وكان له عليه السلام أصحاب أخذوا عنه العلم، وأولاده النجباء كان له عليه السلام إحدى عشر ولداً كل واحد منهم يصلح للإمامة اشتغل عليه السلام بتهذيبهم وتعليمهم وتفقيههم.
ومن الفقهاء: محمد بن منصور المرادي، ومنهم محمد بن موسى الخوارزمي، وعلي بن جهشيار، وأبو عبدالله أحمد بن محمد بن سلام الكوفي، وجعفر بن محمد النيروسي، وهو من المكثرين في الرواية عنه.
ومن أهل البيت عليهم السلام: الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليهم السلام، ويحيى بن الحسن بن جعفر بن عبدالله صاحب كتاب الأنساب وله إليه مسائل، ومنهم عبدالله بن يحيى القومسي العلوي الذي أكثر الناصر للحق عليه السلام الرواية عنه.
[دعوته وقيامه (ع)]
دعا إلى الله تعالى لما استشهد أخوه الإمام محمد بن إبراهيم عليهما السلام، وكان القاسم عليه السلام بمصر داعياً له فحين جاء نعي أخيه دعا إلى نفسه، وبث الدعاة وهو في حال الاستتار فأجابه عَالَم من الناس من بلدان مختلفة، وجاءته بيعة أهل (مكة) و(المدينة)، و(أهل الكوفة)، و(الري)، و(قزوين)، و(طبرستان)، و(تخوم الديلم).
وكاتبه أهل العدل من البصرة والأهواز وحثوه على الظهور وإظهار الدعوة، وأقام بمصر نحو عشر سنين واشتد له الطلب من أرباب الدولة العباسية، ولم يزل مثابراً على الدعوة، وصابراً على التغرب والتردد في النواحي والبلدان، متحملاً للشدة مجتهداً في إظهار دين الله.

ولما اجتمع أمره وقت خروجه بعد وفاة المأمون وولاية أخيه محمد بن هارون الملقب بالمعتصم؛ طلب القاسم عليه السلام وتشدد في ذلك، وأنفذ العساكر الكثيفة في تتبع أثره فأحوج إلى الانفراد عن أصحابه، وانتقض أمر خروجه.
وله بيعات كثيرة في أوقات مختلفة، وكانت بيعته الجامعة لفضلاء أهل البيت عليهم السلام سنة عشرين ومائتين في منزل محمد بن منصور المرادي بالكوفة، وبايعه هناك أحمد بن عيسى بن زيد فقيه آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعابدهم، وعبدالله بن موسى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن الفاضل الزاهد، والحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد.
وكانت فضيلة السبق انتهت إلى هؤلاء فاتفقوا على بيعة القاسم -عليه وعليهم السلام-، وكانوا قد امتحنوا على فضلهم المشهور بالاستتار الشديد.

[اجتماعه (ع) بأحمد بن عيسى وعبدالله بن موسى(ع)]
وروى السيد أبو طالب رضي الله عنه قال: روى أبو عبدالله محمد بن يزيد المهلبي قال: حدثنا محمد بن زكريا قال: صرت إلى أحمد بن عيسى وهو متوار بالبصرة فقال لي: لما طلبنا هارون الملقب بالرشيد خرجت أنا والقاسم بن إبراهيم وعبدالله بن موسى بن عبدالله فتفرقنا في البلاد، فوقعت إلى ناحية الري، ووقع عبدالله بن موسى إلى الشام، وخرج القاسم عليه السلام إلى اليمن، فما توفي هارون اجتمعنا في الموسم فتشاكينا ما مر علينا فقال القاسم: أشد ما مرَّ بي أني لما خرجت من مكة أريد اليمن في مفازة لا ماء فيها، ومعي بنت عمي وهي زوجتي، وبها حِبَلٌ فجاءها المخاض في ذلك الوقت، فحفرت لها حفرة لتتولى أمر نفسها ، وضربت في الأرض أطلب لها ماء ، فرجعت وقد ولدت غلاماً وأجهدها العطش ، فرجعت إليها وقد ماتت والصبي حي ؛ فكان بقاء الغلام أشد علي من وفاة أمه، فصليت ركعتين ودعوت الله أن يقبضه، فما فرغت من دعائي حتى مات.
وشكى عبدالله بن موسى أنه خرج من بعض قرى الشام وقد حث عليه الطلب، وأنه صار إلى بعض المسالح وقد تزيا بزي الفلاحين، فسخره بعض الجند وحمله على ظهره شيئاً، وكان إذا أعيى وضع ما على ظهره للاستراحة ضربه ضرباً شديداً، وقال: لعنك الله ولعن من أنت منه.

وقال أحمد بن عيسى: كان من غليظ ما نالني أني صرت إلى ورزنين ومعي ابني محمد، وتزوجت إلى بعض الحاكة هناك، وتكنيت بأبي حفص الجصاص، فكنت أغدو أو أقعد مع بعض من آنس به من الشيعة ثم أروح إلى منزلي، وولدت المرأة بنتاً، وتزوج ابني محمد إلى بعض موالي عبد القيس هناك، فأظهر مثلما أظهرته، فلما صار لابنتي نحو عشر سنين طالبني أخوالها بتزويجها من رجل من الحاكة له فيهم قدر ، فضقت ذرعاً بما دفعت إليه، وخفت من إظهار نسبي وألح القوم عليّ في تزويجها ، ففزعت إلى الله وتضرعت إليه في أن يقبضها ويحسن علي الخلف، فأصبحت الصبية عليلة، ثم ماتت من يومها، فخرجت مبادراً إلى ابني محمد أبشره فلقيني في الطريق وأعلمني أنه ولد له ابن فسميته علياً، وهو بناحية ورزنين لا أعرف له خبراً للاستتار الذي أنا فيه.
[قصته (ع) في مصر]
وروى السيد أبو طالب عن أبي عبدالله الفارسي، قال: اشتد بالإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام الطلب، فضاقت به المسالك ونحن مختفون معه خلف حانوت إسكافي من خُلّص الزيدية، فنودي نداء يبلغنا صوته: (برئت الذمة ممن آوى القاسم بن إبراهيم وممن لا يدل عليه، ومن دل عليه فله ألف دينار وكذا وكذا من البز) والإسكافي مطرق يسمع النداء ولا يرفع رأسه، فلما جاءنا قلنا له: ما ارْتَعْت؟ قال: ومن لي بارتياعي لو قرضت بالمقاريض بعد رضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عني في وقاية ولده بنفسي.

فأقام القاسم عليه السلام طول مدته مخيفاً للظالمين، وشجا في حلوق الفاسقين، غير أن المقادير لم تساعده إلى كل ما أراد من تطهير ما ظهر في الأرض من الفساد.
وقد امتد النَفَس في أحوال القاسم عليه السلام وطرف من أخباره بخلاف من تقدمه من الأئمة، والوجه لذلك أن القاسم أحد الأئمة المرجوع إليهم في التقليد والمذاهب، فأردنا الإشارة إلى فضله وزهده وعلمه، وأنه مع ما ظهر له من ا لعلم والأصحاب والتصانيف كان على الصفة المذكورة في الخوف الشديد والتستر البليغ.
فلو كان عليه السلام آمناً، وعن خشية السلطان ساكناً؛ لكان علمه أوسع رباعاً، وكان فضله أكثر أتباعاً، وكيف يجهل قدر مثل هذا الإمام أن يعدل عنه إلى تقليد غيره من فقهاء الأنام وعلماء الإسلام، وبعض ما رويناه من زهده وحكيناه من ورعه وفضله أعظم مرجح لتقليده، وأبلغ داع إلى التمسك بمذهبه واجتهاده، مع العلم الظاهر والفضل الباهر.
فانظر إلى هذه الأمة العادلة عن أهل بيت نبيها وعترة هاديها ومهديها، وسبب ذلك تقليد الأسلاف والعادة ، وأصل ذلك كلّه إخافة الدولة الظالمة لأهل البيت السادة القادة؛ فإن الناس أشبه منهم بسلطانهم بزمانهم، وقد قيل: السلطان هو الزمان، ومعنى هذا الكلام أن للسلطان أثراً عظيماً في إصلاح الناس وإفسادهم، فإن كان صالحاً أصلحهم وإن كان فاسداً أفسدهم ، والناس أتباع الملوك وطوع إراداتهم إلا النادر، وقليل ما هم.

ولما كان مذهب أرباب الدولتين الأموية والعباسية عداوة العترة الطاهرة النبوية، كان ذلك مذهب الجمهور من أهل زمانهم إلا من أنقذهم الله من ضلالتهم، وعصمهم عن جهالتهم من الزيدية الفرقة الهادية المهدية، والعلماء من غيرهم عليهم مدار الرعاع وهم الطبق الأدهم كانوا في أهل البيت عليهم السلام على ثلاث طبقات:
الطبقة الأولى: باعوا من الملوك دينهم بدنياهم، كالذين شهدوا لهارون على يحيى بن عبدالله بالعبودية، وأمثالهم ممن خدم العباسية والأموية وتقرب إليهم ببغض العترة الطاهرة النبوية.
الطبقة الثانية: الذين آثروا رضى ربهم بسخط ملوكهم، وحفظوا عترة نبيهم بخروجهم مما يجب لله عليهم؛ كأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل ومحمد بن الحسن وسفيان الثوري وأشباههم من علماء المعتزلة ، فإنهم أطاعوا الله في محبتهم لأهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، وعصوا الملوك في عدم كراهتهم لهم وعداوتهم إياهم.
الطبقة الثالثة: الذين أمسكوا عن التظهر بموالاة أهل البيت وعداوتهم، وهؤلاء في العلماء قليل بل هم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، ويقرب أن يكون مالك بن أنس منهم لأنه كان في وقت هارون، ومثله أبو يوسف صاحب أبي حنيفة فإنه كان قاضياً لهارون، ولم يظهر عنهما أحد الأمرين وهما إلى السلامة أقرب، ومن الطبقة الأولى أمثل ، ونشأ الرعاع والهمج من العامة على رأي الطبقة الأولى، إذا عرفت هذا فلا تستنكر عداوة الأكثر لأهل هذا البيت المطهر والله المستعان.

[الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم (ع)]
(245- 298هـ / 860- 911م)
وأما الإمام الجامع لأوصاف الإمامة وعلوم الشرائع أبو الحسين الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين: فإنه قمر العترة الساطع، وسيف الملة القاطع، وإليه انتهت محامد الخصال، وجوامع الفضل والكمال.
[مولده عليه السلام]
ولد عليه السلام بالمدينة، وحُمِلَ إلى جده القاسم عليه السلام فوضعه في حجره الطاهر، وعوّذَه ودعا له، وقال لابنه الحسين: بم سميته؟ قال يحيى، فقال القاسم عليه السلام: (هو والله صاحب اليمن)، وإنما قال ذلك لأخبار وردت بذكره، وظهوره باليمن، وكان بين ولادة الهادي عليه السلام وبين موت جده القاسم عليه السلام سنة واحدة.
[صفته عليه السلام]
صفته عليه السلام: كان خلقه أسدياً، أنجل العينين، واسع الساعدين غليظهما، بعيد ما بين المنكبين والصدر، خفيف الساقين والعجز كالأسد، وكان يأخذ الحنطة في يده فيدقها بأصبعيه فيصيرها طحيناً، وكان في صباه يدخل السوق فيقول لأهل الحنطة: ما طعامكم؟ فيقولون: الحنطة فيدخل يده في الوعاء، ويأخذ منها في كفه فيصيره دقيقاً، فيقول: هذا دقيق.
وكان يأخذ الدينار فيمحو سكته بإصبعيه، وكان يلوي عمود الحديد في عنق الرجل ويفكه عنه، وكان يأخذ على قوائم البعير المسن القوي فلا يقدر البعير وإن جهد على النهوض، وكان يضرب عنق البعير البازل الغليظ فيبينه عن جسده.

[فضائله ومناقبه]
وفضائله ومناقبه لا يوصل منها في كتابنا هذا إلى غاية، ولا يوقف لها فيه على نهاية، وقد أحسن الفقيه حيد رحمه الله في وصفه فقال: فضله عليه السلام لا يخفى، ونور مجده لا يطفى، وظهور حاله يغني عن ذكر محاسن خلاله.
قال: وهو الذي فقأ عين الضلال، وأجرى معين العلم السلسال، ونحن لا نذكر في هذا الكتاب أخباره المتعلقة بحروبه لجنود الكفرة العمين، وقتاله لأحزاب المجرمين وجيوش الظالمين، فإنه عليه السلام الذي رحض اليمن عن درن الإلحاد، وذاق بنفسه مر الجلاد، وعَلَّ من نحورهم بعد النهل أطراف الصعاد، وهو الذي قال في سيف الفقار لأنه كان سيفه في وقعاته كلها:
حتى تذكر ذو الفقار وقائعاً .... من ذي الفخار السيد القمقامِ
وهذا البيت من جملة أبيات نذكرها بكمالها. قال عليه السلام في بعض حروبه: [الكامل]
الخيل تشهد لي وكل مثقف .... بالصبر والإبلاء والإقدامِ
حقاً ويشهد ذو الفقار بأنني .... أَرْويتُ حديهِ نجيعُ طغامِ
نهلاً وعلاًّ في المواقف كلها .... طلباً بثأر الدين والإسلام
حتى تذكرَ ذو الفقار مواقفاً .... من ذي الإباء السيد القمقام
جدي علي ذو الفضائل والنّهى .... سيف الإله وكاسر الأصنام
صنو النبي وخير من وارى الثرى .... بعد النبي إمام كل إمام
وله عليه السلام أشعار كثيرة يذكر فيها مواقفه عند الحقائق، وتفريجه للمضائق، وإيقاعه بالأشرار، وانتصاره لدين جده النبي المختار، ولو نذكر اليسير منها لطالت أفانين الكلام، وكَلّت رواسم الأقلام.

وهو الذي قيل في وصفه ونعته: (المشبه بالليث في خلقه وشجاعته، المشاكل لعلي في علمه وبراعته) حفظناه عن شيوخنا وأهلنا وسادتنا وأكابرنا، ومن جملته: (المبيد لعفاريت الملحدين، والحاصد لجيوش القرامطة المتمردين)، وإنما نذكر إشارة إلى علمه وزهده وورعه، وما نشر الله على يده في اليمن من الفرائض والسنن، وما جاء فيه من الآثار.
[الآثار الواردة فيه عليه السلام]
قال الفقيه العلامة حميد [ رضي الله عنه]: روينا عن بعض علمائنا –رحمهم الله- رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يخرج في هذا النهج وأشار بيده إلى اليمن رجل من ولدي اسمه الهادي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يحيي الله به الحق ويميت به الباطل)) فكان عليه السلام هو الذي نشر الإسلام في أرض اليمن بعد أن كانت ظلمات الكفر متراكمة، وموجات الإلحاد به متلاطمة، حتى أنهل من نحورهم الأسل الناهلة ، وأنقع من هامهم السيوف الظامية، فانتعش الحق بعد عثاره، وعلا بحميد سعيه ما انخفض من مناره، فسلام الله على وجهه الكريم، وشخصه العظيم.
وروي فيه عن أمير المؤمنين أنه قال: (أيها الناس إن الله بنا فتح وبنا ختم، ثم ذكر فتنة بين الثمانين ومائتين، فيخرج رجل من عترتي اسمه اسم نبي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، يميز بين الحق والباطل يؤلف الله قلوب المؤمنين على يديه كما تتآلف قزع الخريف، انتظروه في الأربع والثمانين ومائتين في أول سنة واردة وأخرى صادرة).

فكانت هذه صفة الهادي عليه السلام، والمراد بالأرض هاهنا أرض اليمن، وقد يطلق لفظ الأرض ويراد به أرض مخصوصة، كما قال الله تعالى: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} [المائدة:21] ، وأراد به أرض بيت المقدس.
ومثل هذه الآثار الواردة، وإن كانت منقولة بطرق الآحاد فإنها تفيد قوة الظن في العمل بقوله عليه السلام والرجوع إليه والتزام مذهبه، وتقليده في مسائل الفروع، كل ذلك من طريق الترجيح، وللترجيح طرق كثيرة ربما ختمنا بها كلامنا في هذا الكتاب حسبما يعنّ منها إن شاء الله تعالى.
[انتشار علمه ومصنفاته]
إشارة إلى علم الهادي عليه السلام وانتشاره في الآفاق.
قال الفقيه العلامة حميد [رحمه الله]: انتشر فقهه عليه السلام في الآفاق حتى صارت أقواله في أقصى بلاد العجم يأنسون بها أكثر من أنس أهل اليمن بها، وعليها يعتمدون وبها يفتون ويقضون، وكان قد نشأ على العلم والعبادة حتى صارا بمنزلة الطبع فيه.

27 / 39
ع
En
A+
A-