذا كان معناه قولوا (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فكذلك قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وهذا كقوله (وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) معناه ويقولون (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) ومثله كثير في القرآن.
[مسألة]
وربما قالوا لما ذا أعاد (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وقد تقدم من قبل.
وجوابنا ان ذلك ليس بتكرار لأن المراد بالأول توكيد الاستعانة والمراد بالثاني توكيد الشكر له فلذلك كرر.
[مسألة]
قالوا ما معنى قوله (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ويوم الدين ليس بموجود حالا وكيف يملك المعدوم وما فائدة ذلك. وجوابنا ان المراد القادر على (ذلك اليوم) الذي فيه الجنة على عظم شأنها والنار على عظم امرها وفيه المحاسبة والمساءلة فنبه تعالى بذلك على انكم ان شكرتم وقمتم بالواجب فلكم من الفوز في الآخرة بالثواب نهاية ما تتمنون فصار ذلك ترغيبا في الشكر والعبادة وزجرا

عن خلافه واذا قرئ «مالك» فالمراد به القدرة على يوم الدين واذا قرئ «ملك» فالمراد به القدرة على العباد الذين يتصرف تعالى فيهم بما يوجب الانقياد له.
[مسألة]
قالوا ما معنى (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) وعندكم ان اللّه تعالى قد هدى الخلق بالادلة والبيان فما وجه هذا الطلب والدعاء. وجوابنا على ذلك انه تعالى وان مكن وأقدر المكلف ففي قدرته تعالى من زيادة البيان والادلة والالطاف والعصمة ما ينتفع به العبد اذا أمده بها والعبد يجوّز ذلك فيطلبه وهذا كما قال تعالى (وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) فأمر تعالى العبد أن ينقطع الى اللّه تعالى فيقول (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وان لا يكذب في ذلك فيكون مراده بالصلاة الرياء والسمعة وأن لا يستعين الا باللّه تعالى وأن يستمد من جهته الالطاف والمعونة على الصراط المستقيم الذي هو دينه وطريقة من أنعم اللّه عليه لا طريقة الكفار الذين ضلوا فغضب اللّه عليهم.

سورة البقرة
[مسألة]
قالوا ما الفائدة في قوله تعالى (الم) ولا يعقل من ذلك في اللغة فائدة وكيف يجوز ذلك والقرآن عربي والعرب لا تعرف ذلك. وجوابنا ان اللّه تعالى جعل ذلك اسما للسورة وعلى هذا الوجه يقال سورة (ق) (و حم) السجدة وسورة (طه) وللّه تعالى ان يجعل لهذه السورة اسما وهذا مروي عن الحسن البصري وغيره ومتى قيل فقد حصل في ذلك اشتراك ولا بد من ضم زائدة اليه فلا فائدة إذا في ذلك. فجوابنا أن الألقاب كزيد وعمرو يقع فيها أيضا الاشتراك ثمّ تمييزها بزيادة وقيل أيضا في جوابه ان فائدة ذلك أن القرآن مؤلف من هذه الحروف التي تقدرون عليها «و مع» ذلك يتعذر عليكم هذا النظم بفضل رتبته فاعلموا انه معجز.
[مسألة]
ومتى قيل ولما ذا قال تعالى (ذلِكَ الْكِتابُ) ولم يقل هذا الكتاب. فجوابنا أنه جل وعز وعد رسوله إنزال كتاب عليه لا يمحوه الماء فلما أنزل ذلك قال (ذلِكَ الْكِتابُ) والمراد ما وعدتك ولو قال هذا الكتاب لم يفد هذه الفائدة.
[مسألة]
قالوا ما معنى (لا رَيْبَ فِيهِ) وقد علمتم أن خلقا يشكون في ذلك فكيف يصح ذلك وان أراد لا ريب فيه عندي وعند من يعلم فلا فائدة في ذلك. فجوابنا ان المراد انه حق يجب أن لا يرتاب فيه وهذا كما يبين المرء الشيء لخصمه فيحسن منه بعد البيان أن يقول هذا كالشمس واضح وهذا لا

يشك فيه أحد وهذا كما يقال عند اظهار الشهادتين ان ذلك حق وصدق وان كان في الناس من يكذب بذلك.
[مسألة]
قالوا لما ذا قال تعالى (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) والهدى عندكم الدلالة وهو دلالة لكل فلما ذا خص المتقين دون غيرهم هلا دل ذلك على ان الهدى هو نفس الايمان. فجوابنا أنه تعالى قد بين في غير موضع ان القرآن هدى للناس فعم الكل وإنما خص المتقين هاهنا من حيث اختصوا بقبوله وهذا كقوله تعالى (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) فخصهم من حيث يخشون عند الانذار وان كان صلّى اللّه عليه وسلم كان منذرا للكل كما قال تعالى (وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً ونَذِيراً) وقد ثبت ان ذكر الواحد لا يدل على ان غيره بخلافه.
[مسألة]
يقال ما معنى قوله (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ما الغيب الذي مدحهم بالايمان به أ ولستم تقولون (لا يعلم الغيب إلّا اللّه). وجوابنا ان هذا الغيب يراد به الغائبات التي قام الدليل على صحتها كأمر الآخرة والجنة والنار والملائكة والحساب فمدح المتقين ووصفهم بأنهم يؤمنون بذلك (وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي يدومون عليها ويؤدونها بحقها (وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) على وجه البر ولا ينفقون من الحرام الذي جعله اللّه رزقا لغيرهم فغصبوه ثمّ قال (وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) حتى يؤمنون بكل الرسل ولا يفرّقون بينهم (وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) فلا يدخلهم شبهة في ذلك: ثمّ بين ان هؤلاء هم المفلحون الظافرون بثواب اللّه فدل بذلك على ان الثواب انما يكون بهذه الطريقة ورغب في التمسك بها وزجر عن خلافها وقد قيل ان في جوابه أن المراد أنهم يؤمنون بظهر الغيب باطنا كما يؤمنون ظاهرا وهذا أيضا حسن.
[مسألة]
يقال ما معنى قوله (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) ومعلوم ان الهدى ان كان دلالة فكل المكلفين فيه سواء فهلا دل ذلك على انه

نفس الايمان. فجوابنا ان المراد انهم على بصيرة مما تعبدهم به وتقبل الهدى يسمى هدى كما ان الجزاء على الامتثال للدلالة يسمى هدى وهذا كقوله تعالى في أهل النار انهم قالوا (لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا) وارادوا بذلك النعيم والثواب.
[مسألة]
يقال ما معنى قوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ومعلوم ان في الكفار من قرأه وآمن. فجوابنا أنه أراد قوما من الكفار مخصوصين في أيامه صلّى اللّه عليه وسلم علم اللّه تعالى ان الصالح ان يخبر الرسول بأمرهم لكيلا يتشدد في استدعائهم ولا يغتم ببقائهم على الكفر وذلك كقوله تعالى (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وكَفَرَ) وهذا من العموم الذي يراد به الخصوص. وربما سألوا فقالوا اذا كان قد أخبرنا بأنهم لا يؤمنون فكيف كلفهم وكيف يقدرون على الايمان الذي لو فعلوه لكان تكذيبا لخبر اللّه تعالى. فجوابنا ان ذلك انما يدل على انهم لا يؤمنون اختيارا وان قدروا عليه فلذلك ذمهم وقد يقدر القادر على ما لا يختاره كما أنه تعالى يقدر على افناء الدنيا في هذا الوقت وان كان لا يختاره ولو كان ايمانهم اذا قدروا عليه قدرة على تكذيب اللّه لكان اللّه تعالى اذا قدر على اقامة القيامة الآن وقد أخبر بأنه لا يقيمها الا بعد علامات أوجب أن يكون قادرا على تكذيب اللّه وكان يجب اذا قدر على الضدين وإنما يفعل أحدهما أن يكون قادرا على تجهيل نفسه وهذا كلام من لا يعرف التكذيب والتجهيل وذلك ان التجهيل ما يصير به المرء جاهلا دون غيره والتكذيب ما يصير به كاذبا أو يتبين ذلك من حاله دون غيره.
[مسألة]
في ذلك أيضا يقال اذا كان قد علم أنهم يكفرون فلما ذا حسن أن يكلفهم مع علمه بأنهم لا يختارون الا ما يؤديهم إلى النار. وجوابنا انه انما علم انهم لا يختارون الايمان مع تمكنهم من اختياره وتسهيله سبيلهم إلى اختياره بكل وجه فانهم انما يؤتون من قبل أنفسهم وأنهم لو اختاروا الوصول الى ثواب عظيم لصح ذلك منهم ويفارق حالهم حال من منع من الايمان وانما يقبح ذلك

1 / 47
ع
En
A+
A-