قال الفقيه حميد رحمه الله: وقد كتبنا رسالة في هذا وسميناها (بالرسالة الزاجرة لذوي النهى عن الغلو في أئمة الهدى) وطالعت سيرة الأميرين الشريفين صحابي شهارة [وهما السيد الملقب بالفاضل القاسم بن جعفر بن القاسم المقتول بالجوف المقبور بالحصن بالظاهر، وصنوه ذو الشرفين محمد بن جعفر قبره بشهارة] فوجدت كلامهما فيها مصرحاً بهذا الاعتقاد، وبقيا عليه إلى يوم المعاد.
ونعود إلى بيان من أجملناه في الترجمة المذكورة؛ فنقول:
[الإمام أحمد بن الحسين (المؤيد بالله)]
(333- 411هـ / 945- 1021م)
وأما الإمام المؤيد بالله أبو الحسين أحمد بن الحسين بن هارون عليه السلام:
فإنه من وجوه أئمة العترة الطاهرة، وأرباب علومها الزاخرة؛ بل هو شمسها الزاهرة، وعين أعيانها الناظرة، وعلم من أعلامها الباهرة، برع في العلوم كلها مسموعها ومعقولها، وفروعها وأصولها.
قال الفقيه الشهيد رضي الله عنه في وصف المؤيد بالله عليه السلام: كان في العلم بحراً يقذف بالدرر، وجوناً يهطل بالدرر، ولم يبق فن إلا وقد بلغ فيه الغاية، وأدرك النهاية، كان قدس الله روحه عارفاً باللغة والنحو، متمكناً من التصرف في منثورها ومنظومها، وكان يعرف العروض والقوافي ونقد الشعر، وكان فقيهاً، بارعاً، متقدماً فيه مناظراً، وكان متقدماً في علم الكلام وأصول الفقه، حتى لا يعلم أنه في أي العلوم الثلاثة كان أقدم وأرجح ، ولم يبلغ النهاية في العلوم الثلاثة غيره، وإنما يتقدم العالم في علم أو علمين ؛ فأما المؤيد عليه السلام فإنه فاق في هذه العلوم كلها، وقرأ على شيوخ العلماء من الزيدية والمعتزلة.
فمن شيوخه: الشيخ المرشد أبي عبدالله البصري، ولقي علماء جميع عصره واقتبس منهم، وعلق (زيادات شرح الأصول) على قاضي القضاة بأصفهان.
وحكي عن الشيخ أبي رشيد من كبار المعتزلة أنه قال: لم أر السيد أبا الحسين منقطعاً قط مع طول مشاهدتي له في مجلس الصاحب، وكان لا يُغْلب إن لم يَغْلب.
وذكر بعض من صنف في أخباره أن الصاحب الكافي قال ذات ليلة للحاضرين: ليذكر كل واحد منكم أمنيته فذكروا ، فقال أمّا أنا : فأتمنى أن يكون السيد أبو الحسين حاضراً؛ وأنا أسأله عن المشكلات وهو يبينها لي بألفاظه الفصيحة، وعباراته المليحة.
وناظر يهودياً كان متقدماً في المناظرة والمجادلة في مجلس الصاحب، وكلّمه في النبوات حتى أعجزه وأفحمه، فلما قام من المجلس ليخرج، قال له الصاحب: أيها السيد أشهد أنك أوتيت الحكمة وفصل الخطاب.
وقصته مع القاضي أحمد بن أبي علان مشهورة في المسائل التي برز فيها المؤيد بالله وأجاب عنها.
وله عليه السلام التصانيف المفيدة، والكتب الفريدة؛ منها في الأصول: (كتاب النبوات) وهو يدل على غزارة علمه في الأصول، ثم في الأدب فإنه بيّن المعارضات التي عورض بها القرآن الكريم وكشف عن دياجيرها، وأبان عن عوارها بكل وجه، وسلك في ذلك من طريقة علم الأدب ما يدل على علو منزلته، وارتفاع درجته.
وله في علم الأصول (التبصرة) كتاب لطيف، وله كتاب في فقه الهادي عليه السلام (التجريد وشرحه) أربعة مجلدة استوفى فيها الأدلة من الأثر والنظر، وأحسن فيها كل الإحسان، وله (البلغة) أيضاً في فقه الهادي عليه السلام.
وله في فقه نفسه: (الإفادة) مجلد، و(الزيادات) مجلد علق ذلك أصحابه عنه وفيها كل مسألة عجيبة، وفتوى غريبة، ولهذين الكتابين شروح وتعاليق عدة للمتقدمين من أصحابنا والمتأخرين، ومن الشارحين لهما والمعلقين عليهما في زماننا حي سيدنا العلامة فخر الدين ملك العلماء الراشدين عبدالله بن حسن الدواري رحمه الله؛ فإنه شرح الزيادات بأربعة كبار مجلدة سمى شرحه هذا: (شكف المرادات في شرح الزيادات) وهو من أنفس ما شرح به هذا الكتاب.
ثم علق بعد ذلك عليه تعليقاً حسناً مفيداً متقناً وهو في مجلدين تقرر فيه على ألفاظ الزيادات ومعانيها، واستخلص من درر أصدافها ولأليها، وشرح رحمه الله تعالى كتاب الإفادة بثلاثة مجلدة ، هذا مع تعاليق أُخَر لأهل الزمان أعرضنا عن ذكرها، وللمتقدمين ما هو معروف من الشروح والتعاليق على هذين الكتابين.
[طرف من أخباره(ع)]
قال الفقيه حميد رضي الله عنه: ومهما طلبت هذه الغرائب فإنها توجد في فقهه عليه السلام منصوصة، ولقد حكى لي بعض أصحابنا الواصلين من العراق وهو الفقيه الفاضل الحسن بن علي بن الحسن أنه عليه السلام بات ليلة ومعه رجل من الصالحين، فبات ذلك الرجل يعبد الله تعالى والسيد المؤيد بالله بالقرب منه؛ فلما طلع الفجر قام المؤيد بالله للصلاة فقال له ذلك الرجل: أيها السيد أتصلي بغير وضوء فقال له: لم أنم في هذه الليلة شيئاً، وقد استنبطت سبعين مسألة.
ولقد كان علماء عصره يعجبون من تحقيقيه، وشدة تدقيقه، ولا عجب من أمر الله يؤتي فضله من يشاء، ولذرية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المزية على من عداهم، والفضل على من سواهم.
قال حميد [رحمه الله]: ولقد سمعت شيخنا العالم محيي الدين محمد بن أحمد بن الوليد القرشي الصنعاني رضي الله عنه يحكي أن السيد المؤيد بالله عليه السلام لما توفي أقبل الناس إلى أخيه السيد [أبو طالب] عليه السلام يسألونه فقال له قائل: أين كنّا عن هذا العلم في حياة السيد أبي الحسين؟
فقال: أو كان يحسن بي أن أتكلّم والسيد أبو الحسين في الحياة؛ مع أن علم السيد أبي طالب غزير، وفقهه جم غفير، وسنذكره في مكانه إن شاء الله تعالى.
وسئل أبو طالب: أتقول بإمامة أخيك؟ فقال: إن قلنا بإمامة زيد بن علي فما المانع من القول بإمامة أخي، فانظر كيف شبهه بأعلى الأئمة قدراً وأغزرهم علماً، لأنا قد بيّنا أنه أقام خمسة أشهر يفسر سورة الحمد والبقرة، وذكرنا غير ذلك مما يكثر من علمه وتبريزه.
قال مصنف سيرته: وسمعت الشيخ أبا الفضل شروين رحمه الله تعالى يقول: دع أئمة زماننا إنما الشك في الأئمة المتقدمين من أهل البيت وغيرهم هل كانوا مثل هذا السيد في التحقيق في العلوم كلها أم لا.
قال: وسمعت القاضي أبا الحسين الرّفَا يقول: ليس اليوم في الدنيا أشد تحقيقاً في الفقه من السيد أبي الحسين الهاروني، وقد تركنا من هذه الروايات بعضها.
[أصحابه عليه السلام]
وكان للمؤيد عليه السلام أصحاب فضلاء علماء من أهل البيت وغيرهم؛ فيهم السيد العالم الفاضل الموفق بالله أبو عبدالله الحسين بن إسماعيل الحسني الجرجاني عليه السلام، وهو ممن له التصانيف الرائقة الفائقة في علم الكلام وغيره.
والسيد الإمام مانكديم أبو الحسين بن أحمد بن أبي هاشم الخارج بعده بلنجا، كان إماماً عالماً فاضلاً مبرزاً ، وهو صاحب (شرح الأصول) المتداول في أيدي الناس في زماننا هذا، وكانا معاً من تلامذة قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد رحمه الله.
ومن أصحاب المؤيد بالله عليه السلام الشريف أبو القاسم بن زيد بن صالح الزيدي، والشريف محمد بن زيد الجعفري.
ومن أصحابه في الزهد والعبادة الشريف أبو جعفر الزيدي، وقد كان استدعاه غير مرة ليستخلفه فأبى، ولم يجبه لاشتغاله بنفسه وإقباله على زهده.
ومن أصحابه القاضي أبو الفضل زيد بن علي الزيدي، وكان من بيت العلم والرئاسة. ومنهم أبو منصور بن شيبة الفرزاذي، ومنهم الفقيه العالم أبو القاسم بن ثال وهو الذي هذب مذهبه، وجمع الإفادة والزيادات.
ومنهم أبو بكر الموحدي القاضي قرأ عليه فقه الزيدية، ومنهم القاضي يوسف الخطيب، وأبو الحسن الأسكوني، ومنهم أبو علي بن الناصر خلفه بجيلان، وعاد إلى آمل بالأجرة ، وقال : لا تحسبوا أني فارقت المؤيد بالله بغير إذنه لا والله لم أخرج من عنده إلا بإذنه، وأنا أقول بإمامته، ولا أعرف في هذا الزمان رجلاً أفضل منه.
وعلى الجملة إنما ذكرنا من ذكرنا من عيون أصحابه والآخذين عنه تبصرة لمن طلب الهداية والنجاة، وتقليد أئمة الزيدية السادة الهداة، ليعلم أنهم جمعوا بين العلوم الراجحة، والأعمال الصالحة.
وقال الإمام المنصور بالله في (كتاب الشافي) وقد ذكر المؤيد بالله عليهما السلام فقال: للمؤيد بالله التصانيف الجمة في الأصول والفروع، أولها (كتاب التجريد وشرحه) على مذهب الهادي عليه السلام قيل إنه ستة مجلدة ، و(كتاب الإفادة) ، و(كتاب الزيادات) في فقهه قدس الله روحه، وكتاب (البلغة)، و(كتاب النقض على ابن قبة).
وله (التفريعات) التي تولى جمعها الأستاذ أبو القاسم بن ثال إلى غير ذلك مما يطول شرحه، وله (كتاب التبصرة) في الأصول، وله تصانيف في أصول الدين وأصول الفقه جمة.
قال [المنصور] بالله: وكأنه لم يشتغل بغير النحو واللغة لما برز فيهما، وأحاط بعلوم القرآن والشعر وأنواع الفصاحة، وله فيها كتاب بين فيه إعجاز القرآن من وقف عليه علم اختصاصه بصفات الكمال في علوم القرآن؛ وهو واسطة عقد زمانه، ودرة تاجه، وله كتاب (سياسة المريدين) وكانت له كرامات تشهد له بالفضل تركنا ذكرها اختصاراً.
وكان عليه السلام من الشجاعة وثبات القلب بالمحل العالي، ومن شعره عليه السلام يذكر الإشارة إلى حاله: [الطويل]
تُهذّب أخلاق الرجال حوادث .... كما أنّ عين التبر يُخْلِصُه السبكُ
وما أنا بالواني إذا الدهر أَمّني .... ومن ذا من الأيام ويحك يَنْفَكُ
بلانيّ حيناً بعد حينٍ بَلَوتُه .... فلم أُلْفَ رعديداً يُنَهْنهُهُ السَّهكُ
وحنَّكني كيما يقود أزمتي .... فطحطحته حنكاً وما عقني الحنكُ
ليعلم هذا الدهر في كل حالة .... بأني فتى المضمار أصبح يحتكُ
نماني آباءٌ كرام أعزة .... مراتبها أنَّى يحيط بها الدَّركُ
فما مدرك بالله يبلغ شأوهم .... وإن يك سباقاً فغايته التركُ
فلا برقهم يا صاح إن شِيّم خُلّبٌ .... ولا رفدهم وكس ولا وعدهم إفكُ
بهم زهت الأعراب في كل بلدة .... سكون ولخم ثم كندة أو عكُ
وقصيدته المشهورة في الصاحب الكافي من فحول القصائد وغرائبها، وما أحسن فيها قوله: [الطويل]
ألا أيهاذا الصاحب الماجد الذي .... أنامله العليا غيوثٌ هواطلُ
أنامل لو كانت تشير إلى الصفا .... تفجر للعافين منها جداول
لأغنيت حتى ليس في الأرض معدمٌ .... وأعطيت حتى ليس في الناس آمل
وكم لك في أبناء أحمد من يدٍ .... لها مَعْلم يوم القيامة ماثل
إليك عقيد المجد سارت ركابهم .... وليس لها إلا علاك وسائل
فأعطيتهم حتى لقد سئموا اللُّهى .... وعاد من العذّال من هو سائل
وأسعدتهم والنحس لولاك ناجم .... وأعززتهم والذل لولاك شامل
فكل زمان لم تُزَيّنه عاطل .... وكل مديح غير مدحك باطل
وهذه الأبيات في نهاية الحسن والفصاحة والإجادة وهي تصلح أن تكون حجة في مدح الأكابر من ذوي الفضل والعلم.
[كتاب دعوته (ع)]
قال مصنف سيرته: وله عليه السلام دعوة جمع فيها من فرائد العلم الثمينة، ويواقيته الشريفة؛ ما يقضي له بالعلم والبراعة والتقدم في هذه الصناعة.
قال عليه السلام: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلواته على عباده المصطفين، هذا كتاب من الإمام المؤيد بالله أبي الحسين أحمد بن الحسين بن هارون الحسني بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى من بلغه من المسلمين في أقاصي الأرض وأدانيها سلام عليكم أما بعد:
فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ذو القوة والحول، والإفضال والطول، الذي جعل السماء بناء، والأرض قراراً، وجعل خلالها أنهاراً، وخلقكم أطواراً، وأنشأ لكم أسماعاً وأبصاراً، أحمده رغباً ورهباً على تظاهر نعمه، وتضاعف قسمه، وترادف منحه، وتتابع كرمه، وأومن به خاضعاً خاشعاً أنه الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، المتعالي عن الأشباه والأنداد، والشركاء والأضداد، وأتوكل عليه موقناً أنه قاهر لا يضام، وقادر لا يرام، وقيوم لا ينام، توحد بالعلا وتفرد بالكبرياء، وحُمِد على النعماء، وعُبِد في الأرض والسماء، ذلكم الله ربكم {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ(52)وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ(53)} [النحل] ، خلق عباده نعمة عليهم، ورحمة لهم وإحساناً إليهم، لم يتكثر بهم عن قلة، ولم يتعزز بهم عن ذلة، ولم يستأنس بهم عن وحشة، فطر الأرض والسماوات، وجعل النور والظلمات، وأجرى الأفلاك الدائرات، والنجوم المسخرات.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قولاً صدقاً أقولها تعبداً ورقاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فصلوات الله عليه يوم ولد ويوم قبض ويوم يبعث حياً، وعلى آله الطيبين الأخيار المنتجبين الأبرار.
أن بعثه على حين شمخ الكفر بأنفه، ونأى بجانبه، وأمتد على الحق رواقه، وأحاط بهم نطاقه، وملأ البسيطة ظلامه ، وظهر فيهم عتوه وعزامه، والخلق حيارى لا يبصرون وضُلاّل لا يهتدون ، قد ملكتهم الجاهلية الجهلاء ، وعمتهم الفتنة الصماء، ونور الحق قد أذن بالطموس، ومال بوجهه إلى العبوس.