فإنه رضي الله عنه إنما جعله جزءاً من دينه وبعض مفترضاته، ليهدي به حائراً، أو يرد به عن البينات جائراً؛ سالكاً سبيل من أخذ الله ميثاقه، [لتبيينه للناس ولا تكتمونه]؛ فكان لا يكاد يتم ذلك الفصل حتى ينجم منتهكٌ لحرمات الله، أو جاحد لكتابه، يروم إطفاء نوره ودرس آياته، فيخلي ما هو فيه من ذلك صارفاً وجهه بل باذلاً مهجته دون دين الله أن يُبْتك، وعن حرماته أن تنتهك، ومع ذلك لا ينفك من سائل متفهم، أو باحث مسترشد، أو سائل متعنت.
ولقد حدثني من رحمه الله أنه شاهده في يوم من أيام حروبه بنجران وأن سائلاً يسأله من لدن أَمَرنا بإسراج فرسه، إلى أن استوى في متنه، إلى أن زحف إلى عدوه، وهو يجيبه، فلما ترآى الجمعان، وألح عليه ذلك الإنسان، أنشد هذه الأبيات من شعر الغروي: [الكامل]
ويل الشجي من الخلي فإنه
وترى الخلي قرير عين لاهياً
ويقول مالك لا تقول مقالتي
نَصِبُ الفؤاد بشجوه مغمومُ
وعلى الشجي كآبة وغمومُ
ولسان ذا طلق وذا مكظومُ
فيجيبه على المسألة بباب، ويفهمه ذلك بأوسع جواب، ليبالغ في هدايته، ويوسع في تعريفه، ثم يرسم ذلك الجواب في غير موضعه، ويقرن بغير فنه، ناسقاً ذلك على ما معه من الأصول المتقدمة في أول كتابه)، هذا كلام مرتب (الأحكام) وهو أبو الحسن علي بن الحسن بن أبي حريصة.

ومن تأمل كتاب الأحكام وما أودع فيه الهادي عليه السلام من الحجج البليغة، والدلائل النيرة، والروايات الوسيعة؛ وعلم أن تصنيفه له كما ذكر صاحب الترتيب أبو الحسن بن أبي حريصة كان في أوقات وهو في أكثرها حلس فرسه وضجيع سيفه؛ علم أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، إذ كان مثل هذا التصنيف الواسع والتأليف البديع لا يتأتى إلا مع خلو البال، والاشتغال به دون غيره من الأشغال.
وقد عرفت أنك إذا أردت تحرير دليل، أو إنشاء كلام إلى فاضل جليل، أو تحقيق كتابة مسألة بتبيين وتعليل؛ كيف تفتقر إلى أن يكون قلبك خالياً، وخاطرك سالياً، ورويتك مجتمعة، وفكرتك ملتمعة؛ فإن كدر عليك طروق حادث يسير بَلْبَلَ بالك، وأحال حالك، وشتت فكرك، وأدهش ذهنك، ولم تستطع أن تقيم في الأشياء كلمك، أو ترسل بالصواب قلمك، كيف بجامع كبير، وتصنيف كثير جمع مسائل الحلال والحرام وقرر فيه قواعد الأحكام ، وهو مع ذلك في أوقات الصدام، ومقارعة آساد الطغام، فبهذا يعرف فضله عليه السلام.

ومن كلامه عليه السلام: (لست بزنديق ولا دهري، ولا ممن يقول بالطبع ولا ثنوي ولا قدري ، ولا مجبر ، ولا حشوي ولا خارجي؛ وإلى الله أبرأ من كل رافض غوي، ومن كل حروري ناصبي، ومن كل معتزلي غال وجميع الفرق الشاذة، ونعوذ بالله من كل مقالة غالية، ولا بد من فرقة ناجية غالبة، وهذه الفرق كلها عندي حجتهم داحضة والحمد لله، وأنا متمسك بأهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومهبط الوحي ومعدن العلم، وأهل الذكر الذين بهم وُحِّد الرحمن ، وفي بيتهم نزل القرآن ، وبهديهم التأويل والبيان..) إلى كلام بسيط حذفناه، ثم نعود إلى ما كنا بصدده من تعداد الوجوه الدالة على علم الهادي عليه السلام.
ورابعها: أن الهادي ظهر بعد استقرار المذاهب وانتساب أهلها إلى أئمتها، وفي وقته عليه السلام زيدية وحنفية ، وشافعية ومالكية وغيرهم من الفرق الإسلامية؛ فانتشر مذهبه في آفاق الزيدية، وضرب بجرانه في بلاد أتباع العترة النبوية بالجيل والديلم ونواحيهما، واليمن والحجاز وما بينهما، وأُظهرت أقواله عليه السلام في هذه البلاد، وقيّض الله لمذهبه أنصاراً من أهل البيت وعلمائهم شيدوا أركانه، ورصوا بنيانه، ورجحوا برهانه، وأظهروا تبيانه، ومال إليه خلق كثير لا يتعارفون، وبشر جم لا يحصى عددهم الواصفون.

هذا، ومذهب زيد عليه السلام متقدم عليه، والأكثر من الزيدية مائل إليه، فالتزم أكثر الزيدية مذهب الهادي عليه السلام، واعتقدوا صحته من العلماء المجتهدين والأئمة الهادين، فرَّعُوا على نصوصه وشرحوها، وخرجوا أصوله وصححوها، وضبطوها وأتقنوها، وبينوها وبرهنوها، وصنفوا فيها التصانيف العجيبة الوسيعة، وجمعوا فيها الكتب الغريبة البديعة؛ من متقدم أحرز قصبات السبق وتولاها، ومتأخر كان ابن جلاها وطلاّع ثناياها.
فانتصر بهم مذهبه ، وطالت بعنايتهم عذبه ؛ وأهملوا مذهب الشافعي رحمه الله وهم أقبل لعلومه من أصحابه ، وتركوا مذهب أبي حنيفة وهم أعرف به من أربابه، ومالوا عن مذهب زيد بن علي وهو معهم مكشوف لا يتوارى ضياؤه، وبينهم معلوم لا ينستر بهاؤه، وعرجوا عن مذهب القاسم عليه السلام وهو في الحقيقة شيخ الهادي وأستاذه، وإليه يسند وهو في المهمات ملاذه.
فصار كلام الهادي عندهم أصلاً متبعاً، ومنهجاً مهيعاً، وطريقاً بادياً، وعلماً هادياً، ونوراً مضيئاً، وديناً مرضياً، وما ذاك إلا لخصيصي خصه الله بها وزاده عليهم بسطة فيها، ومن أنكر هذا فهو جاهل، لأن المنتصرين لمذهب الهادي عليه السلام خلق كثير لا يمكنهم التواطؤ على نصرته من باب الحمية، ولم يجمعهم مكان ولا زمان واحد فينظمهم التعاقد على التزامه خوفاً من أحد أو تقية، بل عرفوا من فضله ما جهله الجاهلون، وعلموا من قدره ما هُمْ به العلماء العاملون؛ فرضي الله عنهم وأرضاهم.

[نكتة لطيفة]
فائدة: إن قيل كل أهل مذهب يمكنهم مثل هذا؛ فيقول أصحاب الشافعي وجدنا فقهه أكثر وعلمه أغزر، وهكذا أصحاب أبي حنيفة.
فالجواب: أنا لا ننكر علم الفقهاء وأن كل مجتهد مصيب، وسنذكر إن شاء الله في هذا فصلاً في آخر الكتاب وإنما أردنا الإشارة إلى أن مذهب الهادي تأخر عن مذهب المتقدمين من أئمة العترة وفقهاء الأمة وقال به خلق عظيم وبشر كثير لا يمكن أن يقال فيهم أن ذلك من باب التواطي والحمية أو الخوف أو التقية بل ذلك لما عرفوا من الحق ورجحوا من العلم.
ويصير ذلك بمنزلة صاغة مهرة في صنعة الحلية تقدم منهم جماعة وتأخر واحد فعرضت صنعتهم على صاغة تأخروا عن الجميع ففضلوا صنعة المتأخر عن جملة الصاغة المتقدمين، وأخذوا يتعلمون من صنعته ، ويقتدون في علمهم ببراعة صياغته.
فإنك تعرف يا هذا إن كنت ممن يعرف أن ذلك منهم إنما كان لمعرفتهم بجودة صنعة هذا الصانع الماهر ، وصيغة هذا الصايغ الظاهر ؛ لولا ذلك لما عكفوا على صنعته، وبالغوا في التعلم من حكمته؛ هذا تقريب في ضرب المثل وإلا فالرجوع إلى مذهب الهادي أعلى وأجل.

[ورعه وزهده وعبادته]
ونذكر جملة من ورعه عليه السلام وإشارة إلى فضله وعبادته وزهده وتواضعه؛ فكلها دلائل على كماله وشرف خصاله.
أما ورعه عليه السلام: فقال الفقيه الإمام حميد رحمه الله تعالى: كان عليه السلام في الورع والزهد والعبادة إلى حد تقصر العبارة عنه، والفهم عن الإحاطة به، وظهور ذلك يغني عن تكلف شأنه، إلا أنا نحكي قليلاً من كثير مما يثلج قلوب ذوي الإيمان العارفين بحق العترة عليهم السلام.
روى مصنف سيرته عمن سمعه يقول: (والله الذي لا إله إلا هو ما أكلت مما جبيت من اليمن شيئاً ولا شربت منه الماء) وروي عمن سمعه عليه السلام يقول : (ما أنفق إلا من شيء جئت به معي من الحجاز)، وهذا ورع شحيح، لأنه عليه السلام عف عن الحلال، إذ كان يجوز له أن يتناول من الجزية وأخماس المغانم وسوى ذلك من كثير من الأمور المباحة لمثله في الشرع النبوي عظمه الله. هذا كلام حميد رضي الله عنه.
وأقول: لو قال قائل بأن الهادي عليه السلام في هذا لم يسبقه إليه أحد من الأئمة والخلفاء لكان صادقاً ؛ هؤلاء الخلفاء من الصحابة هم قدوة المسلمين وعظماء أهل الدين، كانت لهم أرزاق فرضوها لأنفسهم في مال الله مما يسوغه الشرع النبوي زادهم الله شرفاً، وأعظمهم مرتبة في ورعه ، وأشرفهم عند الله مزية في فضله؛ كان يأخذ من مال الله على زهده ما تمس إليه الحاجة، وينسد به فاقته، وعمر رضي الله عنه على تقشفه، وأبو بكر رضي الله عنه على زهده كانا يأخذان من مال الله ما يبيحه الشرع الشريف من دون إفراط ولا إسراف.

ومن كلام عمر رضي الله عنه: أنزلت نفسي في مال الله بمنزلة ولي اليتيم إن استغنى تركه، وإن افتقر أكل بالمعروف.
والهادي عليه السلام أنزل نفسه في مال الله بمنزلة الأمين على الوديعة يحفظها حتى يسلمها إلى أهلها بأمانتها غير مقترض منها ، ولا آخذ لها؛ فهذا ورع لم يبلغ أحد من الخلفاء إلى غايته، ولم يصل أحد من الأئمة إلى نهايته.
وقد ذكر الفقيه حميد رحمه الله في ورع الهادي عليه السلام أشياء كثيرة، من جملتها أن بعض العلويين طلب منه قرطاساً يكتب فيه، فقال للرسول: القرطاس لا يحل له، فدفع إلى الغلام ورقة قطن.
وروي أن الهادي عليه السلام قال لغلامه عبيدالله بن حذيف: اشتر لي تبناً أعلفه دوابي، فقال له: ليس نجد إلا تبن الأعشار، فقال عليه السلام: لا تشتر لنا منه شيئاً وأنت تقدر على غيره ، قال عبيدالله بن حذيف : فلم أجد غيره فأمرت بعض الغلمان الذي يقوم على الخيل فأخذ منه كيلاً معروفاً حتى نشتري ونرد مثل ما أخذنا، فعلم الهادي عليه السلام فوجه إلى عبيدالله فكلمه بكلام غليظ، وقال له عبيدالله: إنا أخذنا كيلاً منه معروفاً حتى نرد مكانه.
فقال عليه السلام: لست أريد منه شيئاً، ما لنا وللعُشر خذوا هذا التبن فاعزلوه حتى يعلفه من يحل له، ولم يعلف منه خيله تلك الليلة شيئاً، وأمر أن يطرح للخيل قَضْب؛ ثم قال: اللهم إني أشهدك أني قد أخرجت هذا من عنقي وجعلته في أعناقهم.

وروى مصنّف سيرته أنه عليه السلام صاح بغلام له، فسأله عن خرقه فقال له الغلام: قد رفعتها، فقال: أخرجها إليَّ فأخرجها من بين ثيابه عليه السلام، فلما أخرجها قال للغلام: ويلك أنت قليل دين، ليس لك دين تضع خرقة من الأعشار بين ثيابي!.
ودخل يوماً وقد تطهر للصلاة فأخذ خرقة فمسح بها وجهه ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون هذه الخرقة من العشر، فذكرت له ذلك فقال: ما يحل لنا أن نمسح به وجوهنا ولا نستظل به من الشمس.
وذكر الفقيه العلامة حميد رحمه الله أشياء من ورعه تركناها اختصاراً، وكان عليه السلام صواماً قواماً يصوم أكثر أيامه، ويحيي أكثر لياليه تهجداً وصلاة.
روينا عن السيد أبي طالب عليه السلام عن سليم؛ وكان يلي خدمة الهادي عليه السلام في داره فقال: كنت أتبعه حتى يأخذ الناس فرشهم في أكثر لياليه بالمصابيح إلى بيت صغير في الدار كان يأوي إليه، فإذا دخله صرفني فأنصرف؛ فهجس ليلة بقلبي أن أحتبس وأبيت على باب البيت أنظر ما يصنع.
قال: فسهر عليه السلام الليل أجمع ركوعاً وسجوداً، وكنت أسمع وقع دمعه عليه السلام ونشيجه في حلقه، فلما كان الصبح قمت فسمع حسي فقال: من هذا، فقلت: أنا سليم، فقال: ما عجل بك [في] غير حينك، فقلت: ما برحت البارحة جعلت فداك؛ قال: فرأيته اشتدّ عليه ذلك وحرج علي ألا أحدث به في حياته أحداً؛ قال: فما حدثنا به سليم إلا بعد وفاة الهادي عليه السلام أيام المرتضى.

وكان عليه السلام إذا التقت الأبطال، وتداعت نزال؛ ألفيته القطب الذي يدور عليه رحى القتال، يحطم الوشيج في النحور، ويثلم الهندي به المشهور، وكم له عليه السلام من يوم أغرّ، عاود فيه الكرّ واستحيا من الفرّ، إذا حمي الوطيس كان أمام جنوده، يقعص كبش الكتيبة، ويشاهد له كل حملة في الأعداء عجيبة، ولقد صدق عليه السلام حيث قال: [الطويل]
أنا ابن رسول الله وابن وصيه
وقدماً ليوث الحرب فاقدت بينها
ومن ليس يحصى فضله ووقائعهْ
بطعنٍ وضرب ما تغب وعاوعهْ
وكان عليه السلام يضرب ضربات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
وفي الرواية أنه ضرب رجلاً على باب ميناس فحذف السيف من بين رجليه، فلما نظر إليه ابن حُمَيّد قال: استروا ضربة هذا العلوي فوالله لئن رأها الناس لا تناصروا.
وفيه يقول الشاعر ابن أبي البلس الخيواني: [الكامل]
لو كان سيفك قبل سجدة آدم .... قد كان جرد ما عصى إبليسُ
وله في هذا الباب ما لا يسعه هذا الكتاب.

[كراماته عليه السلام]
وكانت له عليه السلام آيات وكرامات تكشف عن علو منزلته عند الله تعالى فمن ذلك:
ما رواه مصنف سيرته عن بعضهم قال: كان لي ابن صغير لم يتكلم فطلبت الدواء له بكل حيلة فأعياني، فعزمت على حمله معي إلى مكة، وكنت على ذلك حتى أتاني كتاب الهادي عليه السلام فأخذنا خاتمه فوضعناه في ماء وسقيناه الصبي فأفصح بالكلام؛ فحدث بذلك الناس وشاهدوا الغلام وهو يتكلم، وشاهده بعضهم وهو لا يتكلم.
وروى بعضهم، قال: سمعت رجلاً يقع في الهادي عليه السلام وينتقصه فما مكث إلا أياماً حتى أخذه بلاء فانقطعت رجله قبل أن يموت ثم مات بعد ذلك.
وتكلّمت امرأة في الهادي بكلام سوء فقامت سحراً فأخذتها النار فاحترقت.
وأتي بصبي في نجران قد ذهب بصره من الجدري فَأَمرَّ يده المباركة على بصره ودعا له فأبصر.
وروي أنه كان في يوم شديد الحر يسير في أرض لا ظلال فيها كثيرة السموم؛ فأنشأ الله سبحانه سحابة حتى ركدت فوق رأس الهادي عليه السلام وجميع أصحابه، وأظلهم الله بها في ذلك اليوم، قال الراوي: فوالله ما زالت تلك السحابة مظلة له حتى راح، وكانت السماء مصحية ما فيها سحابة غيرها، وإن الناس ليتعجبون مما رأوا.
وروي أن رجلاً كان يرمي أصحاب الهادي عليه السلام في يوم ميناس فدعا عليه الهادي أن يقطع الله أصابعه، فتناصلت أصابعه إلى الرسغين ومات مما نزل به.
هذه روايات الفقيه حسام الدين -رحمة الله عليه-.

29 / 39
ع
En
A+
A-