ودفن في المعركة قطعة من جلدة وجهه في حال الحرب، ولما قتل عليه السلام قطع رأسه وحمل إلى موسى الملقب بالهادي، ودفن بدنه (بفخ) ومشهده مشهور مزور، وأمر الإمام المنصور بالله عليه السلام بعمارة قبة عليه وعلى الحسن بن محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن سنة إحدى وستمائة.
فلينظر الناظر في هؤلاء الأئمة وما لاقوا من أمر هذه الأمة وسلاطين الظلم والظلمة، وما يوصف به الإمام من العترة الطاهرة من الفضل والعمل والصلاح ، وما يوصف به من يعاصره من خلفاء بني العباس من الجور والجهل والفساد، وما مُنِيَ به أهل البيت عليهم السلام من تحامل الناس عليهم وهم العلماء القادة الفضلاء السادة.
وليتفكر المتفكر في علم العترة الطاهرة كيف بقي على هذه الأحوال العظيمة، والمصائب الجسيمة، وإراقة دمائهم في كل معركة، وتورطهم في كل مهلكة، وهل بقاء علمهم على هذا البلاء العظيم إلا من فضلهم ، ومن أدل دليل على شرفهم عند الله وسمو محلهم.
لأن أهل الزمان أتباع السلطان إلا القليل النادر، وكان مذهب سلاطين تلك الأزمنة الاجتهاد في حصد ثمرات النبوة، وإهلاك أغصان دوحة الرسالة، فلم يبق منهم إلا من أسارته السيوف، ولفظته الحبوس، وقذفته أفواه المهالك.
وكان علماء الأمة من فقهاء الأمصار وعيون تلك الأعصار يُحْبَونَ بالأموال والتحف والهدايا والطرف، ويصانعهم السلطان وينحلهم سيما مع رفضهم لأمر أئمة العترة؛ إما لشر يتقونه أو لاستخفاف بهم يتوقونه.
ولو شئت لذكرت من ذلك ما يعرف به المنصف أن أهل البيت عليهم السلام إنما رفضهم الناس خوفاً من السلطان، أما العالم فلخوفه على نفسه وجاهه وانقطاع مواده، وأما الجاهل فلخوفه على ماله وأهله ونفسه وولده وما يختص به.
فتساوى الناس في رفضهم والأخذ عنهم والتعلم منهم، ومن يتعلم من عالم والسيف مسلول على رأسه لضربه به! والحبس مهيأ لإدخاله إياه، والقيد مُثْقَلٌ لصكه فيه؛ هذا ما لا يفعله عاقل لأن الخوف بدون هذا.
* * * * * * * * * * *
[استطراد: عيسى بن زيد (ع)]
(109- 166هـ / 727- 783م)
وهذه صفة عالم أهل البيت عليهم السلام وفي حكايات أحوالهم في هذا الشأن طول، فإن الفاضل عيسى بن زيد فقيه العترة وعالمها كان يسقي على جمل على صورة البدوي.
وروى أبو الفرج عن محمد بن منصور المرادي، قال: قال يحيى بن الحسين بن زيد بن علي : قلت لأبي : يا أبه إني أشتهي أن أرى عمي عيسى بن زيد فإنه يقبح بمثلي ألا يلقى مثله من أشياخه، فيدافعني عن ذلك مدة وقال : إن هذا أمر يثقل عليه، وأخشى أن ينتقل من منزله كراهة للقائك إياه فتزعجه.
فلم أزل به أداريه وألطف به حتى طابت نفسه لي بذلك، فجهزني إلى (الكوفة) ثم قال لي: إذا صرت إليها فاسأل عن دور بني حي، فإذا دُللت عليها فاقصدها في السكة الفلانية، وسترى في وسط السكة داراً لها باب صفته كذا وكذا فاعرفه واجلس بعيداً منه في أول السكة، فإنه سيقبل عليك عند المغرب كهل طوال مصفر مستور الوجه، قد أثر السجود في جبهته ، عليه جبة صوف ، يستقي الماء على جمل ، وقد انصرف يسوق الجمل لا يرفع القدم ولا يضعها إلا ذاكراً لله عز وجل ودموعه تنحدر.
فقم فسلم عليه وعانقه فإنه سيذعر منك، فَعرّفُه بنفسك وانتسب له، فإنه يسكن إليك ويحدثك طويلاً، ويسألك عنا جميعاً، ويخبرك بشأنه ولا يضجر من جلوسك معه، فلا تطل فإنه سوف يستعفيك من العودة إليه، فافعل ما يأمرك به من ذلك، فإنك إن عدت إليه توارى منك واستوحش منك، وانتقل من موضعه وعليه في ذلك مشقة.
فقلت له: أفعل كلما أمرتني به؛ ثم جهزني إلى الكوفة وودعته وخرجت، ولما وردت الكوفة فعلت ما أمرني به فلما غربت الشمس إذ أنا به يسوق الجمل، وهو كما وصف لي أبي، فقمت إليه فعانقته فذعر مني كما يذعر الوحش من الأنس فقلت: يا عم أنا يحيى بن الحسين بن أخيك فضمني وبكى حتى قلت: قد جاءت نفسه؛ فأناخ جمله، وجلس معي، وجعل يسائلني عن أهله، وأنا أشرح له أخبارهم وهو يبكي.
ثم قال: يا بني أنا أستقي على هذا الجمل فأصرف ما أكتسبه أجرة الحمل إلى صاحبه، وأتقوت بباقيه، وربما عاقني عائق عن استقاء الماء فأخرج إلى البرية، فألقط ما يرمي به الناس من البقول وأتقوّته ، وقد تزوجت إلى هذا الرجل ابنته فهي لا تعلم من أنا إلى وقتي هذا، فولدت مني بنتاً فنشأت وبلغت، وهي أيضاً لا تعرفني، ولا تدري من أنا، فقالت لي أمها: زوج ابنتك بابن فلان السقاء -لرجل من جيراننا- فإنه أيسر منها، وقد خطبها وألحت علي.
فلم أقدر على إخبارها لأن ذلك غير جائز ولا هو كفؤ لها فيشيع خبري، فجعلت تلح عليّ فلم أزل استكفي الله أمرها حتى ماتت بعد أيام؛ فما أجدني آسى على شيء من الدنيا أساي على أنها ماتت ولم تعلم بموضعها من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-. قال: ثم أقسم عليَّ أن أنصرف.
فأنظر إلى هذه البلوى التي ابتلى بها أهل هذا البيت الشريف، والأصل الباسق المنيف، هذا فقيه آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا خبره وهذا شأنه، فأين موضع التدريس منه وأخذ العلم عنه، وهو لا يتمكن من تعريف زوجته وابنته بنسبه ونفسه، وابن أخيه يتجهز لزيارته من أرض إلى أرض فلا يتركه يقيم عنده، لما يخاف من ظهور أمره وانتشار خبره.
[الإمام يحيى بن عبدالله بن الحسن (ع)]
(.... - نحو 180هـ /.... - نحو 797م)
وأما الإمام يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام:
فكان من أفاضل أئمة أهل البيت عليهم السلام وساداتهم وعيونهم وقاداتهم، فاق أبناء عصره علماً وعملاً وفضلاً وكرماً وشجاعةً وسماحةً وزهادةً وعبادةً، وكان من جملة أصحاب الحسين بن علي الفخي عليه السلام وحضر الوقعة معه، وله أخبار في سيرة الإمام الفخي الحسين بن علي عليهما السلام أعرضنا عن ذكرها.
وهو خال الحسين الفخي لأن أمه زينب بنت عبدالله بن الحسن، ولم يكن في عصره من أهل بيته بعد الحسين الفخي أفضل منه، ولهذا قام بالأمر بعده، واختفى زماناً طويلاً ثم خرج إلى (العراق) ودعا هنالك، وكان من الفرسان الأبطال ذوي الشجاعة والبسالة.
وكانت له مع الحسين بن علي (صاحب فخ) مقامات محمودة، ومواطن مشهودة، وكان آدم حسن الوجه والجسم، تعرف سلالة الأنبياء في وجهه، إلى القصر ما هو.
[تعداد من روى عنهم عَلَيْه السَّلام]
قال الفقيه حميد [رحمه الله]: كان يحيى بن عبدالله من عيون العترة وفضلائها، قد نشأ على طريقة آبائه الأطهار السادة الأبرار، جامعاً بين العلم والعمل يروي الحديث عن أهله وغيرهم من الرواة ، وأكثر روايته عن جعفر بن محمد ، وروى عن أبيه، وأخيه محمد، وعن أبان بن تغلب، وعمر[و] بن حماد.
[قيامه عَلَيْه السَّلام]
وكان بعد (وقعة فخ) أظهر نفسه بعد أن استتر مدة وأخذ يطوف في الآفاق حتى وصل (صنعاء) وأقام بها شهوراً، وأخذ عنه علماء صنعاء علماً كثيراً؛ ثم دخل (بلاد الحبشة) ثم (بلاد الترك) فتلقاه ملكها بالإكرام وقدم له التحف العظيمة، ودعاه يحيى عليه السلام إلى الإسلام فأسلم على يده سراً، وبث يحيى دعاته في الآفاق فجاءته كتبهم ببيعة مائة ألف فيهم الفقهاء والعلماء، وخرج إلى بلاد الديلم وقال: (إن للديلم معنا خرجة وأرجو أن تكون معي) فلم تكن معه عليه السلام وكانت مع الناصر إلى الحق عليه السلام.
ولما بلغ خبره إلى هارون المسمى بالرشيد تبلبل باله، وتغيرت أحواله، وقطع شرب الخمر، ولبس الصوف، وافترش اللبود، وتحلّى بغير ما يعتاده لما علا صيت يحيى بن عبدالله في الآفاق، وانتشر ذكره في الدنيا بالعلم والصلاح والفضل والطهارة.
[من أجابه من العلماء]
وكان من جملة من تابعه من العلماء: محمد بن إدريس الشافعي فأعظم بإمام يبايعه الشافعي، ومن جملة من بايعه من العلماء المشهورين: عبد ربه بن علقمة، ومحمد بن عامر، ومخول بن إبراهيم، والحسن بن الحسن العرني، وإبراهيم بن إسحاق، وسليمان بن جرير، وعبد العزيز بن يحيى الكناني، وبشر بن المعتمر المعتزلي، وفليت بن إسماعيل، ومحمد بن أبي نعيم، ويونس بن إبراهيم، ويونس البلخي، وسعيد بن خثيم.
وجرت على الشافعي رحمه الله نكبة بسبب دعائه إلى يحيى بن عبدالله، وذلك أن الرشيد لما بلغه أن الشافعي يدعو إلى يحيى عليه السلام أنفذ إليه من أتى به من اليمن على حمار مقيداً مكشوف الرأس، فأدخل بغداد على تلك الهيئة.
[كتاب ابن أبي يحيى المدني، شيخ الشافعي]
ومن أفاضل أصحاب يحيى بن عبدالله عليه السلام إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الذي يقال له أستاذ محمد بن إدريس، كان من دعاة يحيى عليه السلام ومن أجلة أصحابه؛ فكتب إلى أبي محمد الحضرمي كتاباً قال فيه بعد ذكر الله والبسملة: سلام عليك فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وعلى المستوجبين الصلاة من أهله.
أما بعد؛ فقد بلغني حبك أهل البيت عامة، ويحيى بن عبدالله خاصة؛ لمكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- منهم، ولموضعهم الذي فضلهم الله به من بيننا، فلقد وُفِّقْتَ لرشدك بمودتك لهم ؛ لأنهم أحقّ الناس بذلك منك ومن الأمة ، وأقمنهم أن يقربك حبهم إلى ربك لأنهم أهل بيت الرحمة، وموضع العصمة، وقرار الرسالة، وإليهم كان مختلف الملائكة، وأهل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وعترته.
فهم معدن العلم وغاية الحلم؛ فتمسك بصاحبك واستظل بظله، وأعنه على أمره، وارض به محلاً، ولا ترض به بدلاً؛ فإنه من شجرة باسقة الفرع، طيبة النبع، نابتة الأصل، دائمة الأكل، قد ساخت عروقها فهي طيبة الثرى، واهتزت غصونها فهي تنطف الندى، وأورقت نضرة، ونوّرت مزهرة، وأثمرت مورقة، لا ينقص ثمارها الجناة، ولا يترعها السقاة، فمن نزل بها وآوى إليها ورد حياضاً تفيض، ورعى رياضاً لا تغيض، وشرب شرباً هنيئاً مرياً [متلألئاً عريضاً فضيضاً]، فرَويَ وأروى من [قرار] رواء بدلاء ملآء، مبذولة غير ممنوعة ، معروضة غير مقطوعة ، فاستمسك بالعروة الوثقى من معرفة حق الله عليك في نصرة يحيى وتحريم حرمته، واستعظم الظفر بما يلزمك من حفظه، لمكان النبي ومكان الوصي، ومكان أهله منه، وحفظ دين الله خاصة وفي أهل البيت عامة.
واحببهم جميعاً حباً نافعاً، واجعل حبك إياهم حباً دائماً بغير تقصير ولا إفراط ولا احتراق ولا اختلاق، تجمعهم إذا افترقوا، ولا تفرقهم إذا اجتمعوا، ولا تصدق عليهم أهل الفرية من (الرافضة) الغلاة؛ فإنهم العداة للقائمين بالحق من العترة، وسوء النية فيهم، والجرأة على الله بالإفك والشنآن، وهم أهل الخلابة وقلة المهابة للعواقب.
واعلم أن من اعتقد ترك ما نُهى عنه في السر الباطن، وأظهر الحق في المواطن، ولزم التقوى، وحفظ حق ذوي القربى، وتجنب في حقهم الجور والحزونة، وسلك الطريقة الوسطى، وسار فيهم بالقسط والسهولة، وأقر بالفضل لأهله، وفضل ذوي تفضيله، ودعا إلى الله تعالى وإلى كتابه وسنة نبيه، ولم ير الإغماض في دينه، ولم ينقض مبرماً، ولم يستحلّ محرماً ؛ فمن كانت هذه حاله لحق بالصالحين من سلفه ومن خير آبائه الطاهرين؛ فتدبر ما وصفت لك.
حتى قال في وصف أهل البيت: فهم كمثل من خلا من قبلهم مستهم البأساء والضراء، ونالهم المكروه واللأواء، والشدة والأذى، امتحنوا بعظيم المحن والبلوى فصبروا لله على ما امتحنهم به، وأخلصوا لله ما أرادوا منه، فحباهم على ما أسلفوا، وكافاهم بجميل ما اكتسبوا، وأحبهم لعظيم ما صبروا، والله يحب الصابرين. رزقنا الله تراحم الأبرار، وتواصل الأخيار الذين لهم عقبى الدار، وفتح لنا ولك أبواب الحكمة، وعصمنا وإياك بحبل العصمة، وشملنا بجميل النعمة، والسلام عليك ورحمة الله.
هذا كتاب حسن أردنا به الإشارة إلى اعتراف صاحبه بفضل العترة.
[ظهور الإمام يحيى بن عبدالله(ع) في الديلم]
ولما ظهر فضل يحيى بن عبدالله أصاب هارون لظهوره ما أقامه وأقعده، وخاف منه على ملكه ودنياه؛ جهز الفضل بن يحيى بالجنود، والأموال الجليلة، وأمره أن يبذل لجستان ما يحبه من الأموال ، وأوصاه أن يعرض على يحيى عليه السلام كل أمر يوافق خاطره، وأن يعظم له القطائع الجليلة على احترامه واحترام شيعته، وأن يسكن حيث أحب من البلاد.
وبذل لملك (الديلم) ألف ألف درهم على خروج يحيى من بلاده فامتنع، وأرسل الفضل بن يحيى بالأموال وأنواع التحف والهدايا فلم يؤثر ذلك فيه، واستمر على امتناعه على يحيى عليه السلام.
وكان هارون قد كتب كتاباً إلى يحيى عليه السلام وأودعه الفضل، فيه الأمان والوثاق، وبذل له من المال ألف ألف في ألف ألف في ألف ألف ، وما أحبّ من القطائع، وينزله من البلاد حيث شاء.
[كتاب الإمام يحيى(ع) إلى هارون]
وكتب يحيى عليه السلام إلى هارون جواب كتابه ونحن نذكره بكماله، ليعرف الناظر فيه فضل أئمة العترة، وأنهم لم يكونوا يبتغون الدين بالدنيا، والآجلة بالعاجلة، وأن مقاصدهم لله خالصة فيزداد معرفة بفضلهم، وعلماً بورعهم وزهدهم.
قال يحيى عليه السلام في جوابه: