فانظر إلى هؤلاء الأخوة الأربعة محمد وإبراهيم ويحيى وإدريس عليهم السلام هلكوا كلّهم شهداء ، وهم أفضل من تحت أديم السماء، ومن عاصرهم من العلماء لم يشاركوهم في شيء من مصائب الدنيا، ويريد من لا حظ له في محبة أهل البيت أن يساوي بينهم وبين أهل السلامة من هذه البلوى ، فيقول بجهله: أين علومهم ومصنفاتهم ورواياتهم ومؤلفاتهم؟ ولو أنصف ونظر بعين التأمل والإنصاف لعلم أن بقاء علم أهل البيت من العترة النبوية بعد هذه الحوادث العظيمة، والنوائب الجليلة الجسيمة، من الآيات الباهرة، والفضائل الظاهرة.
وكيف وكتب الزيدية بالروايات عنهم مشحونة، وعلومهم باقية وإن كانت أشخاصهم مدفونة، فقدس الله أرواحهم وشرّف أشباحهم، وجعل في جنة الفردوس روحهم ومراحهم، بحق محمد وآله آمين آمين.
* * * * * * * * * * *
[الإمام محمد بن إبراهيم بن إسماعيل (ع)]
(173- 199هـ / 790- 815م)
وأما الإمام العالم الفاضل الزاهد محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن عليهم السلام:
فكان فاضلاً عالماً زاهداً كريماً أريحياً جواداً تقياً زكياً مشهوراً بالفضل الظاهر، والعلم الزاخر، والمجد الزاهر، والكرم الباهر.
روي عن زيد بن علي عليهما السلام قال: يُبايع لرجل منّا عند قصر الضرتين سنة تسع وتسعين ومائة في عشر من جمادى الأولى يباهي الله به الملائكة؛ فكان محمد بن إبراهيم، وحُدِّثَ بهذا الحديث فبكى.
وروي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام قال: (يخطب على أعوادكم يا أهل الكوفة سنة تسع وتسعين ومائة في جمادى الأولى لرجل منا أهل البيت يباهي الله به الملائكة) فكان عليه السلام هو المختص بهذه المنقبة الشريفة، والفائز بهذه الرتبة الزليفة.
وما ظنك بإمامٍ القاسم بن إبراهيم أحد دعاته وأعوانه وأتباعه، وكان في زمنه سيد أبناء دهره، وأشجع أهل عصره.
[قيامه عَلَيْه السَّلام]
ومن غريب ما اتفق له في أسباب دعوته أنه رأى بظاهر الكوفة عجوزاً تتبع أحمال الرطب فتلقط ما سقط منها، فتجمعه في كساء عليها رث، فسألها عن ذلك فقالت: إني امرأة لا رجل لي يقوم بمؤنتي ولي بنتان لا يَعُدْن على أنفسهن بشيء، فأنا أتبع مثل هذا من الطريق فأتقوته أنا وولدي، فبكى بكاء شديداً فقال: أنت والله وأشباهك تخرجوني غداً حتى يسفك دمي، ونفذت بصيرته في الخروج.
وعاصره من سادات أهل البيت علي بن عبيدالله بن الحسين بن علي بن الحسين، وعبدالله بن موسى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن؛ فأما علي بن عبيدالله فكان مشغولاً بالعبادة لا يصل إليه أحد ولا يأذن له، وأما عبدالله بن موسى فكان خائفاً مظلوماً لا يلقاه أحد، وأما محمد بن إبراهيم فكان يفارق الناس.
وكان أبوه من جملة من حبسه المهدي حتى توفي، ثم حبسه ابناه موسى وهارون، وقيل إنه عليه السلام مات في حبسهما.
وأما جده إسماعيل وهو الملقب بالديباج وكان من جملة المسجونين في حبس أبي جعفر، قال من صنف أخبارهم: (كان فينا غلام مثل سبيكة الذهب كلما اشتد الوقيد عليها ازدادت حسناً).
وذكر عالم الشيعة محمد بن منصور رحمه الله أنه أتى للديباج من مصر بألفي دينار ورزمتي ثياب مصرية فسايره رجل من المسجد إلى البيت فقال له : ألك حاجة؛ فقال: إنما أحببت أن أصل جناحك، فأمر له بإحدى الرزمتين وبعض المال.
فانظر إلى صفة هذه العترة المظلومة، وما لاقته من أرباب الدول الظالمة من القتل والأسر والحبس والسم، مَنْ تلقه من أفاضلهم تجده مقتولاً، أو محبوساً، أو مسموماً، أو خائفاً مظلوماً، أو مطروداً مهضوماً، أو مستوراً مكظوماً.
نعم، ولما بايع محمد بن إبراهيم عيونُ أهل البيت منهم القاسم بن إبراهيم، وعلي بن عبيدالله، ومحمد بن محمد بن زيد، ومحمد بن جعفر بن محمد وغيرهم ممن يطول ذكرهم، ومن الفقهاء جم غفير.
وقد ذكره الحاكم في كتاب (تنزيه الأنبياء والأئمة) فقال: أما الكلام في إمامة محمد بن إبراهيم فظاهر لأنه جامعٌ للخصال، وتابعه الأفاضل، وخرج وناصب الحروب.
أشار الحاكم رحمه الله إلى كمال إمامته بالبيعة والخروج، وهما طريقا صحة الإمامة عند المعتزلة والزيدية.
وكان قيامه عليه السلام في زمن المأمون ونصره أبو السرايا، ومات –قدس الله روحه- بالكوفة، وقبره بالغري، وأوصى إلى السيد علي بن عبيدالله فاختار علي بن عبيدالله للناس محمد بن محمد بن زيد، وكان من أفاضل العترة وفتيانها وأهل البأس والنجدة والفضل والعفة، ونال من المسودة ما لم ينله غيره، وكان من الدعاة المقتصدين، بايعه علي بن عبيدالله وكان يصلح للإمامة أعني علياً، وهو أوّل الدعاة من ذوي الاقتصاد من العترة النبوية ، وبعده عشرة من المقتصدين، وبعدهم الحسن بن زيد قد ذكره الحاكم أبو سعد رحمه الله في كتبه الثلاثة: (شرح العيون)، و(جلاء الأبصار)، و(سفينة العلوم).
وقد ذكرته في (الجواب الفاصل على القاضي الفاضل)، وذكرت غيره ممن قام بالجهاد على جهة الاحتساب من العترة الطاهرة، والكلام ذو شجون.
[الإمام القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل (الرسي) (ع)]
(169- 246هـ / 786- 861م)
وأما الإمام الطاهر الأورع العالم الزاهد القاسم بن إبراهيم عليه السلام:
فإنه جامع الفضائل، وصاحب الدلائل، والإمام الكامل إن قيل من الإمام الكامل، فاق علماً وزهداً وفضلاً ومجداً وشرفاً وجوداً، وبرز في العلم على علماء الطوائف، واعترف بفضله وعلمه الموالف منهم والمخالف، ورسخت في العلوم أطنابه، وأشرقت في ذروة الحلوم قبابه، وظهرت على ما كان عليه من الخوف والتستر مصنفاته، وبهرت على ما كان عليه من التزهد والتقشف صفاته.
وشخصت أبصار العلماء في زمانه إلى لقاء غُرّته، وامتدت أعناق الفضلاء في أوانه إلى ورود حضرته، واشتاقت نفوس الأولياء والزهاد إلى مراجعته، وتطلعت قلوب الأصفياء والعباد إلى أنوار طلعته، وكان عيانه أبلغ من سماعه، واختباره أفضل من أخباره، وما يشاهد فيه من الفضل أعظم مما يحكى عنه، وما يعاين فيه من الزهد أجل مما نخبر به منه، وما يعلم من العلم أوسع مما يوصف فيه، وما يتحقق منه من الورع أكمل مما يضاف إليه.
ولو ادعيت العصمة لأحدٍ بعد الأنبياء عليهم السلام لادعيت للقاسم بن إبراهيم، ولو جازت النبوة في أحد بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم لجازت في القاسم بن إبراهيم، وقد ورد هذا في الحديث فيما رواه أئمتنا وأهلنا وعلماؤنا: ((مسلوب الرباعيتين من أهل بيتي لو كان بعدي نبي لكان هو)) ولو كان الأتباع في الدنيا على قدر العلم والفضل والزهد لكان من في الدنيا كلها من فرق الإسلام على مذهب القاسم بن إبراهيم.
بل لو وقف التقليد في الفروع على الإتقان في الرواية، ومجرد الصدق والعادلة، وصحة التقى والطهارة؛ لكان القاسم عليه السلام أحق الأئمة كافة بتقليده، وأولاهم بالرجوع إلى قوله واجتهاده.
ومن أنصف وبحث وطالع السير والأخبار، ونقب عن الأحوال والآثار؛ يعرف صحة ما قلناه، وتحقق صدق ما ذكرناه، ومن جعل القاسم بن إبراهيم بينه وبين الله تعالى فقد نجا.
وهذا المختصر لا يتسع لأخباره وأحواله، وإنما نذكر منها أنموذجات تدل على ما وراءها، ويستدل بها طالب النجاة لنفسه على ما غاب عليه منها؛ فنقول:
روى الفقيه العلامة حميد بن أحمد المحلي [-رحمه الله-] في حدائقه أن فتيان آل الحسن كانوا يدرسون على شيخ من شيوخ آل الحسن، وكان القاسم عليه السلام من شباب ذلك العصر ، فكان إذا أتى قام ذلك الشيخ في وجهه وعظّمه؛ فقالوا: أيها السيد إنّا قد عذرناك وهذا الفتى لك أعذر، فقال: لو تعلمون مِنْ هذا ما أعلمه لاستصغرتم ما أصنع في حقه.
قالوا: وما تعلم؟ قال: هذا الفتى قال فيه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((يخرج من ذريتي رجل مسروق الرباعيتين لو كان بعدي نبي لكان هو)) وفيه يقول الشاعر: [الطويل]
ولو أنه نادى المنادي بمكة .... ببطن منى فيمن تضم المواسمُ
من السيد السباق في كل غاية .... لقال جميع الناس ذلك قاسمُ
إمام لأبناء الأئمة قد نمت .... له الشرف المعروف والمجد هاشمُ
أبوه علي ذو الفضائل والنهى .... وآباؤه والأمهات الفواطمُ
بنات رسول الله أكرم نسوة .... على الأرض والآباء شم خضارمُ
[مصنفاته عليه السلام]
وله عليه السلام العلم الزاخر، والتصانيف الفائقة في علم الكلام وغيره من الفنون؛ فمنها: كتاب ( الدليل الكبير ) فإنه بالغ في الكلام على الفلاسفة مبالغة حسنة، وأشار فيه من لطيف الكلام إلى ما لا ينتهى إليه إلا المبرزون، ولا يبلغه إلا المحصلون.
ومنها: كتاب (الدليل الصغير) وفيه من أصول العدل والتوحيد وتصديق الوعد والوعيد، والمبالغة في الكلام على الجبرية على لطافة حجمه ما يشهد بغزارة علمه ، ووفور فهمه.
ومنها: كتاب (الرد على ابن المقفع) الذي نصر فيه القول بالتثنية فرد عليه القاسم مقالته، وزيف بعلمه جهالته.
ومنها: كتاب (الرد على النصارى) وهو من نفائس الكتب.
ومنها: كتاب (المسترشد)، وكتاب (الرد على المجبرة)، وكتاب (تأويل العرش والكرسي) على المشبهة.
ومنها: المسألة المنقولة عنه في مناظرة الملحد، وهو رجل من أرباب النظر من الملحدة كان يغشى مجالس المسلمين، ويورد عليهم الأسئلة الصعبة في قدم العالم وغير ذلك، حتى وافاه عليه السلام وأورد ما عنده من المشكلات فوضح له الحق فتاب إلى الله تعالى؛ ثم قال: (تعست أمة ضلت عن مثلك)، وفيها من غريب العلم وعجائبه ما يشهد بعلو منزلته وارتفاع درجته.
وروى السيد أبو طالب عليه السلام بإسناده إلى أبي القاسم البلخي عن مشائخه أن جعفر بن حرب الهمداني دخل على القاسم بن إبراهيم فجاراه في دقائق علم الكلام، فلما خرج من عنده قال لأصحابه: أين كنا من هذا الرجل فوالله ما رأيت مثله.
هذا وجعفر بن حرب من عيون المتكلمين والمتبحرين في الكلام.
ومن تصانيفه عليه السلام: كتاب (تثبيت الإمامة) فإنه أحسن فيه كل الإحسان في نصرة مذهب الزيدية في تقديم أمير المؤمنين على المشائخ، وأورد من الأسئلة العجيبة في هذا المعنى على المقدمين عليه ما يشهد بأنه البحر الزخار، والقمر النوار، والغمام المدرار.
وله عليه السلام كتاب (مديح القرآن الكبير)، وكتاب (الناسخ والمنسوخ)، و(مسألة الطبريين)، وله عليه السلام كتاب (سياسة النفس) وهو من أنفس الكتب وأعزها وأبلغها وأعجبها.
وله في الفقه التصانيف العجيبة الشاهدة بتدقيقه وتحقيقه، ومعرفته بالاختلاف بين الفقهاء، وجودة غوصه على استنباط الغرائب؛ نحو (كتاب الفرائض والسنن) و(كتاب الطهارة) و(كتاب صلاة اليوم والليلة) و(مسائل علي بن جهشيار)، وغير ذلك من تصانيفه في الفقه.
فإنه كما وصفه ابن أبي الحديد في مفاخرة الهاشمية والأموية؛ قال الهاشميون: (ومنا القاسم بن إبراهيم صاحب المصنفات والورع والدعاء إلى الله تعالى وإلى التوحيد والعدل ومنابذة الظالمين) فحصر بهذه الأوصاف جميع المحامد الرائقة، والمحاسن الفائقة، ووصفه بالمصنفات فلا يوصف بها إلا المتبحر في العلوم، والمتبقر في الفنون وهي صفته.
وكان إذا تكلم في علوم القرآن فكأنها فنه الذي عليه نشأ، وكذلك غيرها من العلوم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
قال الحاكم رضي الله عنه في كتابه (تنزيه الأنبياء والأئمة) وقد ذكر الإمامين محمد بن إبراهيم والقاسم بن إبراهيم؛ حتى قال: (فأما القاسم عليه السلام فلا شبهة في فضله وعلمه، وله الكتب المعروفة والأصحاب، فأما الزهد فأشهر من الشمس) نجز كلامه.
وله عليه السلام في المواعظ والآداب والرسائل والحكم والنوادر والوصايا الجامعة للدين والدنيا ما ليس يوجد مثله لغيره، وله كتاب (المكنون).
وأما ورعه وزهده فلا يقدر على وصفه الواصفون، قال الفقيه حميد رضي الله عنه: وأما زهده فلا يتمارى فيه اثنان، ولا يترادّ فيه رجلان، ولله القائل: [الكامل]
شهد العدا كالأولياء بفضله .... والفضل ما شهدت به الأعداءُ
وروى الهادي عليه السلام عن أبيه أن المأمون كلف بعض العلوية أن يتوسط بينه وبين القاسم عليه السلام ويصل ما بينهما على أنه يبذل له مالاً عظيماً، فخاطبه في أن يبدأه بكتاب أو يجيبه عن كتاب، فقال عليه السلام: لا يراني الله أفعل ذلك أبداً.
وروى الإمام المنصور بالله عليه السلام: أن المأمون توصل بمن قدر عليه في أن يصافيه القاسم عليه السلام ويأمن جانبه، فأبى ذلك أشد الإباء ، وبعث الحروي بوقر سبعة أبغل دنانير على أن يأخذها ويجيب عن كتابه أو يبتديه بكتاب، فكره ذلك ورد المال، وكان قد مال إلى حي من البادية يقال لهم حرب فحاربوا دونه، ولما رد المال لامهُ أهله فقال: [المتقارب]
تقول التي أنا ردءٌ لها .... وقاء الحوادث دون الردى
ألست ترى المال مُنْهلّة .... مخارم أفواهها باللهى
فقلت لها وهي لوّامةٌ .... وفي عيشها لو صحت ما كفى
كفاف امرء قانع قوته .... ومن يرض بالقوت نال الغنى
فإني وما رمت في نيله .... وقلبك حب الغنى ما أزدهى
كذا الداء هاجت له شهوة .... فخاف عواقبها فاحتمى
[زهده وورعه (ع)]
وكان له عليه السلام من مخافة الله وخشيته ما يشبه به أمير المؤمنين عليه السلام.
روى السيد أبو طالب بإسناده عن أبي عبدالله الفارسي قال : حججنا مع القاسم عليه السلام فاستيقظت في بعض الليل فافتقدته، فخرجت وأتيت المسجد الحرام فإذا به وراء المقام لاطئاً بالأرض ساجدا، وقد بلّ الثرى بدموعه، وهو يقول: (إلهي من أنا فتعذبني؟! فوالله ما يشين ملكك معصيتي، ولا يزين ملكك طاعتي).
وله عليه السلام من الكرامات ما لا يصلح أن يكون إلا للأنبياء -صلوات الله عليهم، كان مستجاب الدعوة.
روى الشيخ أبو الفرج في كتابه الصغير أخبار الطالبيين أن القاسم عليه السلام دعا إلى الله تعالى في مَخْمصة فقال: (اللهم إني أسألك بالاسم الذي دعاك به سليمان بن داود فجاءه العرش قبل ارتداد الطرف، فتهدّل البيت عليه رطباً).
وروى بإسناده أنه دعا مرة في ليلة مظلمة فقال: (اللهم إني أسألك بالاسم الذي إذا دعيت به أجبت فامتلأ البيت عليه نوراً).