[تصانيفه عليه السلام]
وله في العلوم التصانيف المرموقة، والكتب الموموقة في الأصول والفروع، وله في أصول الدين (المبادئ) و(زيادات شرح الأصول) علقه عنه بعضهم، وفيه علم حسن يشهد له بالبلوغ إلى أعلى منزلة، وأنه بلغ فيه ما بلغه أكابر علماء المعتزلة.
وله كتاب (الدعامة) في الإمامة، وهو من عجيب الكتب، وأودعه من الغرائب المستنبطات، والأدلة القاطعات، والأجوبة عن شبه المخالفين النافعات؛ ما يقضي بأنه السابق في هذا الميدان ، والمجلّي في حلبة البرهان ، وهو مجلد فيه من أنواع علوم الإمامة ما يكفي ويشفي.
وله عليه السلام في أصول الفقه (جوامع الأدلة) من الكتب المتوسطة، وله (المجزي) في أصول الفقه مجلدان، وفيه من التفصيل البليغ والعلم الواسع ما لا يكاد يوجد مثله في كتاب من كتب هذا الفن، وله في فقه الهادي عليه السلام (التحرير) وشرحه مجلدات عدة تبلغ ستة عشر مجلداً، وفيها من حسن الإيراد والإصدار ما يشهد له بالتبريز على النظار؛ فإنه بالغ في نصرة مذهب الهادي بكل وجه ، وأودعه من أنواع الأدلة والتعليلات ما لا يوجد في كتاب، وفيه فقه جم وعلم غزير.
وكذلك فإنه أودع فيه من مذاهب الفقهاء ما يكثر، وذكر المهم مما يتعلقون به، ورجح مذهب الهادي فيه حتى ظهر ترجيحه، وتوهجت مصابيحه، وزكى لكل مشتاق ريحه.
قال الحاكم أبو سعد رضي الله عنه: فكلامه عليه السلام عليه مُسحة من العلم الإلهي، وجذوة من الكلام النبوي.
وله في الأخبار الأمالي المعروفة (بأمالي السيد أبو طالب) جمع فيها من غرائب الأحاديث ونفائسها، ومحاسن الحاكايات، وملح الروايات ما يفوق ويروق.
وقال الإمام المنصور بالله في أبي طالب: لم يبق فن من فنون العلم إلا طار في أردائه، وسبح في أثنائه، وله تصانيف جمة في الأصول والفروع، وذكر جملة من هذه المصنفات المذكورة؛ حتى قال في كتاب المجزي: وهو الذي من شاهده من أهل العلم عجب من أسبابه، ولا عجب من علم أهل العلم من ذرية الرسول وورثة الكتاب –سلام الله عليهم أجمعين-.
وزاد مما لم تذكره (كتاب التذكرة) في الفقه، وكذا كتاب البالغ المدرك من تصانيف الهادي عليه السلام شرحه أبو طالب شرحاً فائقاً رائقاً، وهو في أصول الدين، وخرج في أثنائه إلى شيء من أصول الفقه وعلوم الحديث.
ومن تصانيفه كتابه المعروف (بالمصعبي) نسب إلى طالبه في الرد على المخالفين للزيدية، ومن تصانيفه (كتاب الناظر) وهو في فقه الناصر عليه السلام.
وعلى الجملة فكان في العلم بحراً لا يقطعه المائحون، ولا يبلغ قعره المانحون، ومن جملة تصانيفه كتاب (الإفادة في تاريخ الأئمة السادة) وهو الذي استند إليه الفقيه العلامة حميد بن أحمد رضي الله عنه في كتاب الحدائق وعلى أصله بنى، ومن بحره اغترف واستقى.
وهو يشهد له عليه السلام بالعلم في هذا الباب لأنه لم ينفصل عن بلاد الديلم، واستوفى أخبار أئمة الزيدية باليمن وغيره، وكأنه شاهدهم وحاضرهم وسايرهم وعاصرهم؛ وهذا دليل على فضله وعلو محله.
[دور السادة الهارونيين في تقرير مذهب الإمام الهادي (ع)]
ومن الدليل على رجاحته ووفور درايته أنه بلغ في العلم إلى هذا المبلغ الذي قصر عنه أبناء زمانه، وفرسان أوانه، وهو يعد نفسه مخرجاً لمذهب الهادي عليه السلام، وناصراً له، ومؤيداً لأصوله، وشارحاً لفصوله، ومرجحاً لأدلته، ومستضيئاً في جميع أحواله بنور أَهلّته.
وترى بعض أهل زماننا هذا؛ إذا شم رائحة من العلم، أو ذاق مجة من الفهم؛ يرمي بنفسه في الاستقلال بالنظر أبعد المرامي، ويُنَزّل نفسه بأنه أعطي في العلم البحر الطامي؛ فلا يرتضي لنفسه ما ارتضاه أبو طالب عليه السلام من التمسك بمذهب الهادي عليه السلام، ولو رام أن يفتح من مقفلات مسائله في الأصول والفروع بعضها لأقعده عن ذلك عجزه، وظهر عنه وبان جهله، وقصرت به فكرته عن الغوص في ضحضاح بحره فضلاً عن البلوغ إلى ثبج تياره، ومتغطمط زخاره، وهكذا من سلف من أئمة الزيدية كلهم بفضل الهادي عليه السلام عارفون، ومن خضم علمه غارفون، ولأدلته متبعون، وبهديه متشفعون.
وعن الإمام المنصور بالله عليه السلام أنه قال في مسألة الوقف على أولاد الصلب دون أولاد البنات: نحن نهاب نقض كلام الهادي عليه السلام كما نهاب نقض أدلة القرآن لكنا نقول: قد قلت وأنت الحكم أن من شرط الوقف القربة، فمن وقف على أولاده لصلبه وأخرج عن وقفه أولاد بناته لم يصب القربة أو كما قال.
فهذا كلام المنصور بالله فانظر إلى هذا التجليل والتعظيم لهذا الإمام العظيم من هذا الإمام العظيم، وقد قيل في إعجاز القرآن أن بعض العلماء سُئل عن إعجاز القرآن بم عرفته؟
فقال: بإذعان الجاحظ له؛ فيصح أن يقال في مذهب الهادي عليه السلام إن قال قائل أو سأل سائل بم عرفتم صحته؟ قلنا: بإذعان السادة الهارونيين، والمنصور بالله له، فإنهم ناضلوا دونه، واستنبطوا من مكنونه، -أعني أبا العباس والسيد أبا الحسين وأبا طالب- وما كثر فقه الشافعي رحمه الله إلا بأصحابه، وعنايتهم في التصنيف عليه، والشروح لمجملاته، والفتوح لمقفلاته.
وهكذا الكلام في مذهب الهادي عليه السلام قيض الله له هؤلاء السادة الثلاثة، تبحروا في علمه ، وتوسعوا في فقهه ، وصنفوا عليه الكتب العجيبة، والشروع الغريبة، وتأولوا ما احتاج إلى التأويل، وعللوا ما افتقر إلى التعليل؛ حتى صار مذهبه بعنايتهم مهذباً محرراً، وفقهه بدرايتهم ملخصاً مقرراً؛ فجزاهم الله عن الإسلام وأهله خيراً كثيراً، ولقاهم بما فعلوه نضرة وسرورواً.
[صفاته عليه السلام]
نعم، ونرجع إلى طرف من ذكر ورع السيد أبي طالب عليه السلام؛ فإن الكلام جر بعضه بعضاً حتى خرجنا عن سَمْت ما كنا فيه.
قال الفقيه حميد [رحمه الله تعالى] في وصف أبي طالب رضي الله عنه: كان عليه السلام في الورع والزهادة والفضل والعبادة على أبلغ الوجوه وأحسنها.
قال الحاكم [رحمه الله]: كان شيخنا أبو الحسن علي بن عبدالله، والسيد أبو القاسم يحكيان عن علمه وورعه واجتهاده وعبادته، وخصاله الحميدة، وسيرته المرضية شيئاً عجيباً كثيراً يليق بمثل هذا الصدر.
[بيعته عليه السلام]
بويع له عليه السلام بعد وفاة أخيه المؤيد بالله عليه السلام، ولم يتخلف عنه أحد ممن يرجع إلى دين وفضل لعلمهم بظهور علمه، وغزارة فهمه، واجتماع خصال الإمامة فيه، وزاد أيضاً على ما يجب اعتباره من الشرائط زيادة ظاهرة.
وفي بيعته عليه السلام يقول أبو الفرج بن هندو، وكان أبو الفرج هذا قد بلغ الغاية القصوى، والمرتبة العليا في مذهب الفلاسفة، ثم تاب وصار من عيون الزيدية، وشيعة السيد أبي طالب، قال: [مجزوء الكامل]
سرّ النبوة والنبيا .... وزها الوصية والوصيا
أن الديالم بايعت .... يحيى بن هارون الرضيا
وأقام عليه السلام آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر حتى توفاه الله حميداً، وقبضه رشيداً فقيداً فرحمة الله عليه ورضوانه.
[الإمام الحسن بن عبدالرحمن (أبو هاشم)]
(...- 433هـ /...- 1042م)
وقام بعد أبي طالب من أئمة العترة الإمام أبو هاشم الحسن بن عبدالرحمن بن يحيى بن عبدالله بن الحسين بن القاسم، وهو من أجداد الإمام المنصور بالله -عليهم السلام- ولم نذكره في الترجمة السابقة.
وكان فاضلاً، عالماً، زاهداً، ورعاً، عابداً، على سيرة آبائه الأئمة الطاهرين، وطريقة سلفه المرضيين، وله دعوة عظيمة طويلة فيها حكم درية، وفرائد علمية، ويواقيت حكمية تدل على فضله وعلمه وبراعته، وإنما لم نذكره كما ذكرنا من تقدم لأنّا لم نذكره في الترجمة المتقدمة، وتبعنا فيها رسم القاضي جعفر بن أحمد -رحمه الله-، وإنما ذكر من عيون الأئمة الطاهرين أهل التصانيف ممن ذكرنا، وختمنا كلام القاضي شمس الدين -رحمه الله- بذكر الإمامين المتوكل على الله والمنصور بالله وذكرناهما في الترجمة، ونذكر من توسط بين أبي طالب والمتوكل على الله -عليهم السلام-.
فأولهم أبو هاشم المذكور، وكان من أئمة العترة وفضلائها، ونجبائها، وكرمائها، ودعوته قاضية بفضله، وشاهدة بغزارة علمه.
[الإمام الناصر أبو الفتح الديلمي]
(...- 444هـ /...- 1053م)
وقام بعده الإمام الناصر أبو الفتح بن ناصر بن الحسين بن محمد بن عيسى بن محمد بن عبدالله بن أحمد بن عبدالله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عليهم السلام-.
كان إماماً فاضلاً عالماً عاملاً، له تصانيف تكشف عن علو منزلته، وارتفاع درجته منها: (تفسير القرآن الكريم) وهو كتاب جليل القدر، عظيم النفع يسمى (البرهان) ومنها: كتاب (الرسالة المبهجة في الرد على الفرقة المتلجلجة) –أراد بهم المطرفية-.
استشهد في أيام الصليحي على يده وبسببه، وله عليه السلام دعوة قد ذكرنا منها طرفاً في أول الكتاب.
[الإمام الناصر الهوسمي (أبو عبدالله)]
(...- 472هـ /...- 1080م)
ثم قام بعده الإمام الناصر الحسين بن أبي أحمد بن الحسين بن علي، الأديب الشاعر وهو ولد الناصر الكبير، قد تقدم نسبه.
نصبه العلماء نصباً بهوسم، ولم يبايعوه لقصور رأوه في علمه، واشتغلوا بالتدريس له بالليل وإشادة ذكره بالنهار.
[الإمام علي بن جعفر الحسيني (الحقيني)]
(...- 490هـ /...- 1097م)
ثم قام بعده الإمام الهادي الحقيني علي بن جعفر الحسيني:
كان جامعاً للعلوم، أجمع العلماء في زمانه أن سبع علمه آلة للإمامة، ترشح للإمامة وجمع شرائط الزعامة.
[الإمام أبو الرضا الكيسمي]
(...- نحو 500هـ /...- 1107م)
ثم قام بعده الإمام أبو الرضى الكيسمي الحسيني:
كان جامعاً لشرائط الإمامة مؤهل للزعامة.
[الإمام يحيى بن أحمد (أبو طالب الأخير)]
(...- 520هـ /...- 1127م)
ثم قام بعده السيد أبو طالب الأخير، يحيى بن أبي الحسين أحمد بن أبي القاسم الحسين بن المؤيد بالله عليه السلام:
كان حافظاً لمذاهب أهل البيت -عليهم السلام- بمتونها وتعاليقها، غزير العلم، وافر الفهم، وله رسالة حسنة فيها من الكلام ما يدل على علمه وبراعته، وحسن بلاغته وصياغته.
وكان متشدداً على مذهب الهادي عليه السلام، وكانت حاشيته وغلمانه، ومن أجابه اثنى عشر ألفاً على مذهب الهادي عليه السلام، وخدامه كلهم كانوا يصلون، ولم يستعن إلا بمن يصلي.
فهؤلاء أئمة هدى أشرنا إلى أعيانهم تبركاً بذكرهم؛ ولكيلا يخلو كتابنا هذا عن رسمهم وفضلهم، ثم نعود إلى تمام المقصود؛ فنقول:
[الإمام أحمد بن سليمان (المتوكل على الله)]
(500- 566هـ / 1107- 1171م)
وأما الإمام المتوكل على الله أحمد بن سلميان بن محمد بن المطهر بن علي بن الناصر بن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم -عَلَيْهم السَّلام-:
فإنه كان من الأئمة السابقين، وعيون العلماء المحققين، جمع شرائط الإمامة، ونظم أوصاف الزعامة.
قال الفقيه حميد [رحمه الله] في وصفه: نشأ على طريقة آبائه الأطهار، وسلفه الأخيار، جامعاً بين العلم والعمل، ولم يزل عليه السلام مقتبساً من أنواع العلم حتى برّز في ميدانها، ووقف على غامض بيانها، وكان في كل فن بالغاً مداه، لا يَفلّ الخصم شباه، ولا يلحق منتهاه.
درس في الأصولين على الفقيه العالم زيد بن الحسن البيهقي الخراساني، ودرس على السيد الفقيه الحسن بن محمد من ولد المرتضى عليه السلام.
وروى المنصور بالله عليه السلام أنه كان يستملي ستة أسطر وهو ينسخ، ودرس على الفقيه العالم عبدالله العنسي اليماني الواصل من جهات (الجيل) و(الديلم) بعلوم أهل البيت -عليهم السلام-، ودرس على الشيخ العالم إسحاق بن أحمد بن عبدالباعث صاحب (تعليق الإفادة) هؤلاء مشائخ الزيدية.
[تصانيفه عليه السلام]
وله عليه السلام تصانيف جمة في الأصول والفروع؛ فمن ذلك كتاب (الهاشمة لأنف الضلال من مذاهب المطرفية الجهال)، ومن ذلك (الرسالة الصادقة في تبيين ارتداد الفرقة المارقة المطرفية الطبعية الزنادقة) جمع فيه بين المطرفية وبين كل فرقة من فرق الضلال من أهل القبلة، وغيرهم من الخارجين عن الملة، وذكر أقوالاً تفردوا بها.
وكانت له دراية واسعة، ومعرفة بالمقالات، ومن نظر في مصنفاته على المطرفية علم صحة ما قلناه.
ومن تصانيفه: (كتاب الحقائق) في أصول الدين، ومنها (كتاب المدخل) في أصول الفقه، ومنها كتاب (الحكمة الدرية والدلالة النورية)، ومنها كتاب (العمدة في الرد على المطرفية المرتدة) ذكره الإمام المنصور بالله في الدرة اليتيمة، وقال: إنه نسخٌ كثيرة بعضها بخطه عليه السلام.
قال: وأصل كتاب العمدة رسالة الإمام، وشرح الرسالة القاضي شمس الدين جعفر بن أحمد -رحمه الله-.
وله كتاب (أصول الأحكام في الحلال والحرام) وهو متضمن لثلاثة آلاف حديث، ويزيد على ذلك قدر ثلاثمائة ونيف، وفيه علم حسن يدل على تبحره في علم الشريعة، وذكر فيه فوائد الأخبار، وسلك فيه طريقة الترجيح لمذهب الهادي عليه السلام على مذاهب فقهاء العامة.
[شيء من شعره]
وكان عليه السلام حلو المراجعة، حسن المخاطبة والمكاتبة، وكان كثير العبادة والزهادة، وله في هذا المعنى قصيدته المشهورة في الزهد التي أولها: [الطويل]
دعيني أطفي عبرتي ما بدا ليا .... وأبكي ذنوبي اليوم إن كنت باكيا
وكان شاعراً مفلقاً بارعاً متفنناً متصرفاً. قال عليه السلام في وقت صغره: روي أنه قال هذه الأبيات وهو متعلم في نصف القرآن وهي: [الطويل]