وروى لي الفقيه العلامة عماد الدين يحيى بن محمد العمراني رحمه الله أن عامر الزواحي كان من الباطنية وترأس في قومه، واشتدت وطأته في اليمن فملك صعدة وكان منه في بعض الأيام أنه قعد على قبر الهادي عليه السلام، فكان سبب وفاته أنها أصابته علة أذابت لها مجالسه فأكلتها الدود حتى هلك، وكان بعض الفضلاء بمكة فسأل عن سبب وفاته فأخبر بهذا؛ فشكر الله تعالى وخر له ساجداً.
[تواضعه وحسن سيرته]
وأما تواضعه وحسن سيرته فما لا يأتي عليه العد في كتابنا هذا.
روى السيد [أبو طالب] بإسناده عن أبي الحسين الهمذاني، وكان رجلاً فقيهاً على مذهب الشافعي يجمع بين العلم والتجارة، قال: قصدت اليمن في بعض الأوقات وحملت ما أتجر فيه إلى هناك ابتغاء لرؤية يحيى بن الحسين عليه السلام لما كان يتصل بي من آثاره وأخباره، فلما حصلت بصعدة قلت لمن لقيته من أهلها كيف أصل إليه ومتى أصل إليه وبمن أتوصل إليه؟
فقيل لي: الأمر أهون مما تقدره، تراه الساعة إذا دخلت الجامع بالناس فإنه يصلي بالناس الصلوات كلها، فانتظرته حتى خرج للصلاة فصلى بالناس وصليّت خلفه، فلما فرغ من صلاته تأملته فإذا قد مشى في المسجد إلى قوم مرضى في ناحية منه فعادهم وتفقد أحوالهم بنفسه، ثم مشى في السوق وأنا أتبعه فغيّر شيئاً أنكره، ووعظ قوماً وزجرهم عن بعض المناكير، ثم عاد إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه من داره للناس.

فتقدمت إليه وسلمت عليه فرحب وأجلسني؛ وسألني عن حالي ومقدمي فعرفته أني تاجر وأني وردت ذلك المكان تبركاً بالنظر إليه، وعرف أني من أهل العلم فأنس بي، وكان يكرمني إذا دخلت إليه إلى أن قيل لي في يوم من الأيام: إن غداً يوم المظالم وأنه يقعد فيه للنظر بين الناس.
فحظرت غداة هذا اليوم فشاهدت هيبة عظيمة ورأيت الأمراء والقواد والرجالة وقوفاً بين يديه على مراتبهم وهو ينظر في القصص ويسمع الظلامات، ويفصل الأمور، فكأني شاهدت رجلاً غير من كنت شاهدته، وبهرتني هيبته.
وادعى رجل على رجل حقاً وأنكره المدعى عليه وسأله البينة فأتى بها، وحلّف الشهود احتياطاً فعجبت من ذلك، فلما تفرق الناس دنوت منه فقلت: أيها الإمام رأيتك حلّفت الشهود فقال: هذا رأيي أنا أرى تحليف الشهود احتياطاً عند بعض التهمة وما تنكر من هذا، هذا قول طاووس من التابعين، وقد قال الله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة:107] ، قال: فاستفدت في تلك الحال منه مذهبه، وقول من قال به من التابعين والدلالة عليه، ولم أكن عرفت شيئاً منه قبل ذلك.

وأنفذ إلي يوماً من الأيام يقول: إن كان في مالك لله حق زكاة فأخرجه إلينا؛ فقلت: سمعاً وطاعة من لي بأن أخرج زكاتي إليه، وحسبتُ حسابي فإذا علي من الزكاة عشرة دنانير فأنفذتها إليه؛ فلما كان بعد يومين بعث إلي فاستدعي بي فإذا هو يوم العطاء قد جلس لذلك والمال يوزن ويخرج إلى الناس فقال: أحضرتك لتشهد إخراج زكاتك إلى المستحقين فقلت: الله الله أيها الإمام كأني ارتاب بشيء من فعلك؛ فتبسم وقال: ما ذهبت إلى ما ظننت، ولكني أردت أن تشهد إخراج زكاتك.
وقلت له يوماً من الأيام: رأيتك أيها الإمام أول ما رأيتك وأنت تطوف على المرضى في المسجد تعودهم وتمشي في السوق، فقال: هكذا كان آبائي يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وأنت إنما عهدت الجبابرة والظلمة.
وكانت له عليه السلام مواقف مشهورة في الجهاد وقد أعرضنا عن ذكرها؛ وإنما نذكر تواضعه ولطفه بالضعفاء والفقراء، ووضع أموال الله مواضعها ليزداد أهل اليقين بصيرة وطمأنينة في معرفة فضله.
وقال صاحب سيرته: كان شديد التفقد لأحوال المسلمين، حسن الإنصاف للمظلومين من الظالمين، قال: رأيته ليلة وقد جاء رجل ضعيف في السحر يستعدي على قوم فدق الباب، فقال: من هذا يدق الباب في هذا الوقت؟ فقال له رجل كان على الباب: هذا رجل يستعدي، فقال: أدخله فاستعدى، فوجه معه في ذلك الوقت ثلاثة رجال يحضرون معه خصماءه.

وقال لي: يا أبا جعفر الحمد لله الذي خصنا من نعمه، وجعلنا رحمة على خلقه، هذا رجل يستعدي في هذا الوقت، لو كان واحداً من هؤلاء الظلمة ما دنا إلى بابه في هذا الوقت مستعدي، ثم قال: ليس الإمام منا من احتجب عن الضعيف في وقت حاجة مُلِظّته.
وروى السيد [أبو طالب] عن بعضهم قال: سمعت علي بن العباس يقول: كنا عنده يوماً وقد حمي النهار وتعالى وهو يخفق رأسه، فقمنا، فقال: أدخل وأغفو غفوة، وخرجت لحاجتي وانصرفت سريعاً، وكان اجتيازي على الموضع الذي يجلس فيه للناس فإذا أنا به في ذلك الموضع، فقلت له في ذلك.
فقال: لم أجسر على أن أنام وقلت: عسى أن ينتاب الباب مظلوم فيؤاخذني الله بحقه، ووليت راجعاً كما دخلت.
وروى السيد [أبو طالب] –رحمة الله عليه- بإسناده عن علي بن العباس رحمه الله قال: دخلت على يحيى بن الحسين بُعَيْدَ سحر والشموع بين يديه، وقد تسلح لقتال القرامطة، وقد هجموا بجموعهم قضّهُم بقضيضهم فوجدته مفكراً مطرقاً.
فقلت: يظفرك الله بهم أيها الإمام ويكفيكهم فطال ما كفى.
فقال: لست أفكر فيهم، فإني أود أن لي يوماً كيوم زيد بن علي، ولكن بلغني عن فلان -وذكر بعض الطالبية- كذا وكذا من المنكر فغمني ذلك.
وكانت فضائله لا تحصى، ومحاسنه في هذا وغيره لا تستقصى.

فأما وقعاته في الباطنية فكان له معهم نيف وسبعون وقعة التي حضرها بنفسه، وكانت له ليلة تشبه (ليلة الهرير) لجده أمير المؤمنين في وادي المغمة قتل فيها بيده مائة قتيل، وقتل ولده المرتضى ما يدنو من ذلك.
وتوفي عليه السلام بصعدة لعشر باقية من شهر ذي الحجة آخر سنة ثمان وتسعين ومائتين، ومضى عن ثلاث وخمسين سنة، وكانت ولادته بالمدينة النبوية سنة خمس وأربعين، وكانت بيعته ودعوته سنة ثمانين ومائتين؛ وقبره عليه السلام بمسجده المشهور بصعدة حماها الله بخلال المشاهد المقدسة، وفيه يقول بعض الشعراء:
عرّج على قبر بصعدة .... وابك مرموساً بآمل
واعلم بأن المقتدي بهما .... سيبلغ حيث يأمل
[الإمام الحسن بن علي بن الحسن (الناصر الأطروش)]
(230- 304هـ / 845- 917م)
وأما الإمام الناصر للحق أبو محمد الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر الأشرف بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام: فهو الإمام العالم.

قال بعض الزيدية وقد سأله سائل وحرج عليه إلا ما أخبره عن العالم ومن يستحق هذا الاسم، فأطرق مفكراً ثم قال: العالم الناصر الكبير الحسن بن علي؛ لأنه أحاط بالعلوم كلها وقرأ من كتب الله عز وجل ستة عشر كتاباً منها التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وباقيها من الصحف، وكان يقول: (حفظت من كتب الله تعالى ثلاثة عشر كتاباً فما انتفعت منها كانتفاعي بكتابين: أحدهما: الفرقان لما فيه من التسلية لأبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- بما كابده السلف الصالحون من الأنبياء المتقدمين والرسل الطاهرين –صلوا ت الله عليهم أجمعين-، والثاني: كتاب دانيال لما فيه: أن الشيخ الأصم يخرج ببلد يقال لها ديلمان ويكابد من أصحابه وأعدائه جميعاً ما لا يقادر قدره، ولكن عاقبته محمودة).
وهذا يشهد بشرفه العظيم وفضله الجسيم حيث ذكره الله تعالى في كتاب دانيال صلى الله عليه وسلم وعلى سائر أنبيائه، ويحق له عليه السلام ذلك فإنه انتشر على يديه من الإسلام في تلك الجهات ما شهرته تغني عن ذكره، وقد قيل إن الذي أسلم على يديه مائتا ألف ألف، وقيل ألف ألف نسمة.
وروى أبو القاسم البستي أنه أسلم على يده في يوم واحد أربعة عشر ألف نسمة، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أسلم على يده رجل وجبت له الجنة)) .

فانظر إلى هذا الخير الكثير، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين –كرم الله وجهه-: ((يا علي لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس)) كيف تراه إذا هدى الله على يديه ألف ألف نسمة، هذا ما لا يمكن وصفه من الفضل العظيم والثواب الجسيم.
[الإمامان الهادي والناصر فرسا رهان]
نعم، نذكر جملاً من علم الناصر عليه السلام وفضله فإنه كان نظير الهادي عليه السلام، وهما في الفضل والعلم فرسا رهان، هذا عالم وهذا عالم، وهذا زاهد في الدنيا وهذا زاهد ، وهذا فاضل وهذا فاضل، وهذا فصيح شاعر بليغ وهذا مثله، وهذا فقيه بارع مصنف وهذا مثله، وهذا أحيا الله به أرض اليمن وطهرها عن الإلحاد وهذا أحيا الله به أرض الديلم والجيل وطهرها عن الإلحاد، وهذا جاء وصفه عن النبي الذي لا ينطق عن الهوى، وهذا جاء وصفه في كتاب دانيال النازل من السماء.
وهذا ورد فيه عن سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم حديث وهذا مثله، وهذا جاءت به عن جده أمير المؤمنين بشارة وهذا مثله، وهذا له أتباع وفقهاء وأصحاب علماء وهذا مثله، وهذا شجاع فارس لا تهوله الجنود وهذا مثله، وهذا كان يخوض الغمرات ويُجَدّل الكماة وهذا مثله ، وهذا في نهاية التواضع والرفق وسجاحة الأخلاق وهذا مثله، وهذا ولد بالمدينة النبوية وهذا مثله.

وعلى الجملة فإني تتبعت سيرة الهادي والناصر عليهما السلام وفضلهما، وما ذكره العلماء من علمهما وبراعتهما وزهدهما وعبادتهما وجهادهما وشجاعتهما وورعهما وديانتهما إلى غير ذلك من صفات الكمال ومحامد الخصال؛ فوجدتهما في ذلك كله على سواء ، وكالفرقدين في السماء، فلا أُفَضّلُ أحدهما على الآخر، ولا أجد بينهما فرقاً إلا أن هذا حسني وهذا حسيني فسلام الله عليهما.
[و]قد ذكرنا من علم الهادي وفضله ونبذ من أحواله طرفاً؛ فنذكر مثله من علم الناصر وفضله وأحواله.
[علمه وتصانيفه (ع)]
أما علمه عليه السلام فكان جامعاً للعلوم الدينية، وله فيها التصانيف الفائقة المرضية، منها (كتاب البساط) ومنها (كتاب في التفسير) احتج فيه بألف بيت من الشعر، ومنها (كتاب الحجج الواضحة بالدلائل الراجحة) في الإمامة على طريقة الزيدية؛ وفيه دلالة حسنة على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام.
ومنها: (كتاب الأمالي) في الأخبار ضمنه من فضائل العترة عليهم السلام كثيراً، ومنها (كتاب الإبانة) في فقه الناصر، ومنها (كتاب الألفاظ) للناصر عُلّقَ عنه، وعدة كتبه أربعة عشر كتاباً وكل ذلك معروف مشهور.
[الكتب المصنفة على مذهب الناصر]
وله عليه السلام فقه واسع، وقد صنف الإمام المؤيد بالله عليه السلام في فقه الناصر (كتاب الحاصر)، وصنف في فقه الهادي (التجريد) وشرحه، وصنف الإمام أبو طالب عليه السلام (كتاب الناظر) في فقه الناصر، وصنف في فقه الهادي (التحرير) وشرحه.

فاعجب إلى السيدين الأخوين عليهما السلام كيف نشرا فقه هذين الإمامين، وصنفا كلاهما في فقههما هذا نهاية الإنصاف، ودليل على اعترافهما بفضل الإمامين أي اعتراف.
فأما أبو طالب رحمه الله فكان من أتباع الهادي وأنصار مذهبه وإن صنف في فقه الناصر، فهو هدوي المذهب، وأما المؤيد بالله عليه السلام فسنذكره إن شاء الله تعالى، وما كان يذهب إليه في موضع ذكره من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.
ونرجع إلى وصف علم الناصر وكتبه المصنفة على مذهبه، من أنفسها وأحسنها الكتابان المشهوران للناصرية ؛ أحدهما (كتاب الإبانة ) مشروح بأربعة مجلدة كبار للشيخ العالم أبي جعفر محمد بن يعقوب الهوسمي رضي الله عنه، والكتاب الثاني (الموجز) لأبي القاسم البستي رحمه الله.
وجميع أهل الجيل من الزيدية على مذهب الناصر عليه السلام في الفروع، وكان جامعاً لفنون العلم من أصول الدين وفروعه ومعقوله ومسموعه، راوية للآثار، عارفاً للأخبار، ضارباً في علم الأدب بأقوى سبب.
ومن كتب فقهه الهادي الكتابان المشهوران (المسفر) و(المرشد) وغيرهما من كتب الناصرية مما لا يأتي عليه العد والحصر؛ فإن أهل الجيل والديلم أكثرهم ناصرية، وفيهم قاسمية ويحيوية ومؤيدية، وقد أخذوا بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أهل بيتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)) .

[فضله والآثار الواردة فيه (ع)]
وأما فضله: فكان عليه السلام كما قال فيه حي الفقيه حميد رحمه الله: كان جامعاً لخصال الكمال، فائزاً بمحاسن الخلال، قد تسنم ذروة الشرف العلية، وخيّم في عوالي رتب المجد السنيّة، وفيه ورد الأثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم برواية بعض علمائنا رحمهم الله ، لما سأله أنس عن علامات الساعة قال: ((من علاماتها خروج الشيخ الأصم من ولد أخي مع قوم شعورهم كشعور النساء بأيديهم المزاريق)) وهذه كانت صفته عليه السلام وصفة أصحابه.
وفيه ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: (يخرج من نحو الديلم من جبال طبرستان فتى صبيح الوجه يسمى باسم فرخ النبي الأكبر الحسن بن علي).
وفي الخبر: (لما أغرق الله تعالى الأرض لم يصب جبال الديلم الغرق فسألت الملائكة عليهم السلام ربهم عن ذلك فقال تعالى: إنه يخرج فيها رجل من ولد النبي الأمي).
[من كلامه عليه السلام]
وكان عليه السلام قد نشأ على طريقة سلفه الأكرمين وآبائه الطاهين جامعاً بين العلم والعمل، وبرز في فنون العلم حتى كان في كل واحد منها سابقاً لا يجارى، وفاضلاً لا يبارى.

30 / 39
ع
En
A+
A-