فأدى الرسالة، وأظهر الدعوة، ومحض النصيحة، وأقام الحجة، وأوضح المحجة، ونهض بأمر الله ساطعاً، ولشتات الدين جامعاً، ولشيطان الكفر قامعاً، وللأصنام والأوثان خالعاً، وجاهد في الله حق جهاده، وهدى ضُلاّل عباده إلى صراط مستقيم، ولدين الله القويم؛ بأنور منار، وأبهر سلطان، وأوضح سبيل، وأبين دليل، قد شد عضده من المعجزات بأعظمها قدراً، وأفحمها أمراً، وأبقاها أثراً، وأعلاها خبراً ذلك كتاب الله {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ..الآية} [الزمر:23] ، {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192)نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ(193)عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ(194)بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195)} [الشعراء] .
قد جعله الله منارة للخلق، ووصلةً إلى الحق، وطريقاً إلى النجاة واضحاً، وسبيلاً إلى الجنة لائحاً، من اعتصم به اهتدى، ومن أعرض عنه ضل وغوى، فيه بيان لكل شيء وهدى وبشرى للمحسنين ؛ فلم يزل صلى الله عليه وآله وسلم يعلمكم تنزيله ، ويفهمكم تأويله، ويشرح حلاله وحرامه، ويشرح قصصه وأمثاله، حتى اهتديتم به من حيرة العمى، واستوضحتم منهاج الهدى، {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(103)} [آل عمران] .

حتى أدى حق الرسالة، وقام بشرط الأمانة، ووعظ ونصح، وبلغ وأسمع، ثم نقله الله إلى ما أعدّ له من الكرامة، وأنزله منازل رحمته، واستأثر له ما لديه، وقبضه إليه راضياً عمله قابلاً سعيه، فابتدأ كثير من الأمة في تبديل سنته، والإلتواء على عترته، كأن لم يسمعوا قول الله حيث يقول: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] ، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)} [الأحزاب] ، وحيث يقول: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)} [آل عمران] .
فجعل الأبناء الحسن والحسين، والنساء فاطمة، والأنفس نفسه ونفس علي صلوات الله عليهم، فانظر كيف نزههم الله تعالى محققاً أنهم أولو الصدق.
ثم ألزم المؤمنين متابعتهم، والكون معهم بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة] ، ولم يسمعوا ما أنزل الله في أمير المؤمنين حيث تصدق بخاتمه راكعاً إذ يقول عز قائلاً: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)} [المائدة] .

وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخاطباً كافة أمته: ((من أولى بكم من أنفسكم؟)) فقالوا: الله ورسوله أولى، فقال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) .
وقوله: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به.. الحديث)).
وقوله عليه السلام: ((أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)) .
فتأملوا رحمكم الله كيف أوضح الحق وكيف قطع المعاذير، وانظروا إلى كثير من الأمة كيف غيروا وبدلوا حتى زاغوا وضلوا.
فأما أمير المؤمنين فنكثت بيعته جهراً، وحمل على كثير مما كره قهراً، فمن غادر به وقد خذله، وقاعد قعد عن نصرته، وناكث نكث على نفسه عقد بيعته، ومارق مرق عن طاعته، وقاسط قسط في إهمال ما أوجب الله تعالى من ولايته، وما ثبت معه على أمره إلا فريق من المهاجرين والأنصار الذين محضوا الإيمان محضاً، ورأوا طاعة الله فرضاً، وقديماً عهد إليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فقال: ((يا علي إنك ستقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين )) فلم يزل ذلك دأبه ودأبهم حتى قتله الأشقى ، ومضى عليه السلام شهيداً فلاقى ربه حميداً.

فانتصب للأمر بعده الإمام الطاهر، والقمر الزاهر، سبط النبي، وسلالة الوصي الحسن بن علي صلوات الله على روحه في الأرواح وعلى جسده في الأجساد، فرأب الصدع في الدين، ودعا إلى الحق المبين ، ولم تأخذه في الله لومة لائم ، إلى أن خذله أجناده، وقعد عنه أعضاده، وبسطت إليه الأيدي بالسوء فجرح، ودفع عما انتصب له ودعي إلى سلم من كان له حرباً، وغصب على الأمر غصباً، ثم لم يرض بذلك حتى قتل مسموماً، ودفن مظلوماً.
فقام بالأمر بعده من ترك الدنيا وزينتها، وأراد الآخرة وسعى لها سعيها؛ الحسين بن علي عليه السلام فشهر سيفه وبذل نفسه، ونهض إلى العراق لمنابذة الفساق بعدما دعي إليها، ووعد النصرة بها، فتعاوره من حزب الشيطان من لم يزل مبطناً للنفاق، ومصراً على الشقاق، فقتلوه أقبح قتلة ، ومثلوا به أشنع مُثله، وغودر صريعاً، ونبذ بالعراء طريحاً، وحزّ رأسه وحمل إلى من بان كفره وظهر، ولاح عناده وانتشر.
وسبيت بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما سبيت ذراري المشركين فلم يكن من المسلمين من يغضب لله، ويذب عن حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل كان الجميع بين راض شامت، ومنكر ساكت.
فعند ذلك شربوا الخمور، وأعلنوا بالفجور، ورفعوا حشمة الإسلام، ولعبوا بالأحكام، واتسعت المظالم، وظهرت المآثم حتى لم يبق من الدين إلا اسمه، ومن الإسلام إلا رسمه.

ثم قام بعده الإمام الزكي الحبر الرضي زيد بن علي –صلى الله عليه- في عصبة قليلة شروا أنفسهم في سبيل الله، وسارعوا إلى الغفران، وتبادروا إلى الجنان، فعطفت عليهم الأشقياء من بني أمية سالكين بهم سبيلهم في جده، فقتلوه وصلبوه وأحرقوه، ثم ألحقوا به الطاهر المطهر ابنه يحيى.
فيا لبني أمية الويل والثبور، ويا لهم السعير المسجور، غرتهم زهرة الدنيا فمالوا إليها، ورغبوا عن الآخرة فأعرضوا عنها ، { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(16)} [هود] ، {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ(44)فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(45)} [الأنعام] .
ثم جاء بنو العباس معلنين شعارنا، طالبين بزعمهم ثأرنا؛ بادعائهم جدهم العباس وابنه عبدالله في متابعة أمير المؤمنين، وإظهار طاعته وإيثار ولايته؛ إذ لم يزل العباس يخطب بمبايعته السعادة، وعبدالله يطلب بالجهاد بين يديه الشهادة.
فلما اتسقت أحوالهم بنا، واستوسقت أسبابهم باسمنا، بغوا وطغوا ورفلوا في أثواب المروق، وجردوا علينا أسياف العقوق، وسن مخذولهم الملقب بالمنصور في أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم القتل الذريع، والحبس الفظيع، والأمر الشنيع.

وأراق يوم الثنية دم محمد بن عبدالله النفس الزكية، ثم قتل أخاه إبراهيم بن عبدالله، وحمل أباهما وعمومتهما وبني عمومتهما البررة الأتقياء، السادة الأزكياء على الأقتاب فعل أشباهه من بني أمية.
ثم اقتدى به بنوه، وسلكوا سبيله واتبعوه، وأظهروا المناكير فالمناكير، وأضلوا الجماهير بالجماهير، فيا عجباً لمن ينتصب على الأعواد في الجمعات والأعياد يشهد لهم على الله بالزور وهم منهمكون في الفجور؛ أما يتقي الله، أما يخاف يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار.
عباد الله إني رأيت أسباب الحق قد مَرُجَتْ، وقلوب الأولياء به قد حرجت، وأهل الدين مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس، ورأيت الأموال تؤخذ من غير حلها، وتوضع في غير أهلها، ووجدت الحدود قد عطلت، والحقوق قد أبطلت، وسنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بدلت وغيرت، ورسوم الفراعنة قد جددت واستعملت، والآمرين بالمعروف قد قلوا، والناهين عن المنكر وهنوا فذلوا.

ووجدت أهل بيت النبي عليهم السلام مقموعين مقهورين مظلومين لا يؤهلون لولاية ولا شورى، ولا يُتركون ليكونوا مع الناس فوضى؛ بل منعوهم حقهم، وصرفوا عنهم فَيّهُم، يحسبون الكف عن دمائهم إحساناً إليهم، والانقباض عن حبسهم وأسرهم إنعاماً عليهم، يطلبون عليهم العثرات، ويرقبون فيهم الزلات، ووجدتهم في كل واد من الظلم يهيمون، وفي كل مرعى من الظلال يسيمون، ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا(10)} [النساء] .
ووجدت الفواحش قد أقيمت أسواقها، وأديم نَفَاقها، لا خوف الله يرع، ولا حياء الناس يمنع، بل يتفاخرون بالمعاصي، ويتنابزون ويتناهون بالإثم، قد نسوا الحساب، وأعرض عن ذكر المآب والعقاب، فلم أجد لنفسي عذراً إن قعدت ملتزماً أحكامهم، متوسطاً آثامهم، أونسهم ويؤنسونني، وأسالمهم ويسالمونني؛ فخرجت أدعو الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين.
أيها الناس أدعوكم إلى كتاب الله، وسنة نبيه، والرضى من آل محمد، ومجاهدة الظالمين ومنابذة الفاسقين، وأني كأحدكم لي ما لكم وعلي ما عليكم إلا ما خصني الله من ولاية الأمر إن الله بصير بالعباد.

وأقول: هذه الدعوة الشريفة كافية في الدلالة على علمه عليه السلام، ورغبته في جهاد الخونة الطغام، ولو لم يكن لنا في فضل المؤيد وعلمه إلا هذه الدعوة وما أودعها من فقر الكلام وفرائده ، ونخب البيان وفوائده ، وحسن إصداره وإيراده، وتنبيهه على غزارة علمه وجهاده، بما ذكره من مجادلته الخصوم نصحاً عن الدين، ونضالاً عن الحق المبين، حتى عرفت في ذلك مواقفه ، وثبتت فيما هنالك طرائقه، وفي هذا إشارة إلى علمه الغزير وفضله الكثير.
وكذلك فيما ذكر من قبل من قوله: كاثرت العلماء، وحاضرت الفقهاء؛ فإنه أشار بهذا إلى حسن مناظرته، ولطيف محاضرته، وما له في مجالس العلماء من طول المكاثرة؛ إمّا أنهم كثروا به وإمّا أنه كثر بهم، وكلا المعنيين لا غبار عليه، ولا يكثر العلماء به إلا وهو معدود من أفاضلهم ، ولا يكثر هو بهم إلا وهم أمثاله وأشكاله ؛ فالعبارة بنفسها في لفظها ومعناها دالة على توغله في بحر العلم، وتوقله إلى ذورة الفهم، وأنه قد رجع ويرجع إليه، ورد ورد إليه.

وقوله: وحاضرت الفقهاء كلمة في معنى التواضع، دالة على غاية الارتفاع في جو الفقه، لأنه لم يرد محاضرة الفقهاء فقد يحاضرهم من ليس معدوداً منهم، وإنما أراد أني حاضرتهم في مجالس النظر، واستخراج نتائج الفكر، فبرزت في الحقيقة عليهم في هذا المضمار، وكنت في مناظرتي لهم ممن لا يشق له غبار، فعبر عن هذا المعنى بمجرد لفظ المحاضرة، وهي مفاعلة مأخوذة من الحضور بعد الحضور فهي موضوعة للتكرار الدال على معنى الاستكثار، وهذا لا يكون إلا من العالم المحقق، والناظر المدقق؛ لا جرم هذه صفة الإمام أبي الحسين المؤيد بالله فإنه كان زينة مجالس العلماء، وشمس محاضر الفقهاء.
وانظر إلى قوله: صحبت النساك حتى نسبت إليهم، وخالطت الزهاد حتى عرفت فيهم؛ فإن في هذا دلالة ظاهرة على فضله في العبادة والزهادة؛ لأنه أشار إلى أنه معدود من جملة العباد والزهاد.
ومن نظر في كتابه (سياسة المريدين) عرف صحة قوله في هذا المعنى، فلقد أورد من علم الحقيقة والطريقة ما ينظمه في مسلك الجنيد والشبلي وإبراهيم بن أدهم – رضي الله عنهم-، وهذه صفات الكمال، وبمثل هذا الإمام الفاضل يعرف فضل العترة النبوية لأنه واسطة قلادتهم، ودرة التقصار في أئمتهم وسادتهم.

ومع هذا الفضل العظيم والعلم الباهر اختصاصه بالجهاد، وسلوكه منهج الآباء والأجداد، وما كان من المواقف المحمودة، والمواطن المشهودة، وقد أعرضنا عن ذكرها لأن القصد هاهنا الإشارة إلى قوة علمه وجودة فهمه، وأن أحداً من أبناء الزمان لا يشاكله ولا يماثله، ولا يناظره في العلم ولا يناضله، فيكون هذا من أقوى الأسباب المرجحة لعلم العترة النبوية، والتزام مذهبهم في المسائل الشرعية، والمضطربات الاجتهادية، وقد طال الكلام في المؤيد بالله بعض الطول لأنه عليه السلام من وجوه أئمة العترة المطهرين، وعلى علمه مدار خلق كثير من العلماء الراشدين؛ فأردنا الإشارة إلى ذلك.
ونعود إلى تمام الأئمة المذكورين في الترجمة السابقة؛ فنقول:
[الإمام يحيى بن الحسين (أبو طالب)]
(340- 424هـ / 952- 1033م)
وأما الإمام الناطق بالحق الظافر بتأييد الله عز وجل، أبو طالب يحيى بن الحسين بن هارون عليه السلام:
فهو تلو أخيه في فضله وعلمه وذكائه وفهمه، وكان يقال: (ليس تحت الفرقدين مثل السيدين).
قال الفقيه حميد [رحمه الله] في وصفه: قرأ على السيد أبي العباس الحسني رحمه الله فقه العترة عليهم السلام حتى لجج في غماره، ووصل قعر بحاره، وقرأ في علم الكلام على الشيخ أبي عبدالله البصري فاحتوى على فرائده ، وأحاط بمكنونه وفوائده، وكذلك قرأ عليه في أصول الفقه، ولقي غيره من شيوخ الاعتزال فأخذ عنهم، حتى أضحى في فنون العلم بحراً يتغطمط تياره، ويتلاطم زخاره.

34 / 39
ع
En
A+
A-