أمثلي يدخل في الأمور الملتبسة؟ هيهات منع ذلك خوف الرحمن، وتلاوة القرآن، والمعرفة بما أنزل الله في محكم الفرقان ؛ فإني لست ممن تغره الدنيا بحسنها، وتخدعه بزينتها، فاتقوا الله عباد الله حق تقاته وعاونوا الحق والمحقين، وجانبوا الباطل والمبطلين وكونوا مع الصابرين).
ومن تدبر هذا الكلام عرف أنه خرج من قلب خاشع، وعبد خاضع، لم تغره الدنيا ببهجتها ، ولم تستهوه الخلافة بزينتها ؛ بل تركها وعرف ما أوجب عليه، تركها واعتزل الناس جانباً، وعبدالله حتى أتاه اليقين؛ فسلام الله عليه وعلى آبائه الأئمة الطاهرين.
* * * * * * * * * * *

[الإمام أحمد بن الهادي إلى الحق (الناصر)]
(...- 325هـ /...- 937م)
وأما الإمام الناصر لدين الله أحمد بن يحيى بن الحسين بن القاسم عليه السلام:
فإنه كان من الأئمة السابقين ، وعيونهم المعتبرين، وسادتهم المطهرين، كان عالماً، فاضلاً، ورعاً، زاهداً، جامعاً لشرائط الإمامة، كاملاً في صفات الزعامة، سالكاً منهاج آبائه الأئمة الأطهار في أحواله الخاصة والعامة.
كما قال الفقيه حميد رضي الله عنه في وصفه: (نشأ على الزهادة والعبادة، واقتبس من نور والده الوقاد، وارتوى من علم الآباء والأجداد؛ فأحرز من علمهم الصافي الكثير، وانتقع من ودق سحابهم الجون الغزير.

[تصانيفه عليه السلام]
وله عليه السلام التصانيف الرائقة الشافية، والكتب النافعة الوافية، في الأصول والفروع والمعقول والمسموع؛ منها: (كتاب النجاة) في الرد على الجبرية القدرية الفرية، وفيه علم عجيب وكلام حسن غريب وهو مجلد كبير.
وله (كتاب الدامغ)، و(كتاب التوحيد)، و(كتاب في الفقه)، و(كتاب التنبيه)، و(كتاب مسائل الطبريين)، و(كتاب الرد على الإباضية) فرقة من الخوارج، [وإنما خص الإباضية بالرد عليهم لأنهم كانوا باليمن ببلاد قدم وشظب والشرفين في عصره عليه لاسلام وبعده بمدة طويلة].
وله في علوم القرآن ما يشهد له بالإصابة والتبريز، إلى غير ذلك من مصنفاته المشهورة وكتبه المذكورة المعروفة، منها (كتاب المفرد) في الفقه. هذا [ما] ذكره الفقيه حميد رحمه الله.
وقال الإمام المنصور بالله عليه السلام وقد ذكره في (كتاب الشافي): للناصر تصانيف جمة في العلوم على أنواعها، أولها كتاب في (التوحيد) في نهاية البيان والتهذيب، و(كتاب النجاة) ثلاثة عشر جزءاً، و(كتاب مسائل الطبريين) جزءان في الفقه، و(كتاب في علوم القرآن)، وكتاب أربعة أجزاء في الفقه، و(كتاب التنبيه)، وكتاب أجاب به الخوارج الإباضية، و(كتاب الدامغ) أربعة أجزاء، وغير ذلك من تصانيفه عليه السلام وقد تركنا ذكر بعضها. هذا كلام الإمام المنصور بالله عليه السلام.

وقد اتفقت الروايتان روايته عليه السلام ورواية الفقيه الشهيد رضي الله عنه، وإنما أعدنا كلام المنصور عليه السلام لما فيه من البيان في تصانيف الناصر عليه السلام، وليعرف الناظر فيه أن الأمر ظاهر في شهرتها ومعرفتها.
[من رسائله (ع)]
ومن رسائله فيما يتضمن الدعاء إلى الله والحث على الجهاد في سبيل الله؛ نذكره ليعرف الواقف على فضل أئمة العترة لجمعهم بين العلم والجهاد.
قال عليه السلام: (ألا وإني رغبت فيما رَغّبَ الله فيه فنهضت له، وقمت فيما ندب إليه فسموت له، وعرفت ما أمر الله فأعلنت به، ولم أسع لطلب دنيا ولا توفير مال، ولا ازدياد حال، ولا طلب فساد في الأرض، ولا إضاعة لحق، ولا انتهاك لمسلم، ولا هتك لمحرم، ولا إراقة دم حرام، ولا إظهار بدعة، ولا فعل شنعة، ولا محبة رفعة، ولا إرادة رفاهية، ولا مفاخرة بجمع.
وإنما قمت للازم الحجة لي ووجوبها علي، وتوثق رباقها بي، على حين جفا من الإخوان، وتراكم من الأحزان، وإفراد من الأعوان، وليس مكاني يخفى، ولا مقامي يغبى، ولا اسمي مجهول فيعذر الغافل والمتثاقل، ويجد حجة الخاذل، ويمكن المتخلف التأول، مع المحن التي أنا فيها، والأمور التي أقاسيها؛ من كثرة لائم لا يرضى، وعابد للدنيا، ومطلب للسعة والغنى، ومتربص لا يُتقى، ومفرد عند الشدائد لا يرعوى، ومتسخط وَقْتَ لا يُعطي، وما دعوت إلى الدنيا فإذا عدمها أهلها معي ذهبوا، فإذا فارقوها انقلبوا.

ألا وإني إنما دعوت إلى ما دعا إليه من كان قبلي من الأئمة الطاهرين والعباد الصالحين؛ أنا عبدالله وابن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الشاري نفسه لله سبحانه، الغضبان لله جل ثناؤه إذ عصي في أرضه، واستخف بفرضه، وقتلت الدعاة إلى دينه، فلو اسعفتني الأعوان، وعاضدتني الأنصار، وصبر على دعوتي أهل الأديان؛ لعلوت فرسي، واعتصيت برمحي، وتقلدت نجاد سيفي ، وأجبت درعي وقصدت أعداء الله جل ذكره، وكافحت الأقران في يوم الطعان؛ صابراً محتسباً مسروراً جذلاً إذا شرعت الأسنة، واختلفت الأعنة، ودعيت نزال لمعانقة الأبطال، وتكافحت الرجال، وسالت الدماء، وكثرت الصرعى، ورضي الرب الأعلى.
فيا لها خطة مرضية لله جل ثناؤه ما أشرفها؛ فأنا أشهد الله لوددت أني أجد إلى حيلة سبيلاً، يعز فيها الدين ويصلح على يدي أمر هذه الأمة، وإني أجوع يوماً وأطعم يوماً حتى تنقضي أيامي، وألاقي حمامي فذلك أعظم السرور وأجل الحبور، وأشرف الأمور، ولو كان ذلك وأمكن ما نزلت عن فرسي ، إلا لوقت صلاة، والصفان قائمان، والجمعان يقتتلان، والخيلان يتجاولان؛ فنكون في ذلك كما قال شاعر أمير المؤمنين عليه السلام بصفين: [المتقارب]
أيمنعنا القوم ماء الفرات .... وفينا السيوف وفينا الجحفْ
وفينا الشوازب مثل الوشيج .... وفينا الرماح وفينا الزعفْ
وفينا علي له سورة .... إذا خَوَّفوهُ الردى لم يخفْ
وكما قال جدي القاسم بن إبراهيم عليه السلام: [البسيط]

دنيايَ ما زال همي فيك متصلاً .... وإن جنابك كان المزهر الخضرا
إذا انقضت حاجة لي مِنْكِ أعقبها .... هَمٌّ بأخرى فما ينفك مُفْتقرا
متى أراني إلى الرحمن مبتكراً .... في ظل رمحي ورزقي قل أم كثرا
قال عليه السلام: ولكن قل المعين على الدين؛ فأنا وحيد دهري، وغريب في أمة جدي، وقد شَغُل بذلك قلبي وضعف عزمي).
فانظر إلى هذا الكلام ما أدله على رغبته في أمر الله والجهاد لأعدائه، والصبر على بلائه، وهي شيمته عليه السلام وشيمة من سبق من آبائه؛ شنشنة أعرفها من أخزم.
وله عليه السلام الأيام الغر المحجلة، والوقعات الزهر المبجلة، ولم يتفق لأحد ممن تقدم من أهله وسلفه ما اتفق له من نكاية الباطنية، وتدميره لجموعها، وقتله لجنودها، وبذبحه لملوكها، ولو لم يكن إلا وقعة نغاش لكفى برغائها منادياً؛ كانت عدد القتلى فيها تزيد على خمسة آلاف قتيل، وهذا لم يتفق مثله لأحد من أئمة الزيدية.
[الإمام محمد بن الحسن بن القاسم (ابن الداعي)]
(304- 360هـ / 917- 971م)
وأما الإمام المهدي لدين الله أبو عبدالله محمد بن الداعي إلى الله الحسن بن القاسم بن الحسن عليه السلام: فهو الإمام العالم المتفق على علمه وفضله.
وذكر من صنف في أخباره أنه يقال: (لو مادت الدنيا لشيء لمادت لعلم أبي عبدالله ابن الداعي).

[طلبه للعلوم (ع)]
وكان في علم الكلام بحراً لا تقطعه الألواح، وخضماً لا يخوضه الملاّح، وكان شيخه الإمام الشيخ العالم بحر الكلام أبو عبدالله البصري تخرّج معه حتى بلغ في هذا الفن الغاية القصوى، وأدرك نهاية المنى، وله قطع فيه تدل على تبحره وتوسعه.
وعن الشيخ أبي عبدالله: كنت أملي بعض (الموجز) لابن أبي بشر الأشعري فكان عليه السلام يستملي ذلك بنفسه، ويكتبه مع سائر أصحابه، وكان يحتاج إلى أن يكتب في كل يوم نحو ثلاثين ورقة وأقل وأكثر ، فكنت أتأمله وهو يكتب ذلك وقد عرق من شدة الحر، وتعب تعباً شديداً، وهو شيخ إلى السمن ما هو.
فقلت: أيها السيد هذا يتعب نفسك فيما تكتبه أنت، ولا فضل فيه بين أن تكتبه أنت وبين أن يكتبه غيرك، فقال: أحب ألا أتأخر عن أصحابنا في الاستملاء كما لا أتأخر عنهم في الدرس.
[نكتة لطيفة]
قال السيد أبو طالب: كان يجري كلام في الإمامة والنص على أمير المؤمنين عليه السلام، فقال أبو عبدالله البصري: قول العباس له: امدد يدك أبايعك يدل على أنه لم يكن منصوصاً عليه؛ ألا ترى أنه ذكر في سبب إمامته البيعة دون النص.
فقال أبو عبدالله الداعي عليه السلام: قوله: امدد يدك أبايعك يدل على أنه كان منصوصاً عليه؛ ألا ترى أنه لم يستشر، ولم يقل يختارك جماعة منا ونتفق عليك ثم أبايعك.

وكان أبو عبدالله البصري يقول لأصحابه لا تتكلموا في مجلس الشريف أبي عبدالله في مسألة الإمامة، وفي مسألة سهم ذوي القربى، فإنه لا يحتمل ما يسمعه منكم في هاتين المسألتين، ويوحشه ذلك.
وقرأ فقه الحنفية على أبي الحسن الكرخي حتى بلغ فيه المبلغ الذي يضرب به المثل، وكان يجرب حفظه لفقه أبي حنيفة بأن يكتب له مسائل غامضة تنتخب له من الكتب؛ وكان يقترح على أصحابه ذلك فكان ينظر فيها ويكتب أجوبتها تحتها فلا يغلط في شيء من مذهب أبي حنيفة.
[من تأثيره (ع)]
قال السيد أبو طالب: ومن تأثيره العظيم في باب الدين أن الديلم كانوا يعتقدون أن من خالف القاسم عليه السلام في فتاويه فهو ضال، وكل قول يخالف قوله فهو ضلالة؛ والجيل يعتقدون مثل هذا في قول الناصر ، ولم يسمع هناك قبل دخوله إلى تلك الناحية أن كل واحد من القولين حق وصواب، وتكلم فيه وبيّنه وأظهره لهم.
وناظر قوماً منهم كانوا يعتقدون ذلك وكانوا معدودين من جملة الفقهاء، وهم بالديلم القاسمية، وقد كان منهم نفر يحفظون كثيراً من مسائل القاسم ويحيى عليهما السلام وإن لم يكونوا يتحققون بالنظر، ولا يعرفون طريقة، ولا يفهمون أكثر ما يورد عليهم فيما يتعلق بهذا الجنس.

فأما الجيل فما كان فيهم من ينتهي إلى هذا الحد أيضاً وإنما كانوا عوام مقلدة؛ إلا أنه كان فيهم تعصب شديد في هذا الباب، وكان بعضهم يفسق بعضاً في هذه المسألة وربما كفروا ، وكان يجري بين الطائفتين من النزاع والتضليل ما هو معروف؛ إِلاّ أن آخر الأمر اعتقد هذا القول من يرجع إلى ضرب من الدين من الطائفتين، وشاع ذلك واستمر.
واعتقاد الجماعة فيه عليه السلام أنه عالم متفق على علمه مع قدح كثير منهم أنه معتزلي مرة، وأنه حنفي أخرى، وظهر هذا الصلاح ببركته وبقي إلى يومنا هذا، وكان من أئمة الهدى، وقد تركنا الخوض في شيء من أخباره المتعلقة بالجهاد، وإنما أردنا الإشارة إلى علمه.
* * * * * * * * * *

[الإمام القاسم بن علي العياني (المنصور بالله)]
(310- 393هـ / 923- 1003م)
وقام بعده الإمام المنصور بالله القاسم بن علي العياني عليه السلام:
وكان إماماً فاضلاً عالماً عاملاً ورعاً زاهداً مجاهداً، وله سيرة كاملة فيها أخباره وآثاره، ومواقفه في الجهاد ومشاهده، وعلمه مشهور وفقهه مأثور، وله دعوة إلى أهل طبرستان فيها من الحكم والمواعظ ما يدل على علمه وفضله وبراعته وفصاحة منطقه وبلاغته.
[الإمام الحسين بن القاسم العياني (ع)]
(356- 404هـ / 967- 1014م)
ثم قام بعده ولده الإمام المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي بن عبدالله بن محمد بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام:

كان من عيون العترة في زمانه، وتيجانهم المكللة في أوانه؛ مشهور بالعلم والعبادة، معروف بالفضل والزهادة، وله عليه السلام التصانيف الرائقة في علم الكلام، والكتب الفائقة على مخالفي العترة عليهم السلام؛ وهي كثيرة قيل إنها إلى ثلاث وسبعين تصنيفاً.
منها: (المعجز) في علم الكلام، والرد على القضائية وغيره من كتبه في العلوم الكلامية، ومنها: تفسير كامل سلك فيه الطريقة الوسطى، وأضحى قدحه فيه المعلى؛ وهو من أوضح دليل على علمه وتوسعه في الفنون كلها.
وله في اللغة والعربية اليد البيضاء؛ وكتاب تفسيره يشهد له بما قلناه، ولم نذكره ولا أباه عليهما السلام في ترجمة الأئمة الذين عيّنا ذكرهم وقدمنا سطرهم وعبرنا عنهم بعد بقولنا، وأما الإمام فلان، وأما الإمام فلان؛ وذلك لأن (أمّا) موضوعة للتفصيل ما أجمله المتكلم.
فلما ذكرناهم في الترجمة المتقدمة على جهة الإجمال حسن منا أن نذكرهم بعد بقولنا: (أما فلان، وأما فلان)؛ ولم نذكر هذه العبارة في الإمام القاسم بن علي، وابنه الحسين بن القاسم بن علي عليهما السلام لعدم تقدم ذكرهما في الترجمة.
والوجه لعدم ذكرهما أنّا إنما ذكرنا من ذكره القاضي الإمام شمس الدين جعفر بن أحمد بن أبي يحيى –رضوان الله عليه-، ولم يذكر في السابقين من الأئمة إلا من ذكرناه، وأردت أن أذكر الأئمة إلى المنصور بالله تبركاً بذكرهم، وإشارة إلى فضلهم وعلمهم.

وبعد فإن معظم قصدي في هذا التأليف ذكر ما خُص به أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فضل الجهاد ومباينة الظالمين بالإشارة لا بالتفصيل، واختصاصهم بعد ذلك بالعلم الذي ورثوه عن أب فأب، واختصاصهم ثالثة بعداوة ملوك الدولتين الأموية والعباسية حين تنزهوا عما في أيديهم من حطام هذه الدنيا الدنية.
ونذكر تمام فضل الحسين بن القاسم: ذكر مصنف سيرته أنه توفي وله في العمر نيف وعشرون سنة؛ فانظر إلى هذا الفضل الباهر والعلم الزاخر مع العمر المتقاصر.
وكانت شجاعته معروفة، ومواقفه في الجهاد موصوفة؛ قام بالأمر بعد أبيه قياماً حسناً مرضياً، وملك من الهان إلى صعدة وصنعاء، ولم يزل باعثاً للحق وداعياً إلى الصدق.
وقد ضلّت فيه فرقة من الزيدية يسمون (بالحسينية) اعتقدوا فيه أنه حي لم يمت وأنه الإمام المهدي المنتظر، وكان على هذا الاعتقاد منهم خلق كثير فيهم فضلاء وأمراء، وطالت مدتهم من زمان الحسين بن القاسم إلى هذا الزمن الأخير.
وحكى لي حي الفقيه العلامة يحيى بن محمد العمراني رحمه الله أنه أدرك من يعتقد هذا الاعتقاد في جهات الحيمة أو أدرك من أدرك ذلك.

32 / 39
ع
En
A+
A-