قال عليه السلام: فقد رأيتَ أيدك الله ما تضمنه هذا الخبر من وجوب المتابعة لهم، والانقياد لأمرهم والتمسك بهم ، فإذا كان هذا في عمومهم فهو في خصوصهم وأعيانهم وأئمتهم أولى بطريقة الأولى، وهي أقوى معتمد في الشرعيات.
[نقولات من كتاب بيان الأوامر المجملة]
وقال السيد الإمام مجد الإسلام المرتضى بن المفضل قدس الله روحه ونور ضريحه (في كتاب البيان): ومن ذلك ما رويناه من السنة الشريفة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما كان في مرض موته حين تيقن انتقاله، خرج يتهادى بين اثنين وأوصاهم بالتمسك بالثقلين، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) .
فصرح صلى الله عليه وآله وسلم بأن التمسك بهم بمنزلة التمسك بالكتاب، ولا شك في وجوب التمسك بالكتاب والاتباع له، فكذلك يجب التمسك بهم والاتباع لهم.
وصرّح صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم لا يفارقون الكتاب إلى منقطع التكليف، ولا يعقل معنى التمسك إلا بالمتابعة والمشايعة وقلة المخالفة، وكذلك الأمان من الضلال لا يكون إلا بملازمتهم، والسلوك في مناهجهم.
قال رضي الله عنه: ومن ذلك قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)) .
قال [رحمه الله]: وفي هذا الخبر غاية البيان لمن أنصف خصمه بقبول البرهان.
قال رضي الله عنه: ومن ذلك ما رواه الفقيه العلامة عبدالله بن زيد في كتاب (التمييز): أن الراسخين في العلم هم أولي الأمر على الناس منكم، وهم آل محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-.
وهم أئمة الهدى الذين قال الله فيهم: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] .
وهم الذين روى الهادي -عَلَيْه السَّلام- عن جده رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أنه قال: ((أهل بيتي أئمة الهدى قدموهم ولا تقدموهم، وأَمّروهم ولا تَأَمَّرُوا عليهم، وتَعَلَّمُوا منهم ولا تُعَلِّمُوهُم فإنهم أعلم منكم)) فهؤلاء هم الراسخون في العلم.
قال [-رضي الله عنه وأرضاه-]: ومن ذلك ما رويناه من قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((أيها الناس أوصيكم بعترتي أهل بيتي خيراً فإنهم لحمتي وفصيلتي)) .
وروينا أنه قال: ((أيها الناس إني خلفت فيكم كتاب الله وسنتي، وعترتي أهل بيتي فالمضيّع لكتاب الله كالمضيّع لسنتي، والمضيع لسنتي كالمضيع لعترتي ، أما إن ذلك لن يفترقا حتى اللقاء على الحوض)) .
وروينا أنه قال: ((ليس أحد يفضل أهل بيتي غيري)).
قال [-رضي الله عنه وأرضاه-]: وروينا أنه قال: ((أهل بيتي كالنجوم كلما أفل نجم طلع نجم)) .
وأنه قال [صلى الله عليه وآله وسلم]: ((أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء..الخبر)) .
وأنه قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخريه في نار جهنم)) .
وأنه قال: ((قدِّموهم ولا تَقَدَّموهم، وتَعَلَّمُوا منهم ولا تُعَلِّمُوهم، ولا تُخَالفوهم فتَضِلِّوا ولا تَشْتموهم فتكفروا)) ، قال الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام-: وهذا نص في موضع الخلاف.
قال [رضي الله عنه وأرضاه]: ومن ذلك ما رواه الأمير الناصر للحق شرف الدين الحسين بن محمد في (شفاء الأوام) رواه أبو ليلى عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أنه قال: ((تمسكوا بطاعة أئمتكم لا تخالفوهم فإن طاعتَهم طاعةُ الله ومعصيتَهم معصيةُ الله، فإن الله إنما بعثني أدعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة فمن خالفني في ذلك فأنا بريء منه، وهو بريء مني)) .
قال [رضي الله عنه وأرضاه]: وعنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أنه قال: ((من أحبّ أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويدخل الجنة التي وعدني ربي فليتول علي بن أبي طالب، وورثته الطاهرين أئمة الهدى ومصابيح الدجى من بعده؛ فإنهم لم يخرجوكم من باب الهدى إلى باب الضلالة)) .
وقوله: ((من سرّه أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويدخل جنة الخلد التي غرسها ربي فليتولّ علي بن أبي طالب وأوصياءه فهم الأولياء والأئمة من بعدي أعطاهم الله علمي وفهمي، وهم عترتي من لحمي ودمي، إلى الله عز وجل أشكوا من ظلمهم من أمتي لا أنالهم الله شفاعتي)) .
قال [-رضي الله عنه وأرضاه-]: فإن قيل: المراد بأولي الأمر إنما هم أمراء السرايا أو العلماء أو الخلفاء الأربعة أو المهاجرون والأنصار أو الصحابة أو الأئمة على حسب الخلاف.
قلنا: قد ثبت أن الأوامر التي تقدم ذكرها تقتضي بظاهرها وجوب طاعة قوم من الأمة غير معينين، ولا بد من تعيينهم وتبيينهم حتى يتمكن مَنْ وجب عليه ذلك من أداء ما كلفه، وإلا كان تكليفاً لما لا يمكن، وذلك قبيح والله تعالى لا يفعله كما ذكرناه أولاً.
وقد تقدم فيما ذكرناه البيان من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ هو منوط بالله وبرسوله، وبالأدلة المعلومة التي أصلها من الله تعالى أو من رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، ولا يصح ما ذكروه لأن الجهالة باقية.
ولأن هذه التأويلات المُتَمحلة لا يصح أن تكون بياناً للمجمل لكونها أحوج إلى البيان، وذلك يؤدي أن يحتاج كل بيان إلى بيان، أو الاقتصار على بيان عالم ممن يدعي ذلك دون غيره بغير دليل، وذلك لا يصح.
قال رضي الله عنه: وكذلك الكلام في اختلافهم في أهل الذكر يجري هذا المجرى من أن البيان فيه إلى الله وإلى رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وقد تقدم.
ولأن الذكر في قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل:43] ، إن كان المراد به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وكما قال تعالى: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا(10) رَسُولًا} [الطلاق] ، فهم -صلوات الله عليهم- أهله، وإن كان المراد به القرآن الكريم فهم أيضاً أهله وتراجمته بما تقدم ذكره؛ فكان الرجوع أولى إليهم، ولأنهم عليهم السلام مجمع عليهم ومن عداهم مختلف فيه كما تقدم.
[تخصيص مفهوم العترة بالدليل]
قال [رضي الله عنه وأرضاه]: فإن قيل: فإن عترة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- تعم الذرية وغيرهم؛ أجاب عن ذلك الإمام أبو محمد المنصور بالله عبدالله بن حمزة بن سليمان -عَلَيْه السَّلام- بأن قال: كون عترة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- خاصاً لذريته مُجْمَعٌ عليه، وضم غيرهم إليهم مختلف فيه؛ فالمجمع عليه يجب اتباعه، والمختلف فيه يَنْتَظِرُ الدليل.
قال [رضي الله عنه وأرضاه]: وذكر في (كتاب العين) حكاية عن العرب فقال عنهم: عترة الرجل : هم ولده وولد ولده، وهذا يوضح أنه إنما يستعمل اسم العترة حقيقة فيمن ذكرنا وإن جاز أن يستعمل مجازاً في غيرهم؛ إلا أنه يجب الحمل لكلامه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- على الحقيقة ما أمكن.
ولأن العترة مأخوذة أيضاً من العتر وهو ضرب من النبات، فلما كان ولد الرجل وولد ولده في حكم ما نبت منه أجري عليه هذا الاسم، ولأنه لا خلاف أن ولد الرجل وولد ولده عترة له، ومن عداهم فيهم الخلاف، ولا دليل يدل على من عداهم، فبقي على الأصل وهو أن ذلك لا يستعمل فيمن عداهم حقيقة.
وقد بين ذلك رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فيما رواه أبو سعيد الخدري لما سأله الضحاك عما اختلف فيه الناس عن أمر أبي بكر..إلى قوله: ((والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي عليّ وذريته)) .
قال [رضي الله عنه وأرضاه]: ولأن أهل الكتب الكبار قد ذكروا أن العترة مأخوذة من العتيرة، وهي نبت متشعب على أصل واحد شبه أولاد الرجل وأولاد أولاده لتشعبهم عنه، ولأن اللفظ إذا أُطْلِق سبق إليهم دون غيرهم، وذلك دليل على أنهم عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة دون من عداهم، فإن عنى بذلك غيرهم كان مجازاً.
ولأن إجماعهم منعقد على أنهم عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون غيرهم، فهم عترته بهذه الوجوه جميعاً، التي يوصل النظر في بعضها إلى العلم اليقين فكيف بمجموعها.
قال [رضي الله عنه وأرضاه]: والأصل في تشعب هذه المقالات إهمال العقول، واطراح الدليل ، ومخالفة آل الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- في أمر هذه الأمة بالرجوع إلى أهل بيت نبيها، الذين شهد لهم بملازمة الكتاب إلى يوم الحساب، وأخبر أن فيهم العلم والصواب.
وقال الإمام أبو محمد المنصور بالله عليه السلام: من كان يدعي الإيمان وينكر فضلهم لم يكن بد من أحد أمرين، إمَّا أن يرجع إلى الحق في تفضيل الله لهم ووجوب طاعتهم والانقياد لأمرهم؛ ولا شك أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وإمَّا الخروج عن هذه الدعوى الشريفة التي هي الإيمان، لأن من خالفهم خرج من زمرة المؤمنين، وألحق بأعداء الله الفاسقين.
[معنى الإذهاب المراد به في آية التطهير]
قال السيد الإمام مجد الإسلام المرتضى بن المفضل –قدس الله روحه ونور ضريحه- فإن قيل: قد بيّنتم بعض ما ذكرتموه على إجماع أهل البيت عليهم السلام؛ فدلوا على أن إجماعهم حجة يجب اتباعها، ويحرم خلافها حتى يتم لكم ما ذكرتموه.
قلنا: قد تقدم ما يدل عليه إلا أنّا لا بد من أن نحقق له برهاناً، ونوضح فيه بياناً.
قال [-رحمه الله تعالى-]: اعلم أن الله تعالى قد أخبرنا بإرادته -إذهاب الرجس عنهم- في آية التطهير التي تقدم ذكرها، والرجس إنما هو رجس الذنوب المحبطة للأعمال لا رجس الأدران؛ لأن ما ينجس من غيرهم ينجس منهم، فثبت أن المراد إنما هو تطهيرهم من دنس الأوزار، وذلك هو معنى العصمة بشهادة الله لهم، وشهادة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، فلا بد أن يعلم من حالهم أن في اللطف ما يزغهم عن الذنوب، ويعصمهم إذا اجتمعوا عن مقارفة الحوب؛ ليكون الله سبحانه مُذْهِباً للرجس عنهم بما يفعله من اللطف.
وما أراده الله سبحانه من فعل نفسه فلا بد من وقوعه لا محالة؛ لأن إرادة العزم عليه تعالى محال، فمن قال بأن إرادته تعالى فعله فلا شك أنه تعالى ما أراد إلاَّ ما فعل، ومن قال إن إرادته إرادة قصد فلا بد أن يفعل، وإلا كانت إرادته عزماً لا قصداً وذلك لا يجوز عليه تعالى، وفي ذلك كون إجماعهم حجة.
[دلالة حجيَّة إجماع أهل البيت(ع) من السنة الشريفة]
قال [رضي الله عنه وأرضاه]: وأما دلالة السنة الشريفة فنحو قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) وفي وجه دلالة هذا الخبر لما قصدناه مسالك منها:
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- مخاطباً لأمته: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا...الخبر)) فأبان بذلك موضع الاستخلاف حتى لا يُفقد منه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- إلا وجهه، فيتفرع من ذلك وجوب الطاعة وذلك عام.
ومنها: أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- سوى بين العترة والكتاب، والكتاب حجة، فلا بد أن يكون ما أجمعوا عليه حجة ليطابق المثال الممثول.
ومنها: إخباره -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أن عترته لا تفارق الكتاب حتى اللقاء على الحوض، والمراد بذلك حكم الكتاب، فمعناه أن الكتاب والعترة يمتان متّاً واحداً لأنهم تراجمته وحفظة وحيه عن تمويه المموهين، وتأويل الجاهلين كما قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((في كل خلف من أهل بيتي عدول...الخبر)) .
وهل في البيان لنجاة متبع العترة والحكم بإصابتهم ما هو أظهر من هذا، لكن طاشت الحلوم، وضاعت العلوم، واختار الناس غير ما اختاره الحي القيوم.
قال [رضي الله عنه وأرضاه]: ومن ذلك قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)) وفي بعضها: ((هلك)) ووجه دلالته على أن إجماعهم حجة ظاهر من حيث حَكم صلى الله عليه وآله وسلم -وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى- بنجاة من تمسك بآل محمد عليهم السلام، والنجاة شائعة فيما يَقْفُوهم فيه مشايِعُهُم ومتابِعُهُم في قول وعمل واعتقاد.
ولما حكم صلى الله عليه وآله وسلم بغرق المتخلف عنهم أو بهلاكه على حسب الرواية ثبت كونه عاصياً لربه ضالاً عن منهاج دينه، وقد بالغ صلى الله عليه وآله وسلم في بيان ذلك بتمثيل عترته بسفينة نوح.
وقد علمنا أنه لم ينج من أمة نوح صلى الله عليه إلا من ركب السفينة، كذلك يهلك من أمة محمد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من لم يتمسك بعترته الطاهرة الأمينة، وإلا كان تمثيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا معنى له؛ فصح أن إجماعهم حجة يجب اتباعها ويحرم خلافها.
قال [رضي الله عنه وأرضاه]: ومن معاني أدلة السيد أبي طالب نفي الله سبحانه الرجس عن العترة في آية التطهير وهو رجس المعاصي، فدل بذلك على أنهم لا يجمعون إلا على حق يجب قبوله.
ومن معاني أدلة السيد أبي عبدالله عليه السلام: مقارنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- للعترة بالكتاب ونفيه لافتراقهما، وتسميته لهما باسم واحد وهو الثقل؛ فدل بذلك على كون إجماعهم حجة كالكتاب.