قال الفقيه حسام الدين: ونال في العلم منالاً لم يعلم أن أحداً من المشهورين أدركه في وقت إدراكه، روى السيد [أبو طالب] بإسناده عن المرتضى محمد بن الهادي عليهما السلام ، قال : (إن يحيى بن الحسين بلغ من العلم مبلغاً يحتار عنده ويضيق وله سبع عشرة سنة) وهذا من عجائب الروايات التي تضمنت خرق العادات، ولا عجب فيمن كانت أعراقه تنتمي إلى الذروة العالية النبوية أن يبلغ هذا الكمال، ويفوز بمحاسن الخلال، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((اللهم اجعل الفقه والعلم في عقبي وعقب عقبي، وفي زرعي وزرع زرعي)) .
فتناوله هذا الدعاء الشريف الموثوق بإجابته، فارتوى من سلسال العلم المعين، وتفيأ في ظلال اليقين، حتى تفجر العلم من جوانبه، ونطق من الحكم بغرائبه، وصنف التصانيف الفائقة، والكتب البديعة الرائقة ، نحو (كتاب الأحكام) وهو مجلدان في الفقه ، مضمناً من تفصيل الأدلة من الآثار والسنن النبوية والأقيسة القوية؛ ما يشهد له بالنظر الصائب والفكر الثاقب، وحسن المعرفة. انتهى كلام الفقيه حميد رحمه الله.
وسمعت من شيخنا وسيدنا العلامة فخر الدين عبدالله بن حسن الدواري قدس الله روحه أن الأحكام والمنتخب يسميان (الجامعين) وإنما سميا بهذا الاسم لأن الهادي جمع فيهما أبواب الفقه، ورتبها وبوبها.
وهما أول ما صنف في علم أهل البيت عليهم السلام على هذه الصفة في الترتيب والتبويب، وجمع المسائل بالتقريب والتهذيب؛ فجمعا من فقه العترة ما لم يجمعه قبلهما تصنيف، وتضمنا من علومهم ما لم يتضمنه قبل تأليفهما تأليف؛ فلهذا سميا الجامعين.
قال الفقيه حسام الدين حميد [ رضي الله عنه]: ومنها (كتاب المنتخب) في الفقه أيضاً وهو من جلائل الكتب، وفيه فقه واسع وعلم رائق.
قلت: وسمعت عن شيخنا وسيدنا العلامة فخر الدين قدس الله روحه أن المنتخب أول ما صنف الهادي عليه السلام، وهو حدث السنين دون العشرين.
قال الفقيه حسام الدين [رحمه الله]: ومنها (كتاب الفنون) في الفقه مهذب ملخص، و(كتاب المسائل)، و(كتاب مسائل محمد بن سعيد)، و(كتاب الرضاع)، و(كتاب المزارعة)، و(كتاب أمهات الأولاد)، و(كتاب الولاء)، و(كتاب القياس).
ومنها في التوحيد كتب جليلة القدر نحو (كتاب التوحيد)، و(كتاب المسترشد)، و(كتاب الرد على أهل الزيغ)، و(كتاب الإرادة والمشيئة)، و(كتاب الرد على ابن الحنفية في الكلام على الجبرية) وفيه من الأدلة القاطعة، والإلزامات النافعة، ما يقضي بأنه السابق في الميدان، المبرز على الأقران، وكتاب (بوار القرامطة)، و(كتاب أصول الدين) و(كتاب الإمامة وإثبات النبوة والوصية)، و(كتاب الرد على الإمامية)، و(كتاب البالغ المدرك) وهو قطعة لطيفة فيها كلام كأنه الروض ملاحة ونظارة، والسحر دقة ولطافة، وقد شرحه السيد أبو طالب عليه السلام .
ومنها: كتاب (المنزلة بين المنزلتين)، ومنها (كتاب الجملة)، و(كتاب الديانة)، و(كتاب الخشية)، و(كتاب تفسير خطايا الأنبياء)، و(كتاب الرد على ابن جرير)، وكتاب تفسير ستة أجزاء، و(معاني القرآن) تسعة أجزاء ، و(كتاب الفوائد) جزءان، وكتب سوى ذلك كثيرة نحو عشرين كتاباً تركناها وهي ظاهرة مشهورة، قد شُحنت من محاسن العلم ودرر الفهم ما يشهد بأنه عليه السلام القمر الباهر، والبحر الزاخر.
وله الحكايات العجيبة في هذا المعنى الذي يتجلى فيها، ويظهر خضوع المخالف وتسليمه، وهي كثيرة ظاهرة، وإنما نذكر منها اليسير، فإن القليل يدل على الكثير، وضوء البارق يشير بالنوء المطير، وهل تفتقر الشمس إلى برهان، وإنما التفصيل يثمر الجلالة والعرفان.
روى السيد أبو طالب، عن علي بن العباس الحسني أنه سمع أبا بكر بن أيوب عالم الري يقول حين ورد عليه باليمن: قد ظل فكري في هذا الرجل يحيى بن الحسين، فإني كنت لا أعترف لأحد بمثل حفظي لأصول أصحابنا وأنا الآن إلى جنبه جذع؛ بينا أنا أجاريه في الفقه فأحكي عن أصحابنا قولاً؛ إذ يقول ليس هذا يا أبا بكر قولكم، فأرادُّه فيخرج إلى المسألة من كتبنا على ما حكى وادعى، فقد صرت إذا إدعى شيئاً عنا أو عن غيرنا لا أطلب معه أثراً.
قال أبو طالب رضي الله عنه: وحدثني رحمه الله بحكاية قال في آخرها: كنا عند علي بن موسى القمي، فذكر له خروج علوي باليمن يدعي الإمامة فقال: أحسني أم حسيني؟ فقيل: بل حسني، ويقال أن له دون أربعين سنة.
فقال: هو ذاك الفتى مرتين.
فقلنا: من هو؟
فقال: كنا في مجلس أبي خازم القاضي يوم جمعة، فدخل شاب له رواء ومنظر، فأخذته العيون فمكنوه، فجلس في غمار الناس، فما جرت مسألة إلا خاض فيها، وذكر ما يختار منها، ويحتج ويناظر، فجعلوا يعتذرون إليه من التقصير؛ ثم أسرع النهوض فقيل لأبي خازم: هذا رجل من أهل الشرف من ولد الحسن بن علي.
فقال الناس: قد علمنا إنما خالط قلوبنا من هيبته لمنزلته، فاجتهدنا أن نعرف مكانه، وسألنا عنه فلم نقدر عليه.
فلما كانت الجمعة الثانية اجتمع الناس وكثروا شوقاً إلى كلامه، ورجاء أن يعاودهم فلم يحضر، فعرفنا حاله، فإذا ذلك لخوف داخله من السلطان، فكان أبو خازم يقول: إن يكن في هؤلاء أحد يكون منه أمر فهذا؛ ثم عاودنا علي بن موسى فقال: ألم أقل إن العلوي هو ذاك الفتى، قد استعلمتُ فإذا هو ذاك بعينه.
وروى السيد أبو طالب عليه السلام عن بعضهم أنهم كانوا مع الناصر رضي الله عنه بالجيل قبل خروجه، فنُعِيَ إليه يحيى بن الحسين فبكى بنحيب ونشيج، وقال: (اليوم انهد ركن الإسلام).
فقلت: ترى أنهما تلاقيا لما قدم يحيى بن الحسين عليه السلام طبرستان، قال: لا.
وروى عليه السلام أيضاً بإسناده عن بعضهم قال: حضرنا إملاء الناصر للحق عليه السلام الحسن بن علي في مصلى آمل، فجرى ذكر يحيى بن الحسين عليه السلام فقال بعض أهل الري وأكثر ظني أنه أبو عبدالله محمد بن عمرو الفقيه: كان والله فقيهاً؛ قال: فضحك الناصر، وقال: (ذاك والله من أئمة الهدى).
وذكر الإمام المنصور بالله عليه السلام تصانيف الهادي إلى الحق عليه السلام في (كتاب الشافي) فزاد على ما ذكره الفقيه حسام الدين رضي الله عنه، ونحن نوردها من حكاية الإمام المنصور بالله عليه السلام، وإن كان في ذلك شيء من التكرار ففيه مزيد فائدة، وبيان ما لم يذكره حميد رضي الله عنه.
قال الإمام المنصور بالله عليه السلام: تصانيف الهادي عليه السلام: كتاب (الأحكام)، وكتاب (المنتخب)، وكتاب (الفنون)، وكتاب (المسائل)، و(مسائل محمد بن سعيد)، وكتاب (التوحيد)، و(كتاب القياس)، و(كتاب المسترشد)، و(كتاب الرد على أهل الزيغ)، وكتاب (الإرادة والمشيئة)، و(كتاب الرضاع)، و(كتاب المزارعة)، وكتاب (أمهات الأولاد)، و(كتاب العمدة)، وكتاب (تفسير القرآن) ستة أجزاء، و(كتاب الفوائد) جزاءن، و(كتاب مسائل الرازي) جزءان ، و(كتاب السنة)، و(كتاب الرد على ابن الحنفية)، وكتاب (تفسير خطايا الأنبياء)، و(كتاب أبناء الدنيا)، و(كتاب الولاء)، و(كتاب الحسين بن عبدالله)، و(كتاب جواب القمي)، و(كتاب مسائل ابن سعد)، و(كتاب جواب مسائل نصارى نجران)، هذه ستة كتب لم يذكرها الفقيه حميد رحمه الله.
وكتاب (بوار القرامطة)، و(كتاب أصول الدين)، وكتاب (الإمامة وإثبات النبوة والوصية)، وكتاب (الرد على أهل صنعاء) ، و(كتاب مسائل أبي الحسين)، وكتاب (الرد على الإمامية)، و(كتاب الرد على سليمان بن جرير)، وكتاب (البالغ المدرك)، وكتاب (المنزلة بين المنزلتين).
قال الإمام المنصور بالله عليه السلام: وتركنا قدر ثلاثة عشر كتاباً لم نذكرها كراهة التطويل، وهي عندنا معروفة موجودة، وأول تصانيفه صنفها وله سبع عشرة سنة، هذا كلام المنصور بالله عليه السلام.
[وجوه فضله وعلمه (ع)]
اعلم أن لباب هذا الكتاب ومقصودنا منه الإشارة إلى فضل أئمة العترة النبوية، وكثرة علومها على كثرة أعدائها، وإخافة الدولة الظالمة لها، والعلم محله القلب وهو ثمرة الفكر الخالص من الشوائب، فأما من مُنِيَ من أهل عصره بأنواع المصائب وفنون النوائب، وكان في غالب أحواله متوقعاً للموت الأحمر، ومستوراً في أكثر أوقاته لا يظهر؛ فكثير منه قليل العلم.
ومن تفكر في أهل البيت عليهم السلام وجدهم قد جمعوا بين العلم والعمل على أبلغ ما يكون من خوف سلاطين الدول ، وهذا يشبه أن يكون تصديقاً لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((اللهم اجعل العلم والفقه في عقبي وعقب عقبي، وفي زرعي وزرع زرعي)) وما شابه هذا من الأخبار النبوية والآثار المصطفوية.
نعم، ولما كان الهادي إمام أئمة الزيدية، والشمس المنيرة في سماء الملة المحمدية؛ أردنا أن نبين فضله وعلمه، ويدل على ذلك وجوه نذكرها ونشير إليها.
أولها: ما قدمناه من الأحاديث المروية عن النبي والوصي صلى الله على رسوله وعلى وصيّه وآلهما فإنها بصريحها دالة على فضله وعلمه، وهي وإن لم تكن متواترة فإنها مفيدة لقوة الظن وغلبته، لأن من رُوي فيه حديث نبوي أفضل ممن لم يرو فيه شيء أصلاً.
وثانيها: ما ذكرناه من كثرة تصانيفه وعلو منزلته في العلم وتفننه في علوم تأليفه؛ فإنها كما عرفت متنوّعة في علوم شتى من الفقه والحديث والتفسير والتأويل وأصول الدين، والردود المختلفة الوجوه على جميع المخالفين، وأهل الزيغ من الملحدين؛ وهذه صفة العالم المتمكن من العلم..
وثالثها: ظهور هذه التصانيف مع عوارض أدناها شغل القلب عن تحرير مسألة، وبيان مشكلة، وتلك العوارض على ضربين:
منها: ما كان من خوف السلطان فإن الدولة العباسية كانت قد طبقت الآفاق، وملأت الأرض من الشام وتخومه إلى أرياف العراق، وكان منشأ الهادي عليه السلام بالحجاز ، وقراءته وعلمه على أهله ، وأكابر شيوخ آبائه، وأكثر روايته عن أبيه عن جده، وكان لقب أبيه (الحافظ).
وقد ذكرنا أن القاسم عليه السلام هذب أولاده وعلمهم الفقه؛ وأنهم كانوا أحد عشر رجلاً كل واحد منهم يصلح للإمامة، ذكر ذلك القاضي الإمام شمس الدين جعفر بن أحمد بن يحيى عالم الشيعة ومحيي قطر اليمن بعلم العترة.
واختص الحسين بن القاسم من بين أخوته بهذا اللقب الشريف؛ فدل على أنه حافظ العلم عن أبيه القاسم عليهم السلام.
رجع الحديث إلى بيان العوارض العارضة للهادي عليه السلام، قد ذكرنا ما سنَّه العباسيون من إخافة الطالبيين، وأنَّ كل من فاق منهم النُظرا، وسمعوا له في الفضل خبراً، وكان بالعلم والصلاح مشتهراً، قصدوه بالمكايد، وبثوا لطلبه العيون، وسددوا لمقاتله سهام المنون، هذه سجيتهم.
فلما نشأ الهادي عليه السلام كان يكتم نفسه، ويطوف في الحجاز وهو يطامن شخصه، وقد ذكرنا أنه حين دخل (الري)، وحضر مجلس النظر في مقام أبي خازم القاضي، وأنه جلس في غمار الناس فما جرت مسألة إلا خاض فيها، وذكر ما يختاره منها، ويحتج ويناظر ؛ فلما كان الجمعة الثانية انتظره الناس فلم يحضر ، فبحثوا عنه فإذا به خاف من السلطان فلم يستطع الظهور، وكان في زمن (الملقب بالموفق) من خلفاء بني العباس، فكان خوفه منه شديداً، وحذره منه عتيداً، ومن بلي بمثل هذا وكان أعلم العلماء لم يظهر من علم مخزونه، ولم يبرز منه مكنونه؛ يعرف هذا المنصفون وينكره المتعسفون.
الضرب الثاني من العوارض: اشتغال الهادي عليه السلام بالجهاد فإنه بعد انتصابه للإمامة وقيامه بأعباء الزعامة اشتغل بقتال الفرق الكفرية، وجهاد الطوائف الغوية، ولا يعرف ذلك إلا من طالع سيرته المرضية وعلم أحواله الزكية.
فإنه أقام في اليمن لجهاد أعداء الله تعالى قدر عشرين سنة ينقص قليلاً؛ قرر فيها قواعد الدين، ونشر العدل في المسلمين، ومد جناح الرأفة على العالمين، وسار السيرة العادلة المرضية على موافقة السنة النبوية، والشريعة الحنيفية، واستولى على اليمن وبعث عماله إلى عدن، ودوخ الملوك الجبابرة، وطرد جند بني العباس من اليمن ومخاليفه وصنعاء وتهامة، ودانت له البلاد، وخضعت من سطوته أوتاد أهل الغي والعناد، وطهر اليمن بحذافيره من درن الكفر والإلحاد، وغسله من أدران الزيغ والفساد؛ ودون هذا يشغل الفكرة السوية، ويكدر الصافي من الروية.
وروى مرتب (كتاب الأحكام) عن الهادي عليه السلام: (ولقد سألني غير واحد ما باله لم ينظمه نسقاً واحداً، ويتبع كل فن منه فناً؟ فأجبته بأن أمره رضي الله عنه كان أشهر وأدل أن يغبى عذره في ذلك، إذ كان حلس فرسه، وضجيع سيفه ليلاً ونهاراً في إحياء دين الله، وإنفاذ أمر الله جاهداً مجتهداً، لا يكاد يؤويه دار ولا يلزمه قرار، وكلما وجد فيقه أو اغتنم في أيامه فرصة، أثبت الفصل من كتابه، ورسم الباب من أبوابه، إذ كان إنما ألفه خشية كالذي ذكر في الفصل الذي يقول فيه: (فنظرنا في أمورنا وأمور من نخلفه من بعدنا).