وكان له مجلس للنظر، ومجلس لإملاء الحديث، وكان في نهاية الرفق واللين حتى عظم تأثيره في الدعاء إلى الله تعالى، وقد شهد بذلك ما روي أنه قال في بعض مقاماته وقد دخل آمل وازدحم عليه طبقات الرعيّة في مجلسه فقال : أيها الناس إني دخلت بلاد الديلم وهم مشركون يعبدون الحجر والشجر، ولا يعرفون خالقاً ولا يدينون ديناً؛ فلم أزل أدعوهم إلى الإسلام وأتلطف في العطف بهم حتى دخلوا فيه أرسالاً، وأقبلوا إلي إقبالاً ؛ فظهر لهم الحق وعرفوا التوحيد والعدل، فهدى الله لي منهم زهاء مائتي ألف رجل وامرأة ، فهم الآن يتكلّمون في التوحيد والعدل مستبصرين ، ويناظرون عليهما مجتهدين، ويدعون إليهما محتسبين، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويقيمون حدود الصلوات المكتوبات، والفرائض المفروضات.
حتى قال: وأنتم معاشر الرعية فليس عليكم دوني حجاب، ولا على بابي بوّاب، ولا على رأسي خلق من الزبانية ولا أجد من أعوان الظلمة؛ كبيركم أخي وشابكم ولدي، لا آنس إلا بأهل العلم منكم، ولا أستريح إلا إلى مفاوضتكم، فسلوني عن أمر دينكم وما يعنيكم من العلم وتفسير القرآن، فإنّا نحن تراجمته وأولى الخلق به، وهو الذي قرن بنا وقُرنا به، فقال أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني مخلّف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي)) .
وكتب إلى بعضهم فقال: (ولقد بلغك أعزك الله ما أدعو وأهدي إليه من الأمر بالمعروف الأكبر والنهي عن المنكر، إحياء لما أُمِيْتَ من كتاب الله، ودُفن من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن محضت آي التنزيل، عارفاً بها منها تفصيل وتوصيل، ومحكم ومتشابه، ووعد ووعيد، وقصص وأمثال، آخذاً باللغة العربية التي بمعرفتها يكون الكمال ، مستنبطاً للسنة من معادنها ، مستخرجاً للمتكمنات من مكامنها، منيراً لما أدلهم من ظلمها، معلناً لما كتم من مستورها).
وكان حسناً زاهداً، ورعاً عابداً، مقبلاً بالليل والنهار على طاعة الله وعبادته، وكان ذلك دأبه حتى توفاه الله إلى رضوانه وشريف جناته.
وروي أنه قال عليه السلام: (ليس لي شبر أرض ولا يكون لي إن شاء الله، ومهما رأيتموني أقتني ذلك فاعلموا أني قد خنتكم فيما دعوتكم إليه ) ، وله عليه السلام من هذا الباب شيء كثير أعرضنا عن ذكره، ومن شعره في ذلك: [الطويل]
أراني أهوال المعاد بصيرتي
وأيقنت أني بالذي قد كسبته
وأن وعيد الله حق ووعده
فأعلنت بالتوحيد والعدل قائلاً
وتصديق وعد الغيب رأي عيانِ
مدين فقلبي دائم الخفقانِ
فمن مُوْثَقٍ أو فائز بجنانِ
وأظهرت أحكام الهدى ببيانِ
وكان في شجاعته وبسالته وشدة بأسه ورباطة جأشه بمكان مكين، وكم له من مقام هائل فاز فيه بالشرف الطائل، وكان يرد بين الصفين متقلداً مصحفه وسيفه ويقول: قال أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي )) ، ثم يقول: هذا كتاب الله، وأنا عترة رسول الله؛ فمن أجاب إلى هذا وإلا فهذا.
ومن شعره في هذا المعنى وقد أحسن غاية الإحسان: [الرجز]
شيخ شرى مهجته بالجنة .... واستن ما كان أبوه سنَّهْ
ولم يزل علم الكتاب فَنَّهْ .... يجاهد الكفار والأظنَّهْ
بالمشرفيات وبالأسنَّة
وله عليه السلام أشعار كثيرة حسنة في الجهاد والحث عليه، وشعره وشعر الهادي عليه السلام أخوان وجنسان متقاربان، وكأنهما من عين واحدة يخرجان، وبماء واحد يمزجان.
[بحث في قيام إمامين]
وكان ظهور الناصر سنة سبع وثمانين ومائتي سنة بعد ظهور الهادي بسبع سنين، ولم يتعرض في الحدائق الوردية لذكر قيامهما عليهما السلام في وقت واحد، وأن ذلك كان من مذهبهما أو مذهب أحدهما، وقد قيل أن الناصر عليه السلام كان يذهب إلى جواز ذلك ، ولعله مذكور في كتبه ، والقصد هاهنا الإشارة إلى فضلهما وعلمهما، والناظر في سيرهما وأخبارهما يعرف حسن أحوالهما وآثارهما ، ولولا ملاحظة الاختصار لذكرنا من ذلك ما يكون روضة للأبصار، والاقتداء بهديهما وعلمهما حَسّنَ هذا في آل الحسين وهذا في بني الحسن، وقد أحسن من قال فيهما: [مجزوء الكامل]
عرّج على قبر بصعدة .... وابك مرموساً بآمل
واعلم بأن المقتدي بهما .... سيبلغ حيث يأمل
قال الحاكم رحمه الله في (كتاب تنزيه الأنبياء والأئمة) عليهم السلام وقد ذكر اعتراض من اعترض بقيامهما عليهما السلام في وقت واحد، فقال: كيف تقولون بإمامتهما ولا بد لكم من القول ببطلان إمامة أحدهما لأن عندكم لا يجوز إلا أن يكون إماماً واحداً.
والجواب: أن من الزيدية من يقول بإمامة اثنين إذا تباعدت ديارهم، وعند المحققين منهم لا يجوز، ويقولون أن الإمام كان الهادي إلى أن توفي، ثم صار الإمام الناصر، وكان الناصر يقر بإمامة الهادي.
* * * * * * * * * * * *
[الإمام محمد بن الهادي إلى الحق (المرتضى)]
(278- 310هـ / 892- 923م)
وأما الإمام المرتضى لدين الله محمد بن يحيى بن الحسين بن القاسم عليهم السلام: فإنه من عيون أئمة الهدى ومصابيح الدجى.
كما وصفه الفقيه العلامة حميد بن أحمد رضي الله عنه: (غصن من أغصان الخلافة الناضرة، وبذر من بذور العترة الطاهرة، ورضيع ثدي الإيمان، وزهر الفضل الذي ضحكت عنه الأفنان ، كريم الطرفين ، منتجب الأبوين، وَلِدَه القاسم عليه السلام مرتين؛ نشأ على طريقة التقوى واليقين، متحلياً بآداب الأئمة الهادين، سلام الله عليهم أجمعين، قد أدرك قصبات السبق في ميدان الفضل، وحلّق في جو الشرف والنبل، واعتلى قمم المجد العالية، ورتب الفخار السامية.
[تصانيفه عليه السلام]
وله العلوم الحسنة والتصانيف المستحسنة، وهي ظاهرة مشهورة في أصول الدين وفروع الفقه وعلوم القرآن فمنها: (كتاب الأصول) في التوحيد والعدل، و(كتاب النبوة)، و(كتاب الإرادة والمشيئة)، و(كتاب الإيضاح) في الفقه، و(كتاب النوازل)، وجواب (مسائل المعقلي)، وكتاب (مسائل مهدي) أربعة أجزاء، و(كتاب التوبة)، و(كتاب الرد على الروافض)، و(كتاب فضائل أمير المؤمنين عليه السلام)، و(كتاب الرد على القرامطة)، و(كتاب الشرح والبيان)، و(كتاب الرضاع)، و(كتاب مسائل القدميين)، و(كتاب مسائل الحائريين)، و(تفسير القرآن) تسعة أجزاء، و(كتاب الطبريين) خمسة أجزاء، و(كتاب مسائل الناصر)، و(كتاب مسائل البيوع) ثلاثة أجزاء، و(كتاب مسائل عبدالله بن سليمان)، و(كتاب مسائل المعقلي)، و(كتاب جواب ابن فضل القرمطي).
قال الإمام المنصور بالله: إلى غير ذلك من أجوبته وتصانيفه عليه السلام تركنا ذكرها خوف الإطالة وهي بحمد الله موجودة مشهورة؛ هذا كلام المنصور بالله في الشافي.
[زهده وأحواله عليه السلام]
فأما الزهد والورع فما لا يفتقر إلى برهان، وكيف لا يكون منه في أعلى طبقة وهو فرع خلافة قد بَسُقَ فخارها، وعلا منارها، وكانت له عليه السلام المقامات المحمودة والمواقف المشهودة بين يدي أبيه الهادي إلى الحق عليه السلام، وكان قطب رحى الحرب إذا دارت، ولله القائل: [السريع]
وكم مقام هائل قد قامه .... لو قامه الفيل لسار القهقرى
وله أشعار كثيرة يذكر فيها حاله وقتاله؛ وهي موجودة في كتاب سيرة أبيه الهادي عليه السلام، وكان أخذ أسيراً في بعض الحروب فأقام مدة في الاعتقال، وكتب إلى أبيه عليهما السلام هذه الأبيات يصبره عن فقده: [الوافر]
أمير المؤمنين تعزّ عني .... ولا تحفل ببعدي واغترابي
وهبني كنت في القتلى صريعاً .... بأطراف الأسنة والضرابِ
وقم لله مجتهداً مُجدّاً .... فمثلك لا يُعَلَّمُ بالصوابِ
وكيف وأنت أفضل من عليها .... وأبصر بالعلوم وبالكتابِ
ومن نظر في أحوال المرتضى عليه السلام وسعة علمه مع قصر عمره، فإنه بلغ في العمر اثنتين وثلاثين سنة، وتوفي أبوه عليه السلام وتقلد الأمر بعده مديدة يسيرة، واعتزل وتخلى للعبادة والعلم، وألقى الأمر إلى أخيه الناصر لدين الله أحمد بن يحيى عليهما السلام؛ فإذا نظرت في مدة عمر المرتضى، وما نشر فيها من العلوم الكثيرة والتصانيف الوسيعة والردود البديعة؛ لكانت حرية بأن يكون صاحبها عاش عمراً طويلاً ودهراً كثيراً.
هذا مع اشتغاله بالجهاد، ومباشرته في زمان والده عليه السلام للحروب، وحبسه مدة من الزمان، ومقاساته لأصناف نوائب الحدثان، واشتغاله أيام انتصابه للأمر بأحكام الإمامة وأحوال الرعية، وهذا من فضل الله الذي يخص به من يشاء؛ أن يبلغ في العلم ذلك المبلغ من مني بهذه الأشغال، وكان أجله من أقصر الآجال.
فإن ابن الثلاثين معدود من الشباب في أوانه، ومن اقتبال العمر في عنفوانه، وما بلغ هذا المبلغ إلا وقد أحرز العلوم، وحاز رتبة الاجتهاد، ومن نظر في هذا قضى عجبا، ولم يزل من ذلك متعجبا.
قال القاضي الإمام جعفر بن أحمد بن أبي يحيى [رضوان الله عليه] وقد ذكر المرتضى حتى قال: كان من الأوصاف الحميدة والطرائق الحسنة بحيث لا يخفى حاله، دعا بعد أبيه عليهما السلام ، وبويع له وصحت إمامته، ثم رأى قلة الأنصار وتخاذل الأعوان فلزم بيته واشتغل بنفسه، وتجلبب جلباب الزهد والعبادة، حتى مات بصعدة.
[خطبته عند اعتزاله (ع)]
وله عليه السلام خطبة حسنة عند قيامه بالأمر وبيعة الناس له، تشهد له بالإجادة في الخطابة، وله خطبة أخرى عند خروجه من الأمر تقضي له بالإصابة في الزهادة، قال في أثنائها: (ثم إنكم معاشر المسلمين أقبلتم إلي عند وفاة الهادي عليه السلام، وأردتموني على قبول بيعتكم؛ فامتنعت مما سألتموني ودافعت بالأمر، ولم أؤْيسكم من إجابتكم إلى ما طلبتم مني خوفاً من استيلاء القرمطي لعنه الله على بلادكم، وتعرضه للضعفاء والأيتام والأرامل منكم، فأجريت أموركم على ما كان الهادي عليه السلام يجريها، ولم أتلبس بشيء من دنياكم، ولم أتناول قليلاً ولا كثيراً من أموالكم؛ فلما أخزى الله القرمطي {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا(25)} [الأحزاب] .
تدبّرت أمري وأمركم، ونظرت فيما أتعرضه من أخلاقكم؛ فوجدت أموركم تجري على غير سننها، وألفيتكم تميلون إلى الباطل وتنفرون عن الحق، وتستخفون بأهل الصلاح والخير والدين والورع منكم ؛ لا تتناهون عن منكر تفعلونه، ولا تستحيون من قبيح تأتونه وذنب عظيم تركبونه، لا تتعظون بوعظ الواعظين، ولا تقبلون نصح الناصحين؛ بل تجرون في غيكم مسرعين، وعن أمر الله إلى نهيه عادلين، وعن من يأمركم بطاعة الله مزورين وعنه نافرين، وإلى أعداء الله وأعداء رسوله الجهال الفساق راكنين، وقد قال الحكيم العليم في محكم كتابه التنزيل : {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ(113)} [هود] .
فلما لم أجد فيكم من يعين الصادق المحق، ويأمر بالمعروف ويرغب في الجهاد، ويختار رضى الله عز وجل على رضى المخلوقين إلا القليل من القبيلة، واليسير من الجماعة، أنزلت هذه الدنيا من نفسي أخس المنازل ، وآثرت الآخرة الكريمة محالها ، الشريفة منازلها، العلية مراتبها؛ فأخترت الباقي الدائم على الفاني الزائل، وتمسكت بطاعة رب العالمين، وذلك من غير زهد مني في جهاد الظالمين، ومنابذة الفاسقين، ومباينة الجبارين مع علمي بما فرض الله جل وعز على عباده في وقته وأوانه.
وأيقنت مع الأحوال التي وصفتها، والموانع التي ذكرتها أن السلامة عند الله في الزهد في الدنيا، والاشتغال بعبادة رب العالمين، والاعتزال عن جميع المخلوقين؛ وذلك بعد رجوعي إلى كتاب الله عز وجل ، واشتغال خاطري بتدبر آياته ، وإعمال نظري وفكري في أوامره وزواجره، ومحكمه ومتشابهه، وخاصه وعامه، وأمره ونهيه، وناسخه ومنسوخه.
فوجدته يوجب التبري عليَّ من هذا الأمر إيجاباً محكماً، ويلزمني تركه إلزاماً قاطعاً، فاتبعت عند ذلك أمر الله تعالى ونزلت عند حكمه، ونظرت بقضائه؛ فإن يقم عليَّ الله بعد ذلك حجة، ووجدت على الحق أعواناً ، وفي الدين إخواناً، قمت بأمر الله طالباً لثوابه، حاكماً بكتابه، متقلداً لأمره، متبعاً سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، لا أفارقه ولا أعدل عنه حتى يعز الله الحق، ويبطل الباطل، أو ألحق بصالح سلفي الذين مضوا لله مطيعين، وبأمره قائمين.
وإن لم أجد على ذلك أعواناً صادقين، وإخواناً لأمر الله متبعين؛ لم أدخل بعد اليقين في الشبهة، ولم أتلبس بما ليس لي عند الله حجة، وكنت في ذلك كما قال الله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ(54)} [الذاريات] .