وابحث كتبهم وتواريخهم تجدهم مطبقين على عدم القول بإمامته، وليت أنهم نزّلوه منزلة عمر بن عبد العزيز فهو أقرب إلى رسول الله منه، وأفضل سعياً وجهاداً وعلماً واجتهاداً؛ وهم عنه مائلون وبعمر بن عبد العزيز قائلون.
ولقد ناظرت رجلاً أهل بصيرة من الجبرية فذكرت له فضل زيد بن علي عليه السلام، فقال: ومن هذا زيد؟ هل هو زيد بن ثابت أو زيد بن حارثة؟
قلت: أفضل منهما زيد بن علي بن الحسين بن علي؛ فأنكر أن يكون عارفاً له نسباً فضلاً أن يعرف له فضلاً ومذهباً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولقد أذكرني قول المتنبي: [المنسرح]
ويُظهرُ الجهلَ بي وأَعرِفُهُ .... والدرُّ در بِرَغْمِ مَنْ جَهِلَهْ
وصنف زيد بن علي (مجموع الفقه) وهو أول من صنف من العترة النبوية، وبوّب في الفقه أبواباً وتكلّم عليها، وليس بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا ثلاثة: أبوه وجده الحسين بن علي وأمير المؤمنين عليه السلام.
فهو يروي عن أبيه زين العابدين، وأبوه عن أبيه سبط سيد المرسلين، وهو عن أبيه خاتم الوصيين الأنزع البطين.
فمن أولى بالتقليد والاتباع في الدين؟ من لم يكن بينه وبين صاحب الشريعة إلا أبوه وجده وجد أبيه ثلاثة، اثنان معصومان والثالث قريب من العصمة؟ أم غيره من علماء الأمة؟ لولا قلة الإنصاف واستمراء أخلاف الخلاف، فلينظر الناظر لنفسه.
وقد ذكرنا من حديث أبي جعفر الباقر محمد بن علي عليهما السلام تعظيمه لزيد، وأنه كان يقول فيه: (هذا والله سيد بني هاشم)، وقصته معه في كتاب أبيه الذي كان طلبه منه وأنه استغنى عنه بكتاب الله، وفي بعض كلام الباقر دليل عظيم على علم زيد عليهما السلام؛ فإن (الباقر) إنما سمي بهذا الاسم لتبقره في العلم، والتبقر: التوسع.
فإذا اعترف الباقر لزيد بالسيادة فقد اعترف له بالزيادة عليه في العلم بقوله لأبي خالد وأبي حمزة وقد تقدم ذكرهما: يا أبا خالد ويا أبا حمزة (إن زيداً أعطي من العلم علينا بسطة) فصح بإقراره عليه السلام واعترف أن زيداً كان أعلم منه وأفضل؛ فما ظنك برجل فاق الباقر فضلاً وعلماً، واعترف بفضله وصحة إمامته أبو حنيفة أكثر الأمة فقهاً.
نعم قد ذكرنا أن زيداً عليه السلام أول من صنف من أهل البيت عليهم السلام، وأنه كان يَهُذّ تفسير الفاتحة والبقرة على لسانه من ظاهر قلبه.
هذا، فإنه عليه السلام لو عاش وأمهلته الأيام لكان علمه أكثر وتصنيفه أوفر، وهكذا غيره من أهل البيت عليهم السلام ، وقد صنّف بعده سبطه أحمد بن عيسى بن زيد عليهم السلام، وهو يعرف بفقه آل محمد كتابه المعروف (بالعلوم) وفيه دليل على علمه، وصنف بعده الإمام المهدي لدين الله محمد بن عبدالله على ما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى.
فانظر إلى انحراف هذه الأمة عن أهل بيت نبيها وسبب نجاتها، وماء حياتها، هذا زيد بن علي سيد أئمتهم، والفاتح بجهاده واستشهاده باب الجنة لهم، لا يذكره أحد من أهل المذاهب غالباً بخير.
قال القاضي الإمام شمس الدين جعفر بن أحمد رضي الله عنه: إنه عليه السلام حين سمع اليهودي يسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مجلس هشام، نهر اليهودي ورد عليه مقالته وزجره، فقال له هشام لعنه الله: مهلاً يا زيد لا تؤذي جليسنا؛ فخرج زيد مغضباً لله وهو يقول: (من أحب البقاء استشعر الذل إلى الفناء).
ثم بثّ الدعاة في الآفاق، فأجابته العلماء من كل طائفة، ولم يتأخر عن إجابة دعوته أحد من فرق الإسلام إلا الإمامية فإنهم رفضوا إمامته وبهذا سموا (الرافضة).
[إعراض المؤرخين عن ذكر أئمة أهل البيت(ع) وفضلائهم]
فلو أنصف أهل الملة المحمدية زيداً عليه السلام لعظموه لمجرد هذه المنقبة الزهراء، والفضيلة الشادخة الغراء، وهي غضبه لله لسب نبيهم الزكي الأطهر بين يدي جبار عنيد، فكان بسبب ذلك إراقة دمه في سبيل الله، وصَلّب جسمه وقطع رأسه، وتحريقه بَعْدُ بالنار وذري جسده دقيقاً في الفرات، لو فعل هذا بعبد حبشي رأسه كالزبيبة غَضِبَ لله بسب رسول الله ثم صُنع به ما صنع بزيد بن علي لكانت محبته واجبة على الأمة، ولكان تعظيمه يجب على كل نفس مسلمة؛ كيف به وهو من أوسط دوحة النبوة وغصن من أغصانها، وثمر من أفنانها.
عن بعض أصحابه عليه السلام: كنت إذا رأيت زيد بن علي رأيت أسارير النور في وجهه.
ووصفه بعضهم فقال: كان وسيماً جميلاً أديباً قد أثر السجود في جبهته.
قال السيد أبو طالب في وصفه عليه السلام: كان أبيض اللون، أَعْين، أقرن الحاجبين، تام الخلق، طويل القامة، كث اللحية، عريض الصدر، أقنى الأنف، أسود الرأس واللحية إلا أن الشيب خالطه في عارضيه.
وفي صلبه عليه السلام: له فضائل أعرضنا عن ذكرها لأن مرادنا [أن] نذكر فضله في علمه وجهاده، وأن الأمة انحرفت عنه لا لسبب إلا العلم والفضل والجهاد، ومصداق ذلك ما نزله من إسقاط أكثر علماء التاريخ لذكره، وإهمالهم لما ظهر من فضله واشتهر من أمره.
هذا ابن الذهبي وهو سلطان المؤرخين وأستاذ المسيرين قال فيه ما حكيناه من مقالته، واختصر عن كتابة تاريخ شرفه ونبالته، كأنه لم يكن من النبلاء، ولم يعد من العلماء الفضلاء، ولله القائل: [الطويل]
وفي تعبٍ من يَحسُدُ الشمسَ نورهَا .... ويَجهدُ أن يأتي لها بضريبِ
وهذا ابن خلكان أعرض عنه صفحاً، وطوى عن ذكره كشحاً، مع ذكره لطماطمة الأكراد، الذين يشين ذكرهم الكاغد والمداد.
ذكر في (حرف الزاي) أبا دلامة الحبشي، فأورد جميع مضحكاته وخرافاته، وأهمل ذكر زيد بن علي نافلة النبي والوصي، وأخلى كتابة محاسن آياته، وبواهر كراماته، ولم يتفطن لما شاع له من الذكر الجميل في بلاد الإسلام، وانتشر من الثناء الحسن في فرد ثلاثة أيام.
وصدر أول حرف الجيم (جرير بن عطية) الشاعر، وأخر بعده جعفر الصادق بن محمد الباقر، وجعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه، هكذا وصفه ابن أبي الحديد، وروي أن أبا حنيفة من تلامذته وسفيان الثوري من تلامذته وحسبك بهما في هذا الباب.
قال: ونسب سفيان الثوري إلى أنه زيدي المذهب، وكذلك أبو حنيفة، ومحمد بن علي الباقر بشر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لم يخلق بعد)) وسماه الباقر، ووعد جابر بن عبدالله الأنصاري برؤيته وقال: ((ستراه طفلاً فإذا رأيته فأبلغه عني السلام)) فعاش جابر حتى رآه وقال له ما وصي به. ذكر ذلك كله العلامة ابن أبي الحديد وغيره.
ومن كان موالياً للعترة وجد لذكرهم مجالاً، ومن كان معادياً لهم لم يرض في وصفهم مقالاً، وليتهم إذ جحدوا فضلهم الظاهر وعلمهم الباهر، نزهوهم عن الذكر مع تلك الأشباه والنظائر، وعرفوا أن الأحجار لا تنتظم مع الجواهر.
ولم يقنع ابن خلكان حتى جعل ذكر زيد عليه السلام وألحقه كالتتمة لذكر الوزير الظالم ابن بقية، الحقه في آخر ترجمته، ولزه في نمط مرثيته، وذلك أن ابن بقية لما قبض عليه عضد الدولة وقتله وصلبه، رثاه محمد بن عمر الأنباري بأبيات فائقة، وبذلك المعنى لائقة ، فَذَكّرته واقعة بن بقية واقعة زيد عليه السلام وكان ناسياً، ونبهته على ذكر صلته وكان ساهياً.
[مرثية الوزير ابن بقية]
ومن أحسن ما يوصف به زيد بن علي عليه السلام في صلبه هذه الأبيات، فإنها به أليق وهو بها أحق، وهي: [الوافر]
علو في الحياة وفي الممات .... لحقٌ أنت إحدى المعجزاتِ
كأن الناس حولك حين قاموا .... وفودُ نداك أيام الصلاتِ
كأنك قائم فيهم خطيباً .... وكلهم قيام للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاء .... كمدهما إليهم بالهبات
أصاروا الجو قبرك واستنابوا .... عن الأكفان ثوب السافيات
وتشعل عندك النيران ليلاً .... كذلك كنت أيام الحياة
ركبت مطية من قبل زيد .... علاها في السنين الماضيات
وتلك فضيلة فيها تأسٍ .... تباعد عنك تعيير العداتِ
أسأت إلى النوائب فاستثارت .... فأنت قتيل ثأر النائباتِ
وكنت تجير من جور الليالي .... فعاد مطالباً لك بالترات
وصير دهرك الإحسان فيه .... إلينا من عظيم السيئات
وكنت لمعشر سعداً فلما .... مضيت تفرقوا بالمنحسات
غليل باطن لك في فؤادي .... يخفف بالدموع الجاريات
ولو أني قدرت على قيام .... لفرضك والحقوق الواجبات
ملأت الأرض من نظم القوافي .... ونُحْتُ بها خلاف النائحات
ولكني أُصَبّر عنك نفسي .... مخافة أن أعد من الجناة
وما لك تربة فأقول تسقى .... لأنك نصب هطل الهاطلات
عليك تحية الرحمن تترى .... برحمات غوادٍ رائحاتِ
ولقد عبرت قريحة هذا الشاعر عن صلب الإمام الولي بأحسن عبارة، وأشارت إلى صفته ألطف إشارة، وما أحسن قوله: أصاروا الجو قبرك..إلى آخره.
[مماثلة شعرية للمؤلف]
ولكنا نقول في زيد عليه السلام:
أصاروا البحر قبرك واستنابوا .... عن الأكفان ثوب الذاريات
ونزيد عليها فنقول هذه الأبيات:
وأنت عظمت عن قبر عظاماً
وكنت الطود لم تدرج بكفن
ولم أرى قبل جذعك قط جذعاً
ولا متعرياً نسجت عليه الـ
يدافع عنه أنصار الأعادي
عليك صلاة ربك مستكناً
كأنك كنت لؤلؤة فرُدّت
وضاق البر عنك فكان أولى
وناسبت البحار فكنت فيها
وما لك تربة فأقول تسقى
لعاً لأبي الحسين البر زيد
وكان الدفن ذرواً في الفرات
فأدرج في نسيج الجاريات
تمكن من عناق المكرمات
ـعناكب محكمات الساترات
مدافعة الدروع السابغات
بأصداف البحار الزاخرات
إلى صدف البحار الطاميات
بك البحر المحيط إلى الجهات
لتجتمع الصفات إلى الصفات
لأنك بين أمواج الفرات
وما لاقاه من فعل الطغاة
نعم قال ابن خلكان بعد ذكر الأبيات المتقدمة: وزيد المذكور هو أبو الحسين زيد بن علي بن الحسين رضي الله عنه، وكان قد ظهر في أيام هشام بن عبد الملك، ولم يذكر سوى قتلته وصلبه وصفة دخولهم برأسه إلى مصر لا غير.
فانظر إلى ابن خلكان كيف أهمله وتناسى مع معرفة مكانه وفضله؛ لو أراد له ذكراً لذكره، وكيف وقد طبقت الأقاليم أوصافه السنية، وأنسى مصابه مصاب ابن بقية؛ فما ذكر صاحب التاريخ غيره ، فأثار ذلك من قلوبنا غيرة ، ولو أردنا ذكر ما رثي به زيد بن علي -عَلَيْهما السَّلام- لملأنا به الأوراق، وذكرنا فيها ما فاق وراق.
فقد رثته عيون السادة والشيعة، وبكته عيون النبوة والشريعة، وقال بعض شيعة زيد عليه السلام وقد أدخل رأسه إلى هشام، فألقي في عرصة الدار تطأه الأقدام، وتنقر دماغه الدجاج: [الخفيف]
أطرد الديك عن ذؤابة زيدٍ .... فلقد كان لا تطأه الدجاجُ
وقال شاعر بني أمية يذكر زيداً عليه السلام وصلبه: [الطويل]
صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة .... ولم أر مهدياً على الجذع يصلبُ
وقستم بعثمان علياً سفاهة .... وعثمان خير من علي وأطيبُ
فيروى أن بعض الصالحين من أهل البيت عليهم السلام قال: اللهم إن كان كاذباً فسلّط عليه كلبك، فخرج يوماً لسفر له فعرض له الأسد فافترسه، هكذا رواه ابن أبي الحديد في شرحه.
[طرف من مفاخرة الهاشمية والأموية]
وروى مفاخرة الهاشمية والأموية بما لكل فريق من المفاخر والمناقب حتى ذكروا الخطاب والبيان والفصاحة، فقال بنو هاشم: لنا من الخطباء زيد بن علي، وجعفر بن الحسن بن الحسن، وعبدالله بن الحسن بن الحسن.
قالوا: وكان جعفر بن الحسن بن الحسن ينازع زيد بن علي بن الحسين في الوصية فكان الناس يجتمعون ليسمعوا محاورتهما.
وتفاخروا بالفقه والعلم والتفسير والتأويل؛ فقال بنو هاشم: لم يكن لبني أمية في هذا شيء، ولنا فيه علي بن أبي طالب، وعبدالله بن العباس، وزيد بن علي وأخوه محمد بن علي أبناء علي بن الحسين، فانتقل بنو هاشم من عبدالله بن عباس إلى زيد بن علي وقدموه على أخيه الباقر، وفي هذا دليل عظيم على فقهه وعلمه وقدموه على أبيه زين العابدين.
ومن مثل علي بن الحسين وقد قال الشافعي في (الرسالة) في إثبات خبر الواحد: وحدث علي بن الحسين وهو أفقه أهل المدينة يعول على أخبار الآحاد.
فانظر إلى كلام الشافعي أنه وجد علي بن الحسين أفقه أهل المدينة، وفي المدينة مالك بن أنس الأصبحي يفضله عليه، وفضل بنو هاشم زيداً على أبيه؛ وذكروه في الفقه للافتخار به ولم يذكروا معه في الفقه أباه وأخروا عنه أخاه.
وروى الحاكم رحمه الله عن جابر، قال: سألت [محمد] عن زيد بن علي فقال: (سألتني عن رجل ملئ إيماناً وعلماً من أطراف شعره إلى قدمه وهو سيد أهل بيته)، ولزيد عليه السلام كتاب في القرآن وله كتاب في الأحكام.
قال الحاكم [-رضي الله عنه وأرضاه-]: وشهرة أمره في علمه تغني عن تطويل القول فيه، ولا نعرف أحداً يشك أنه كان عليه السلام من الفضل والعلم والدين والسخاء والورع والشجاعة والسياسة بالمحل العظيم ؛ ثم جرد سيفه في أيام بني أمية مجاهداً ولم يخطر ببال أحد من أهل زمانه ذلك، وجاهد حتى مضى شهيداً ففاق زيد في العلم والفضل والجهاد.
* * * * * * * * * *
[الإمام يحيى بن زيد بن علي (أبو عبدالله) (ع)]
(97- 125هـ / 716- 743م)
وأما ابنه الإمام الطاهر يحيى بن زيد بن علي عليه السلام:
فإنه قام لجهاد الظلمة على منهاج أبيه، وكان من وصيته له: (يا بني جاهدهم فوالله إنك لعلى الحق وإنهم لعلى الباطل، وإن قتلاك لفي الجنة وإن قتلاهم لفي النار).
ففعل بما أوصى به أبوه، حتى مُثِّل به كما مُثِّل بأبيه قبل، وصلب على باب مدينة الجوزجان، ولم يزل مصلوباً إلى أن ظهر أبو مسلم الخراساني فأنزله وغسله وكفنه ودفنه، وقبره بالجوزجان مشهور مزور.
قال الحاكم رحمه الله في يحيى بن زيد: فأما إثبات إمامته فجميع الخصال فيه ظاهرة على ما بيّنا في إمامة زيد، قال: والكلام فيه كالكلام في إمامة أبيه.
[الإمام محمد بن عبدالله بن الحسن (النفس الزكية (ع)]
(93- 145هـ / 712- 763م)
وأما الإمام النفس الزكية محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن عليه السلام:
فإنه كان من العلم والفضل والورع والزهد والانطواء على محاسن الخصال الشريفة، والأوصاف الكاملة بحيث فاق أبناء عصره، وبرز فيها على أهل دهره، كان عليه السلام يسمى (المهدي) وهو أول من تكنى بهذه الكنية في أهل البيت عليهم السلام، وسُمّي (صريح قريش) لأنه لم يكن في آبائه من أَمَةٍ (أم ولد) إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وكذلك جداته من قبل أمه.