[قيامه ودعوته (ع)]
ولما قام محمد بن عبدالله عليه السلام بالأمر، وظهرت دعوته في الشرق والمغرب، بايعه العلماء والفضلاء والزهاد من المعتزلة والزيدية وعيون العترة النبوية، وكان قيامه من مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعقدت له البيعة في أعناق أهل الفضل والعلم، وخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليه قلنسوة صفراء وعمامة فوقها، متوشحاً سيفاً؛ فقال في خطبته بعد حمد الله والثناء عليه: (أما بعد، يا أهل المدينة فإني والله ما خرجت فيكم وبين أظهرك لأَتَعزَّز بكم، ولَغَيركم كان أعز لي، ولكن حبوتكم بنفسي، مع أنه لم يبق مصر من الأمصار يُعْبد الله فيه إلا وقد أُخِذَتْ لي فيه البيعة، وما بقي أحد من شرق ولا غرب إلا وقد أتتني بيعته بالقيام بهذا الأمر، وإن أحق الناس بهذا الأمر لأبناء المهاجرين والأنصار، مع ما قد علمتم من سوء مذهب هذا الطاغية، الذي قد بلغ في عتوه وطغيانه أن اتخذ لنفسه بيتاً، وبوبه بالذهب يعني أبا الدوانيق).
فلينظر الناظر إلى تسدد هذا الإمام الصالح الفاضل في طاعة الله متجرداً لله؛ ثم ما كان من عاقبة أمره ونهاية حاله أن استشهد في سبيل الله، وسال دمه إلى (أحجار الزيت) كما روي في الحديث عن رسول الله.
وما قام بفريضة الجهاد حتى تعينت عليه الفريضة، وهتكت حرمة آل رسول الله الطويلة العريضة، وغَيّر أبو الدوانيق في دين الله الأحكام، وهدم قواعد الإسلام، وتجرأ على أولاد فاطمة –عليها وعليهم أفضل السلام-، حتى بلغ من أمره أنه أخذ عبدالله بن الحسن بن الحسن في جماعة من أهل بيته، وأزعجهم من المدينة وحملهم على الأقتاب حتى وصلوا إلى الكوفة، فأمر بتخليدهم في السجن وأطبقه عليهم حتى كانوا لا يفصلون بين الليل والنهار، وما زالوا فيه مسجونين حتى ماتوا، وصار ذلك السجن مشهداً لهم يعرف بمشهد عبدالله بن الحسن إلى يوم الناس هذا، فانظر إلى فضل أئمة العترة، وماذا لاقت في ذات الله، وإنما كانوا بين قتيل وطريد وأسير شريد، وخائف مترقب، وخاف متنقب.
وعن بعضهم: وكان في بعض الجبال قد اشتد به الطلب ومعه ولد صغير فسقط الولد فمات؛ فأنشأ يقول: [السريع]
منخرق الخفّين يشكو الوجا
شرده الخوف وأزرى به
قد كان في الموت له راحة
تنكيه أطراف مروٍ حداد
كذاك من يكره حرَّ الجلاد
والموت حتم في رقاب العباد
ولو أن أهل هذا البيت خرجوا من أرض السودان ليس لهم برسول الله قرابة، فتعلموا القرآن، ودانوا بشريعة الرحمن، ثم جاهدوا في الله تعالى هذا الجهاد، وبذلوا أنفسهم وأرواحهم في طاعة رب العباد، وباينوا بأقوالهم وأحوالهم أرباب الغي والفساد، ودانوا لله بالتوحيد ، ودعوا إلى طاعة الله العزيز الحميد ؛ لكان اتباعهم واجب، وودهم لازماً لازباً، ونصرتهم من فرائض الدين، وموازرتهم من شرائع سيد المرسلين، كيف وقد جمعوا بين الأفعال المرضية، والأنساب الزكية، والأحوال الرضية، والطرائق الهادية المهدية، فوا عجباً!! لنفوس عنهم مائلة ، وفي التهمام في أمرهم جائلة ، إن ذكر العلم فلهم من سلساله صفوته ، ومن إسناد رجاله ذروته ، يروي عن أبيه عن جده، فكل واحد منهم في العلم نسيجٌ وحده.
وإن ذكر الزهد في الدنيا فهم أهله وأربابه، وفيهم مركزه ونصابه، لم يفتحوا منها باباً، ولم يمسكوا لها أسباباً، أماتوا فيها الشهوات، وأحيوا بها الباقيات الصالحات، يموت أحدهم وحاجته تلجلج في صدره، ويقبر ميتهم وتدخل معه أمنيته في قبره، وتعرض الدنيا على أحدهم فيعرض عنها بوجهه، ويميت ذكرها من قلبه.
هذا، وإن ذكر الجهاد فهم فرسان جولته، وأسود صولته، ونجوم سمائه، وأقطاب هيجائه، ليوث العزمات، وعيون الأزمات، وأقمار الدجيات، والراغبون في بيع أنفسهم من الله بفراديس الجنات، وما هذه إلا صفات الأنبياء، وسمات الأبرار الأصفياء.
* * * * * * * * * * * *
[الإمام إبراهيم بن عبدالله بن الحسن (النفس الرضية) (ع)]
(97- 145هـ / 716- 763م)
وأما الإمام إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام:
فإنه كان عالماً، فاضلاً، تقياً، زكياً، ورعاً، زاهداً، شجاعاً، باسلاً، سخياً، كاملاً، ناشئاً على العلم والعفاف والصلاح والتقوى والطهارة، جامعاً بين العلم والعمل حتى بلغ أرفع رتبة، وأسنى درجة.
وسئل إبراهيم بن أبي يحيى المدني وكان من أصحابه فقيل له: قد رأيت محمداً وإبراهيم ابني عبدالله بن الحسن بن الحسن فأيهما كان أفضل؟
فقال: (والله لقد كانا فاضلين شريفين كريمين عابدين عالمين زاهدين، وكان إبراهيم يقدم أخاه محمداً ويفضله، وكان محمد يعرف لإبراهيم فضله، وقد مضيا حميدين شهيدين صلوات الله عليهما).
وكان قد خرج إلى (البصرة) داعياً لأخيه محمد بن عبدالله عليهما السلام، فأظهر الدعاء لأخيه بها وأخذ له البيعة، واستولى على البصرة وقام بالأمر هناك، حتى ورد عليه نعي أخيه أول يوم من شوال سنة خمس وأربعين ومائة وهو يريد أن يصلي بالناس صلاة العيد، فصلى بهم ثم رقا المنبر وخطب ونعى إلى الناس أخاه محمداً عليه السلام ثم تمثل: [البسيط]
أبا المنازل يا خير الفوارس من .... يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا
الله يعلم أني لو خشيتهم .... وأوحش القلب من خوف لهم فزعا
لم يقتلوه ولم أُسلِّم أخي لهم .... حتى نموت جميعاً أو نعيش معا
وكان من كلامه على المنبر: (اللهم إن كنت تعلم أن محمداً إنما خرج غضباً لدينك، ونفياً لهذه النكتة السوداء وإيثاراً لحقك؛ فارحمه واغفر له واجعل الآخرة خيراً له مرداً ومنقلباً من الدنيا) ، ثم جرض بريقه وتردد الكلام في فيه ، فانتحب باكياً وبكى الناس، ولما نزل بايعه علماء البصرة وعبادها وزهادها، واختصت (المعتزلة) به مع (الزيدية) ولازموا مجلسه وتولوا أعماله.
[مكاتبة أبي حنيفة]
وكان أبو حنيفة يدعو إليه سراً مخافة السلطان الجائر ويكاتبه.
وكتب إليه: إذا أظفرك الله بآل عيسى بن موسى وأصحابه فلا تسر فيهم سيرة أبيك يوم الجمل، فإنه لم يقتل المدبر، ولم يجهز على الجريح، ولم يغنم الأموال؛ إن القوم لم يكن لهم فئة ولكن سر فيهم سيرته يوم صفين فإنه وقف على الجريح وقسم الغنيمة لأن أهل الشام كان لهم فئة.
فظفر أبو جعفر بكتابه فسقاه شربة مات منها؛ فأبو حنيفة مات شهيداً في حب أهل البيت عليهم السلام.
وسئل شعبة الفقيه عن إبراهيم بن عبدالله، فقال شعبة: تسألونني عن إبراهيم وعن القيام معه؟ تسألونني عن إبراهيم بن رسول الله؟ (والله لهو عندي بدر الصغرى).
وروي عنه أنه قال وقد أتاه قتل إبراهيم بن عبدالله: (لقد بكى أهل السماء على إبراهيم بن عبدالله).
وعن إبراهيم بن سويد الحنفي، قال: سألت أبا حنيفة وكان لي مكرماً أيام إبراهيم بن عبدالله فقلت: أيهما أحب إليك بعد حجة الإسلام الخروج إلى هذا الرجل أو الحج؟ فقال: (غزوة بعد حجة الإسلام أفضل من خمسين حجة).
وكان إبراهيم عليه السلام يقول: (هل هي إلا سيرة علي عليه السلام أو النار).
وكان من كلامه: (إني وجدت جميع ما يطلبه العباد من جسيم الخير عند الله في ثلاث في المنطق والنظر والسكوت، وكل منطق ليس فيه ذكر فهو لغو، وكل سكوت ليس فيه ذكر فهو سهو، وكل نظر ليس فيه اعتبار فهو غفلة؛ فطوبى لمن كان منطقه ذكراً، ونظره اعتباراً، وسكوته تفكراً، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته، وسلم المسلمون منه) وهذه الكلمات على قلتها جامعة للخير كله.
[ومن القائلين بإمامته من جمهور العلماء]
وقال بإمامته جمهور العلماء من (المعتزلة) و(الزيدية)، وكان أبو حنيفة يعظمه ويكرمه ويفتي الناس بالخروج معه.
قال إسحاق الفزاري: جئت إلى أبي حنيفة فقلت له: ما اتقيت الله في أخي حيث أفتيته بالخروج مع إبراهيم بن عبدالله حتى قتل؟ فقال لي: قتل أخيك مع إبراهيم بن عبدالله يعادل قتله لو قتل يوم بدر، وشهادته مع إبراهيم خير له من الحياة، قلت: فما منعك أنت من ذلك؟ قال: ودائع كانت للناس عندي، وقد تقدم ما رويناه عن الزمخشري حيث روى أنها جاءت إلى أبي حنيفة المرأة التي أمر ولدها بالخروج مع إبراهيم بن عبدالله فقتل، وكلامه لها.
وقد ذكر الشيخ أبو الفرج في (مقاتل الطالبيين) العلماء الذين خرجوا مع إبراهيم عليه السلام، وفيهم الزهاد والعباد كبشير الرحال ومطر الوراق.
قال: وبعث أبو جعفر رجلاً يتجسس له أخبار إبراهيم وأحواله فلما رجع إليه، قال له: كيف رأيت بشير الرحال ومطر الوراق؟ قال: رأيتهما يدخلان إلى إبراهيم عليهما السلاح، فقال: ما كنت أرى أن الصوم أبقى منهما ما يحملان به السلاح.
وأخباره عليه السلام كثيرة ولم نتعرض لها وإنما ذكرنا هذا الكلام إشارة إلى فضله، وأن انقياد العلماء له وإجابتهم لدعوته ما كان ذلك إلا لعلمه، ولو لم يكن في أهل البيت إلا هذان الأخوان وقيامهما لله وجهاداً في سبيل الله حتى قتلا شهيدين، وقَدِمَا على رسول الله حميدين لكان لهم بهما مزية، وفي الفضل بمكانهما رتبة سنية، كيف وأئمتهم كلهم على هذا المنوال في كمال الصفات والأحوال.
وقد ذكر الحاكم رحمه الله محمد وإبراهيم ويحيى أبناء عبدالله بن الحسن، قال: وقد بينا إمامتهم وثبوتها في (كتاب الإمامة) فلا شبهة في اجتماع الخصال فيهم، وأنه تابعهم الخلق.
وعن الحسين بن زيد قال: (شهد مع النفس الزكية من ولد الحسين أربعة أنا وأخي عيسى بن زيد، وعبدالله وموسى ابنا جعفر بن محمد).
[الإمام الحسين بن علي (صاحب فخ) (ع)]
(128- 169هـ / 746- 786م)
وأما الإمام الطاهر الفاضل الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن الفخي عليه السلام:
فإنه كان من العلم والفضل والزهد والكرم والصلاح والعفاف وأوصاف الكمال كلها بمكان لا زيادة عليه ولا ينتهى إليه ، وكان الغالب على أخلاقه السخاء ، فإنه يروى أنه كان يعطي كلما يجد ويتَديَّن إذا لم يجد ويقول: (ما أظن الله يثيبني على هذا العطاء لما أجد في نفسي من الشهوة له، وإنما الثواب على قدر الكلفة والمشقة).
نشأ على منهاج السداد وطريق الرشاد جامعاً بين العلم والعمل حتى انتهى إلى ذروة الشرف والكمال، وحاز محاسن الخلال، ومحامد الخصال، وجمع شرائط الإمامة على الوفاء، واستولى على قصبات السبق غاية الاستيلاء، وروى فيه العلماء ما يقضي بفضله من الآثار.
[الآثار الواردة فيه عَلَيْه السَّلام]
فمن ذلك: ما رواه أبو الفرج في (مقاتل الطالبية) بإسناده عن زيد بن علي، قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى (موضع فخ) فصلى بأصحابه صلاة الجنائز ثم قال: ((يقتل هاهنا رجل من أهل بيتي في عصابة من المؤمنين ينزل لهم بأكفان وحنوط من الجنة تسبق أرواحهم إلى الجنة قبل أجسادهم)) .
وروى بإسناده عن محمد بن علي الباقر قال: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفخ فنزل فصلى ركعة فلما صلى الثانية بكى وهو في الصلاة ، فلما رأى الناس النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبكي بكوا؛ فلما انصرف قال عليه السلام: ما يبكيكم؟ قالوا: رأيناك تبكي فبكينا يا رسول الله ، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((نزل جبريل عليه السلام لما صليت الركعة الأولى فقال يا محمد إن رجلاً من ولدك يقتل في هذا المكان وأجر الشهيد معه أجر شهيدين)) .
وكان أبوه علي بن الحسن من العبادة على صفة خارجة عن العادة، وكان أهله في حبس أبي الدوانيق لا يعرفون أوقات الصلاة إلا بتلاوته للقرآن في وظائف عبادته التي قد كان وظفها، لأن أبا الدوانيق حبسهم في موضع لا يميزون فيه بين الليل والنهار فكانوا لا يهتدون لمعرفة الأوقات إلا بتلاوته عليه السلام.
[قيامه عَلَيْه السَّلام]
وما قام الحسين ودعا إلى نفسه حتى ظهرت المنكرات، وفشأت المقبحات، وبايعه العلماء والسادة من أهل بيته، وكان ممن بايعه إبراهيم بن إسماعيل أبو القاسم بن إبراهيم.
قال عليه السلام: حدثني أبي قال: بايعنا الحسين بن علي الفخي على أنه هو الإمام، وخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال بعد حمد الله والثناء عليه: (أنا ابن رسول الله على منبر رسول الله في حرم رسول الله أدعوكم إلى سنة رسول الله).
وقال: (أيها الناس أتطلبون آثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحجر والعود وتمسحون بذلك وتضيعون بضعة منه).
وخرج من المدينة عازماً على الحج بعد أن أظهر الدعوة (بالمدينة) وتوجه في جماعة من أهل بيته وقوم من شيعته إلى (مكة) حرسها الله، فلما صاروا بواد يقال له (فخ) أقبلت (المسودة) من عساكر بني العباس.
[خبر أبي العرجاء الجمّال]
وعن أبي العرجاء جمّال عيسى بن موسى وهو أمير الجيش، قال: لما وصلنا بستان بني عامر نزل فقال: اذهب إلى عسكر الحسين حتى تراه وتخبرني بكلما رأيت قال: فمضيت فما رأيت خللاً ولا فللاً ولا رأيت إلا مصلياً أو مبتهلاً أو ناظراً في مصحف أو مُعدّاً لسلاح.
قال: فجئته فأخبرته فضرب يداً على يد وبكى حتى ظننت أنه سينصرف ثم قال: (هم والله أكرم عند الله وأحق بما في أيدينا منا، ولكن الملك عقيم، والله لو أن صاحب القبر نازعنا الملك ضربنا خيشومه بالسيف).
ولما كانت الوقعة أصابت الحسين بن علي جراحة والدم لا يرقى فقال له من قال: أنت في هذه الحال لو تنحيت فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن الله ليبغض العبد يستأسر إلا من جراحة مثخنة)) .