بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد؛ فقد فهمت كتابك، وما عرضت علي فيه من الأمان على أن تبذل لي أموال المسلمين، وتقطعني ضياعهم التي جعل الله لهم دوني ودونك، ولم يجعل لنا فيها نقيراً ولا فتيلاً، فاستعظمتُ الإستماع له فضلاً عن الركون إليه، واستوحشت منه تنزهاً عن قبوله، فاحبس عني أيها الإنسان مالك وإقطاعك وقضاءك حوائجي ، فوالله لو أن من قتلته من أهلي تركٌ وديالم على بُعد أنسابهم مني، وانقطاع رحمهم عني ؛ لوجب عليّ نصرتهم والطلب بدمائهم، إذ كان منكم قتلهم ظلماً وعدواناً، والله لكم بالمرصاد لما ارتكبتم من ذلك، وعلى الميعاد لما سبق فيه من قوله ووعيده، وكفى بالله جازياً ومعاقباً وناصراً لأوليائه، ومنتقماً من أعدائه.
وكيف لا أطلب بدمائهم وأنام عن ثأرهم؟ والمقتول بالجوع والعطش والنكال، وضيق المحابس وثقل الأغلال، وغدو العذاب وترادف الأثقال، أبي عبدالله بن الحسن الشيبة الزكية ذو الهمة السنية والديانة المرضية، والخشية والبقية، شيخ الفواطم وسيد أبناء هاشم، أرفع أهل عصره قدراً، وأكرم أهل بلاد الله فعلاً، ثم يتلوه إخوته وبنو أبيه؛ ثم إخوتي وبنو عمومتي نجوم السماء، وأوتاد الدنيا، ونزهة الأرض، وأمان الخلق، ومعدن الحكمة، وينبوع العلم ، وكهف المظلوم، ومأوى الملهوف، ما منهم أحد إلاّ لو أقسم على الله لأبر قسمه.

فما أنسى من الأشياء فلا أنسى مصارعهم، وما حلّ بهم من سوء مقدرتكم، ولؤم ظفركم، وعظيم إقدامكم، وقسوة قلوبكم؛ إذ جاوزتم قتلة من كفر بالله إفراطاً، وعذاب من عاند الله إسرافاً، ومُثْلة من جحد الله عتواً، وكيف أنساه؟ وما أذكره ليلاً إلا أقض عليّ مضجعي، وأقلقني عن موضعي، ولا نهاراً إلا أَمرّ عليّ عيشي، وقَصّر إليَّ نفسي، حتى لوددت أني أجد السبيل إلى الاستعانة عليكم بالسباع فضلاً عن الناس، وأجد منكم حق الله الذي أوجب عليكم ، وأنتصف من ظالمكم، وأشفي غليل صدر قد كثرت بلابله، وأسكن قلباً جماً وساوسه من المؤمنين، وأذهب غيظ قلوبهم ولو يوماً واحداً ثم يقضي الله فيّ ما أحب.
وإن أعش: فمدرك ثأري داعياً إلى الله تعالى على سبيل الرشاد أنا ومن اتبعني، نسلك قصد من سلف من آبائي وإخواني وإخوتي القائمين بالقسط الدعاة إلى الحق، وإن أمت فعلى سَنَن ما ماتوا؛ غير راهب لمصرعهم ولا راغب عن مذهبهم، فلي بهم أسوة حسنة، وقدوة هادية ، فأول قدوتي منهم أمير المؤمنين –رضوان الله عليه- [إذ ما زال قائماً حين القيام على المؤمن مع الإمكان حتماً والنهوض لمجاهدة الجائرين فرضاً فـ] اعترضه من كان كالظلف مع السنام، ونازعه من كان كالظلمة مع الشمس، فوجدوا لعمر الله من حزب الشيطان مثل من وجدت ، وظاهرهم من أعداء الله مثل من ظاهرك ، وهم بمكان الحق عارفون ، وبمواضع الرشد عالمون، فباعوا عظيم أجر الآخرة بحقير عاجل الدنيا، ولذيذ الصدق بغليظ مرارة الإفك.

إلى أن قال عليه السلام: ثم تلاه الحسن سليل رسول الله وشبيهه سيد شباب أهل الجنة، فجاهد من كان أمير المؤمنين جاهده، وسكن إليه من المسلمين من شايعه، من ذوي السابقة وأهل المآثر.
وحتى قال فيه: فلما قصرت طاقته، وعجزت قوته، وخذله أعوانه، سالم هو وأخوه مظلومين معذورين موتورين، فاستثقل اللعين بن اللعين حياتهما واستطال مدتهما، فاحتال بالاغتيال لابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى نال مراده وظفر بقتله، فمضى مسموماً مغموماً شهيداً فقيداً وغبر شقيقه وأخوه وابن أمه وأبيه وشريكه في فضله، ونضيره في سؤدده على مثل ما انقرض عليه أبوه.
حتى قال وقد ذكر حال الحسين عليه السلام: فقتلوه ومنعوه ماء الفرات وهو مبذول لسائر السباع، وأعطشوه وأعطشوا أهله، وقتلوهم ظمأى يناشدونهم فلا يجابون ويستعطفونهم فلا يرحمون، ثم تهادوا رأسه إلى يزيد الخمور والفجور تقرباً إليه، فبعداً للقوم الظالمين.
حتى ذكر الحسن بن الحسن، وأنه مات مسموماً يتحسى الحسرة ويتجرع الغيظ؛ حتى إذا ظهر الفساد في البر والبحر شرى زيد بن علي عليه السلام نفسه، فما لبث أن قتل ثم صلب ثم أحرق، فأكرم بمصرعه مصرعاً.

ثم ما كان إلا طلوع ابنه يحيى عليه السلام ثائراً بخراسان فقضى نحبه وقد أعذر، وقد كان أخي محمد بن عبدالله دعا بعد زيد وابنه عليهما السلام، فكان أول من أجابه وسارع إليه جدك محمد بن علي بن عبدالله بن العباس وإخوته وأولاده، فخرج ابن عمه يقوم بزعمه حتى خدع بالدعاء إليه طوائف.
ومعلوم عند الأمة أنكم كنتم لنا تدعون وإلينا ترجعون، وقد أخذ الله عليكم منكم ميثاقاً غليظاً لنا، وأخذنا عليكم ميثاقاً لمهدينا محمد بن عبدالله النفس الزكية الخائفة التقية المرضية، فنكثتم عند ذلك، وادعيتم من إرث الخلافة ما لم تكن تدعونه.
حتى قال: أو لم يكن لكم خاصة وللأمة عامة في محمد بن عبدالله فضلاً؟ إذ لا فضل يعدل في الناس فضله، ولا زهد يشبه زهده، حتى ما يتراجع فيه اثنان ولا يتراد فيه مؤمنان، ولقد أجمع أهل الأمصار من أهل الفقه والعلم في كل البلاد على فضله، لا يتخالجهم فيه الشك، ولا تَقِفْهُم عنه الظنون؛ فما ذكر عند خاصة ولا عامة إلا اعتقدوا محبته، وأوجبوا طاعته، وأقروا بفضله، وسارعوا إلى دعوته.

حتى قال: حتى إذا حصلت لكم بدعوتنا، وهدأت عليكم بخطبتنا، وقرّت لكم بنسبتنا قالت لكم أجرامكم إلينا، وجنايتكم علينا أنها لا توطأ لكم إلا بإبادة خضرائنا، ولا تطمئن لكم دون استئصالنا، فأغرى بنا جدك المتفرعن فقتلنا ولا يخفى أثره فينا عند المسلمين حتى أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، قبل بلوغ شفاء قلبه من فنائنا، وهيهات أن يدرك الناس ذلك، ولله فينا خبيئة لا بد من إظهارها، وإرادة لا بد من بلوغها.
فالويل له، فكم من عين طالما غمضت عن محارم الله، وسهرت متهجدة لله، وبكت في ظلم الليل خوفاً من الله، قد أسحّها بالعبرات باكية، وسمّرها بالمسامير المحماة، وألصقها بالجدران المرصوفة قائمة، وكم من وجه طالما ناجى الله مجتهداً، وعنى لله متخشعاً بالعمد مغلولاً مقتولاً ممثولاً به.
وتالله أن لو لم يلق الله إلا بقتل النفس الزكية أخي محمد بن عبدالله رحمة الله عليه للقيه بإثم عظيم وخطب كبير؛ فكيف وقد قتل أبا النفس الزكية وأخوته وبني أخيه، ومنعهم روح الحياة في مطابقه، وحال بينهم وبين خروج النفس في مطاميره، لا يعرفون الليل من النهار ولا مواقيت الصلاة إلا بإجزاء تجزئةٍ قد عرفوها حال أوقات الصلوات، قرماً منه إلى قتلهم، وقطعاً منه لأرحامهم، وترة لرسول الله فيهم.
فولغ فيهم ولغان الكلاب، وضريَ بقتلهم ضراوة الذئاب، ونهم بهم نهم الخنزير والله له ولمن عمل عمله بالمرصاد.

فلما أهلكه الله قابلتنا أنت وأخوك الجبار الفظ الغليظ العنيد بأضعاف فتنته، واحتذاء سيرته، قتلاً وعذاباً وتشريداً وتطريداً، فأكلتمانا أكل الرُّبا حتى إذا لفظتنا الأرض خوفاً منكما، وتأبّدنا في الفلوات هرباً عنكما، فأَنِستْ بنا الوحوش وأنسنا بها، وألفتنا البهائم وألفناها.
ولو لم يجترم أخوك إلا قتل الحسين بن علي وأسرته بفخ لكفى بذلك عند الله وزراً عظيماً، وسيعلم وقد علم ما اقترف والله مجازيه وهو المنتقم لأوليائه من أعدائه.
ثم امتحننا الله بك من بعده فحرصت على قتلنا، وظلمت الأول والآخر منا، لا يمنعك منهم بعد دار ولا نأي جار، تتبعهم حيلك ومكائدك حيث سُيّروا من بلاد الترك والديلم ، لا تسكن نفسك ولا يطمئنّ قلبك دون أن تأتي على آخرنا ، ولا تدع صغيرنا ولا ترثى لكبيرنا، لئلا يبقى داع إلى حق ولا قائل بصدق، ولا أحد من أهله.
حتى أخرجك الطغيان وحزّبك الشنآن أن أظهرت بغضة أمير المؤمنين، وأعلنت بنقصه، وقربت مبغضيه، وآويت شانئيه، حتى أربيت على بني أمية في عداوته، وأشفيت غلتهم في تناوله، وأمرت بكرب قبر الحسين بن علي -صلوات الله عليه- وتعمية موضعه، وقتل زوّاره، واستئصال محبيه، وأوعدت فيه وأبرقت على ذكره.

فوالله لقد كانت بنو أمية الذين وصفنا آثارهم مثلاً لكم، وعددنا مساوئهم احتجاجاً عليكم، على بعد أرحامهم أرأف بنا، وأعطف علينا قلوباً منكم، وأحسن استبقاء لنا ورعاية من قرابتكم، فوالله ما بأمركم خفاء، ولا بشأنكم امتراء، ولِمَ لا نجاهد وأنت معتكف على معاصي الله صباحاً ومساء، مغتراً بالمهلة، آمناً من النقمة، واثقاً بالسلامة.
حتى قال: ثم لم يشغلك ذلك عن قتل أولياء الله وانتهاك محارم الله؛ فسبحان الله ما أعظم حلمه، وأكثر أناته عنك وعن أمثالك، ولكنه تبارك وتعالى لا يعجل بالعقوبة، وكيف يعجل وهو لا يخاف الفوت؟ وهو شديد العقاب.
فأما ما دعوتني إليه من الأمان، وبذلت لي من الأموال، فمثلي لا تثني الرغائب عزمته، ولا تنحل بخطير همته، ولا يبطل سعياً باقياً على الأنام أثره، ولا يترك عملاً جزيلاً عند الله أجره بمال فانٍ وعارٍ باق، هذه صفقة خاسرة وتجارة بائرة، وأستعصم الله منها وأسأله أن يجيرني من مثلها بمنه وطوله..إلى آخر ما ذكره عليه السلام في كتابه.
وإنما أردنا الكشف عن أمرين: أحدهما: ما لقي أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ولاة السوء وأئمة الضلال وسلاطين الجور.
والأمر الثاني: بيان فضل أئمة العترة النبوية في حسن مقاصدهم الدينية، وانصرافهم بوجوههم عن زخارف الدنيا الدنية، وتورع أحدهم عن مسالمة الظلمة وهو يرجو على جهادهم أعواناً، ويدعو إلى قتالهم إخواناً.

قال يحيى بن عبدالله عليه السلام في آخر كتابه إلى هارون: أفأبيع خطيري بمالكم، وشرف موقفي بدراهمكم، وألبس العار والشنار بمقامكم، لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، والله ما أكلي إلا الجشب، ولا لباسي إلا الخشن، ولا شعاري إلا الدرع، ولا صاحبي إلا السيف ، ولا فراشي إلا الأرض ، ولا شهوتي من الدنيا إلا لقاؤكم والرغبة في مجاهدتكم، ولو موقفاً واحداً لانتظار إحدى الحسنين في ذلك كله في ظفر أو شهادة.
انظر إلى هذا الكلام الفاضل الصادر عن هذا الإمام الفاضل هل يعلم بمثل هذا التصلب في دين الله لأحد من أئمة فرق الإسلام؟ أو يسمع بمثل هذا التشدد في أمر الله لغير أئمتنا السادة الأعلام، وبهذا كانوا هم الفرقة الناجية والعصابة الهادية، ولم نستوعب كلام يحيى بن عبدالله إلى آخر ما جرى له مع هارون، فإن نهاية ذلك أن قتله بعد الأمان.
قال السيد أبو طالب: كان يحيى عليه السلام إذا فرغ من صلاة العشاء الآخر يسجد سجدة طويلة إلى قرب السحر ثم يقوم فيصلي، وكان هارون يطلع عليه من قصره فقال ليلة ليحيى بن خالد وهو عنده: انظر إلى ذلك الصحن هل ترى فيه شيئاً، وأشار إلى الموضع الذي يسجد فيه يحيى عليه السلام فقام ونظر فقال: أرى بياضاً ثم قال قرب طلوع الفجر هل ترى ذلك البياض؟ قال: لست أراه؛ فقال: ذلك يحيى بن عبدالله إذا فرغ من صلاة العتمة يسجد سجدة فيبقى فيها إلى آخر الليل.

[نقض الأمان]
وجمع الرشيد الفقهاء وفيهم محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وأبو البختري وهب بن وهب -أخزاه الله-، فخرج إليهم مسرور بالأمان، فبدأ بمحمد بن الحسن فنظر فيه فقال: هذا أمان مؤكد لا حيلة في نقضه، وكان يحيى عليه السلام قد عرضه بالمدينة على مالك وابن الدراوردي وغيرهم فعرفوه أنه مؤكد.
ثم دفعه إلى الحسن بن زياد، فقال بصوت ضعيف: هو أمان، وروي أن محمد بن الحسن قال: من نقضه فعليه لعنة الله، فسمعه الرشيد فأخذ الدواة فرماه بها فشجه، فانصرف إلى منزله وهو يبكي فقال له صاحبه: أتبكي من شجة في سبيل الله؟ قال: لا والله، ولكني أخاف أن أكون قصرت في أمر يحيى فأكون قد شرّكت في دمه.
وقال وهب أبو البختري: هذا باطل منتقض قد شق العصا وسفك الدم فاقتله، ودمه في عنقي فاجترى -لعنه الله- على الله رغبة في الدنيا، ورفضاً للآخرة، وحباً للعاجلة، وزهداً في الآجلة، وشق كتاب الأمان بيده وهي ترتعد تقرباً إلى الرشيد، وتحبباً إليه ليصيد منه ما يصيد، ويأخذ من حطام الدنيا ما يريد، وقد أعطاه خمسمائة ألف درهم، وولاه قضاء القضاة، ومنع محمد بن الحسن من الفُتْيَا مدة طويلة.
ولئن تقرب أبو البختري الشقي إلى هارون لقد تباعد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهارون، ولئن تحبب إلى المسمى بالرشيد لقد تبغض إلى رسول الله يوم الوعيد، يوم تأتي كل نفس معها سائق وشهيد.

فلينظر المنصف فضل العترة المطهرة، وماذا لاقته من علماء الدنيا عبيد الدنيا ورفضة الآخرة، فليأخذ المنصف لنفسه بالوثيقة، وليعرف في الدين أهل الحقيقة، ولم نذكر وفاة يحيى عليه السلام وما اختلف فيه من أسبابها، والجملة أنه مات شهيداً، وذهب هارون المكنى بالرشيد خاسراً، ومضى يحيى بن عبدالله رشيداً.
* * * * * * * * * * * *

[الإمام إدريس بن عبدالله بن الحسن (ع)]
(...- 177هـ /...- 794م)
وأما الإمام الزاهد التقي إدريس بن عبدالله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام:
فإنه كان فاضلاً زاهداً تقياً عالماً صالحاً زكياً، نشأ على طريق أهله الأطهار، وسلفه الأبرار، مرتضعاً أخلاف العلم ، مرتدياً أثواب الحلم، جمع خصال الإمامة، وأحرز قصبات السبق في الزعامة، وكان من أصحاب الحسين الفخي وحضر الوقعة وقاتل وأصابته جراحة صبغت قميصه دماً.
قام عليه السلام بديار الغرب، ودعا هنالك وأجابه خلق كثير، وله دعوة عجيبة تدل على فضله وبراعته، وعلمه وبلاغته، وهو شبيه بكلام أخيه يحيى بن عبدالله عليهما السلام قال في آخرها: (وأنا المظلوم الملهوف الطريد الشريد، الخائف الموتور، الذي كثر واتره، وقل ناصره، وقُتل إخوته وأبوه، وجده وأهله؛ فأجيبوا داعي الله فقد دعاكم إلى الله).
ولما ظهر إدريس عليه السلام ضاقت بهارون مذاهبه، وانكدرت عليه مشاربه؛ فلم يزل يعمل المكائد في هلكه خوفاً منه على ملكه فقتله بالسم ، ومات إدريس عليه السلام مسموماً.

25 / 39
ع
En
A+
A-