وكان يسمى النفس الزكية لورود الأثر فيه: ((يقتل فيسيل دمه إلى أحجار الزيت)) وقد كان كذلك، وكانت له شامة في كتفيه تشبه شامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكره السيد أبو طالب، وفي ذلك يقول بعض شيعته: [الطويل]
إن الذي تروي الرواة لبيّنٌ .... إذا ما ابن عبدالله فيهم تجرّدا
له خاتمٌ لم يعطه الله غيره .... وفيه علامات من البر والهدى
وهو أول من خوطب بأمير المؤمنين من أهل البيت المطهرين، وبعده محمد بن جعفر بن محمد، وفاق محمد بن عبدالله سادات العترة في زمانه، كان غزير العلم وافر الفهم قد سمع من آبائه الحديث، وسمع من نافع وابن طاووس، وله (كتاب السير) المشهور.
قال السيد أبو طالب: سمعت جماعة من فقهاء أبي حنيفة وغيرهم يقولون: إن محمد بن الحسن نقل أكثر مسائل السير من هذا الكتاب، وفيه من غريب الفقه ما يدل على عظيم منزلته، وعلو مرتبته.
[مما قيل فيه عَلَيْه السَّلام]
وروى أبو الفرج بإسناده عن عيسى بن زيد عليهما السلام قال: (لو أنزل الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه باعث بعده نبياً لكان ذلك محمد بن عبدالله بن الحسن).
فهذا كلام عيسى بن زيد وهو من أقمار الهدى، وممن لا يتمارى في فضله، ولا يشك في ورعه ونبله.
وروى أبو الفرج بإسناده، قال: سمعت عبدالله بن حفص العامري يقول في حديث حدّث به عن محمد بن عبدالله: حدثني من لم تر عيني والله ممن خلق الله خيراً منه، ولا أراه أبداً محمد بن عبدالله عليهما السلام.

وكان أبو جعفر المنصور العباسي يقول قبل خلافته في محمد عليه السلام: (هذا مهدينا أهل البيت) وكان يعظمه ويخدمه بنفسه ويقر بفضله، ثم انتهى حاله بعد ذلك إلى سفك دمه في حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني حرمت المدينة من عير إلى ثور لا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها)) ؛ فكيف ترى من سفك في حرمها بضعة من لحمه، وأهلك فيها نفساً من نفسه.
وعن أخيه إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن الحسن وقد سئل عن محمد أخيه أهو (المهدي المنتظر) فقال: المهدي عِدَةٌ من الله لنبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وعده أن يجعل من أهله مهدياً لم يسمه بعينه، ولم يوقت زمانه، وقد قام أخي بفريضته عليه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن أراد الله أن يجعله المهدي الذي ذكر فهو فضل الله يمنّ به على من يشاء من عباده، وإلا فلم يترك أخي فريضة الله عليه لانتظار ميعاد لم يؤمر بانتظاره.
[من كلامه عَلَيْه السَّلام]
ومن كلامه عليه السلام: (والله ما يسرني أن الدنيا بأسرها عوضاً عن جهادهم، إن امرءاً لا يصبح حزيناً ويمسي حزيناً مما يعاين من أعمالهم، إنه لمغبون مفتون).

وخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (والله لقد أحيا زيد بن علي ما دثر من سنن المرسلين، وأقام عمود الدين إذ اعوج، ولن ننحو إلا أثره، ولن نقتبس إلا من نوره ، وزيد إمام الأئمة ، وأول من دعا إلى الله بعد الحسين بن علي عليهم السلام).
ومن كلامه عليه السلام: (فلا تراثنا أُوْفِيْنَاهُ ولا سهمنا أُعْطِينَاه، وما زال يولد مولودنا في الخوف، وينشو ناشئنا في القهر والغلبة، ويموت ميتنا بالذل والقتل بمنزلة بني إسرائيل تذبح أبناؤهم وتستحيى نساؤهم، وإنما فخرت قريش على سائر الأحياء بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ودانت العجم للعرب بادعائها لحقنا، والفخر بأبينا صلى الله عليه وآله وسلم، ثم مُنعنا حقه، ودفعنا عن مقامه، أما والله لو رجوا التمكين في البلاد، والظهور على الأديان، وتناول الملك بخلاف إظهار التوحيد، وبخلاف الدعوة إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والإذعان منهم بالقرآن، لاتخذوه أساطير مختلقة بأهوائهم، وعبدوا الأوثان بآرائهم، ولاتخذوا من أنفسهم زعيماً).
[كتابه إلى خواص أصحابه]
ومن كتاب له عليه السلام كتبه إلى خواص أصحابه، يذكر فيه منة الله على خلقه برسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويذكر فضل أمير المؤمنين عليه السلام، وما لاقى أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعده، فقال فيه بعد ذكر الله تعالى: أما بعد،

فإن الله جل ثناؤه بعظمته ألزم نفسه علم الغيوب عن خلقه، لعلمه أنها لا تصلح إلا له، ثم أنشأ خلقه بلا عون، ودبر أمره بلا ظهير، ابتدأ ما أنشأ على غير مثال من معبود كان قبله ، ثم اختار لتفضيله بعلمه من ملائكته ورسله من ائتمنه على أسرار غيوبه، لم تلاحظه في الملكوت عين ناظرة ، ولا يد لامسة ، متفرد بما دبر، ذلكم الله رب العالمين.
إلى أن أخرج محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من خير نسل ذوي العزم من الرسل، تناسخته دوارج الأصلاب إلى مطهرات الأرحام ، حتى استخرجه خير جنين، وأصحبه خير قرين، أرسله بنور الضياء إلى أهل الظلم والكفر.
وقد نسكوا وذبحوا للأصنام، واستقسموا بالأزلام، مترددين في حيرة الضلالة، كلما ازدادوا في عبادتهم جهلاً ازدادوا من الله بها بعداً، حتى تصرمت عنهم مدة البلاء بقيام محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيهم يدعوهم إلى النجاة، ويضمن لهم الظفر في الدنيا، وحسن المثوبة في الآخرة ، ويخبرهم عن القرون الماضية كيف نجا من نجا منهم بالاستجابة لرسلهم، وكيف بعث العذاب على من تولى منهم، وصارت آثارهم وديارهم خاوية على عروشها، كيف تركوها وما فيها؟ فقال: يا قوم احذروا مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود، فأبوا إلا التكذيب بالتوحيد، واستعظموا أن يجعلوا الآلهة إلهاً واحداً.

فلما أمر أن يُجَاهِد بمن أطاعه من عصاه كبر عليه مجاهدة الكثير من المشركين بالقليل من المسلمين ، ضمن الله له عاقبة الأمر والظفر ، وشد له أزره وأعانه بابن عمه وابن صنو أبيه، وشريكه في نسبه، ومؤنسه في وحدته، من الشجرة المباركة [فرعاهما، دعا] فاستجاب له على ضراعه من سنه، حتى سيط الإسلام بلحمه ودمه، لم يخشع بين يدي آلهتهم وعُزَّاهُم ، وغيره خاشع لها عاكف عليها هي له منسك ؛ إلى أن اشتد على التوحيد عظمه، وعظمت في اتخاذ الخير هممه.

إليه يستريح رسول الله بأسراره، فكان هو عليه السلام الصديق الأكبر، والفارس المشتهر، سابق العرب إلى الغاية، ليس أمامه فيها إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المرسل بالكتاب المنزل، يصلي بصلاته، ويتلو معه آياته، تفتح لعملهما أبواب السماوات السبع، تهوي جبهته مع نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى القبلة المجهولة عند قومه، ليست إصبع يمدها متوسلاً إلى الله جل ثناؤه غير اصبعه ، ولا ظهرٌ يحنو لله في طاعته غير ظهره، إن ساماهم بشرفه في أولويته سبق عليهم بفارع غصون مجده، وعواطف شرف من قام عنه من أمهاته، ثم نشأ في حجر من نشأ، يؤدبه بالكتاب إذ غيره يباكر عبادة الأصنام، شهد له القلم الجاري بعلمه في حال الفردانية، إذ هو يسارق الصلوات أهله إذ لا قلم جار ولا شهيد على مطيع ولا عاص غيره، يكانف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مواطنه، ويستريح إليه بأسراره، ويستعد به لهممه، إذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو المستوحش من جماعتهم، والخائف على دمه منهم، إن زال النبي صلى الله عليه وآله وسلم زال معه، وإن غال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر وقاه بنفسه؛ فمن يساويه وهذه حاله -صلوات الله عليه-.

والحال هذه حال القوم في كفرهم بربهم وإنكارهم رسوله، واختيارهم عبادة أوثانهم، وعلي بن أبي طالب يعظم ما صغروا ، ويكرم ما أهانوا، حتى دخل من دخل في دين الله رغبة أو رهبة ، فلما طال على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تكذيب قومه إياه، استشار علياً عليه السلام فقال: ((ما ترى؟)) قال: يا رسول الله ها سيفي، وكان بالضرب به دونه جواداً، قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((إني لم أؤمر بالسيف، فنم على فراشي وق بنفسك نفسي حتى أخرج فإني قد أمرت بذلك)) ، فنام على فراشه ووقاه بنفسه، باذلاً لمهجته، واثقاً بأن الله غير خاذله، ومن يدعي له الفضل عليه إما راصداً لرسول الله، أو معين عليه، أو جالس عنه، همهم في ذبائح الغنم على الأصنام، والاستقسام بالأزلام، وأقلام الملائكة تصعد بعمل رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما استقرت به الدار، وحلَّ في الأنصار؛ أمر الله جل ثناؤه أن يشهر سيف التوحيد، وضمن له التأييد، فجاءت حال المنابذة، وتدانت الزحوف أيده الله جل ثناؤه بعلي بن أبي طالب، فقام إليهم وله خطران بسيفه ذي الفقار، فسألوه عن النسبة، فانتهى إلى محل اليفاع الذي ليس لأحد عنهم مرغب، وأوجل الله قلوبهم من مخافته حتى اجتنبوا ناحيته، فما زالت تلك المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى سئمه رجال من قريش ، وحتى تشاغلت نساؤهم بالمآتم، فكم من باكية داعية أو موتور قد احتسى غلته بفُقْدَانِه أباه أو أخاه أو عمه أو

خاله أو حميمه، يخوض مهاوي الغمرات بين أسنّة الرماح ، لا يثنيه عن نصرة رسول الله نبوة حداثة ، ولا ضن بمهجته، حتى استولى على الفضل والجهاد في سبيل الله، وكان أحب الأعمال إلى الله، وزرع إبليس عدوّه بغضه في قلوبهم، فلاحظوه بالنظر الشزر، وكَسّروا دونه حواجبهم، ورشوا بالقول فيه والطعن عليه، فلم يزده الله بقولهم فيه إلا ارتفاعاً، كلما نالوا منه نزل القرآن بجميل الثناء عليه في آي كثير من كتاب الله، قد غمهم مكانه في المصاحف، ومن قبل ما أثبته جل ثناؤه في وحي الزبور أنه وصي الأوصياء، وأول من فتح بعلمه أبواب السماء.
فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أولاهم بمقامه، ليس لأحدٍ مثله في نصرته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأخ ليس لهم مثله له جناحان يطير بهما في الجنة، وعم له سيد الشهداء في جميع الأمم، وابنان هما سيدا شباب أهل الجنة، وله سيدة نساء العالمين.
ولما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أخذ أهله في جهازه إلى ربه، واختلفوا فيمن يلي الأمر من بعده، فقالت الأنصار: نحن الذين آوينا ونصرنا.
فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فأتى أبا بكر وهو بباب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينتظر جهازه والصلاة عليه، فقال له: إنك لغافل عما أسست الأنصار وأجمعوا عليه من الصفقة على يد سعد بن عبادة.

ثم تناول عمر يده فجذبه فأقامه، حتى انتهى إلى سعد وقد عكفوا عليه وازدحموا حوله، وتكلم أبو بكر وقال: يا معشر الأنصار أنتم الجيران والإخوان، وقد سمعتم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن هذا الأمر لا يصلح إلا في قريش)) وقد علمت العرب أني أوسطها داراً، وأصبحها وجهاً، وأبسطها لساناً، وأن العرب لا تستقيم إلا علينا.
فقال عمر: هات يدك يا أبا بكر أبايعك، فمد يده أبو بكر فضرب عليها بشير بن سعد، ثم ثلث أبو عبيدة بن الجراح، ثم تتابعت الأنصار.
فبلغ ذلك علياً فشغله المصاب برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن القول لهم في ذلك، واغتنموا تشاغله برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنظر علي عليه السلام لدين الله قبل نظره لنفسه ، فوجد حقه لا ينال إلا بالسيف المشهور ، وتذكر ما هم به من حديث عهد بجاهلية، وكره أن يضرب بعضهم ببعض فيكون في ذلك ترك الإلفة.
فأوصى بها أبو بكر إلى عمر من غير شورى، فقام بها عمر وعمل على الولاية بغير عمل صاحبه، ليس بها عهد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا تأول كتاب، إلا رأي توخاه هو فيه مفارق لرأي صاحبه، جعلها بين ستة نفر، وضع عليهم أمناء أمرهم إن اختلفوا أن يقتلوا الأقل من الفئتين، وصغروا ما عظم الله، وصاروا سبباً لولاة السوء، سدت عليهم أبواب التوبة، واشتملت عليهم النار بما فيها، والله جل ثناؤه بالمرصاد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

هذا كلام الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية، وإنما نقلناه بكماله لأنه جمع قواعد في مذهب الزيدية متفرقة، وأصولاً مشتتة، وكان عليه السلام القدوة في كلامه ومذهبه، وليس بينه وبين أمير المؤمنين إلا ثلاثة أبوه عبدالله الكامل، وجده الحسن المثنى الفاضل، وجده الحسن بن علي سبط النبوة، وسيد شباب أهل الجنة ، ورضيع أخلاف الكتاب والسنة؛ فمن يكون أصح مذهباً وأقوى إسناداً من هذا؟ وأما قوله في آخره: (وصاروا ولاة السوء) إلى آخر ما ذكره ؛ فالمراد به فيما أحسبه خلفاء بني أمية وبني العباس، لأن الأصل في تمكنهم البلاد والعباد؛ صرف الأمر عن أمير المؤمنين وذريته الطاهرين.

22 / 39
ع
En
A+
A-