فالحسن عليه السلام لم يزل إماماً، وشيعته وأهل مذهبه يعتقدون ذلك فيه في حياته وبعد وفاته، وأصل افتراق الأمة من ذلك الزمن حين اضطر إلى صلح معاوية الحسن؛ فالحشوية ومن يقول بمقالتها من الجبرية سموا ذلك العام عام الجماعة، وسموا سب أمير المؤمنين عليه السلام السنة، فإن سبه عليه السلام استمر على فروع المنابر من زمن معاوية –لعنه الله- إلى زمن عمر بن عبد العزيز وأمر بقطعه؛ فلما قطعه ووصل الخطيب إلى موضع سبه فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(90)} [النحل] ، قالوا: السنة السنة؛ فقال عمر: بل البدعة البدعة، واستمرت هذه التسمية إلى يومنا هذا.
قال الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليه السلام: هذه التسمية التي يتسمى بها أهل الحشو والجبر إنما هي جماعة معاوية –لعنه الله- وسنته؛ فأما جماعة الرحمة وسنة المؤيد بالعصمة فهم براء منها، والزيدية أهلها وفيهم أصلها لأنهم شيعة العترة الرضية، والمقتفون لآثارهم الصالحة المرضية.
فإذا أردت تعرف صحة هذا الكلام؛ فاعرض هذه المقالة على أهل المذاهب الخارجة عن مذهب الزيدية تجدهم يقولون بصحة إمامة معاوية، ويتولونه ويترضون عنه ويحبونه، ويجللونه ويعظمونه ، ويطلقون على أمير المؤمنين الحسن بن علي عليهما السلام أنه صالح معاوية، وسلم له الإمامة وخرج عنها وأبطل حقه منها؛ هذا مذهبهم إلا القليل النادر والشاذ الشارد.
فمن كان يقول هذه المقالة هل يُعد من شيعة الحسن عليه السلام، حاشا وكلا، والموفون بعهد الله فيه، الحافظون لما ورد عن رسول الله فيه وفي أخيه وأبيه ينكرون هذه المقالة أشد الإنكار، ويتألمون لهم مما نالهم بالعشي والابكار، وهؤلاء هم شيعتهم المخلصون وأصحابهم الخالصون، وهذه هي صفة الزيدية وحليتهم وطريقتهم وخليقتهم.
ومن أحب الحسن أحب علياً، ومن أحب علياً أحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما ورد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أبي برزة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله عهد إليّ عهداً في علي فقلت: يا رب بينه فقال: اسمع؛ فقلت: سمعت فقال: إن علياً راية الهدى وإمام الأولياء ونور من أطاعني، وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين من أحبه أحبني ومن أبغضه أبغضني فبشره بذلك؛ فجاء علي فبشرته)).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم في أمير المؤمنين: ((لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)) ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أوصي من آمن بي وصدق بي بولاية علي بن أبي طالب عليه السلام من تولاه فقد تولاني ومن تولاني فقد تولى الله عز وجل)) ، ذكر هذه الأحاديث الحافظ الكنجي رحمه الله في كتاب الكفاية، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد رأى صلى الله عليه وآله وسلم الحسن: ((اللهم إني أحبّه وأحبّ أخاه، فأحبّهما وأحبّ من يحبّهما)) .
فالمنصف يعرف من نفسه محبّة الحسن؛ فإن كان يحبه فقد دخل في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ذكرنا آنفاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد الحسن والحسين فقال: ((من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة)) ، فمن أحبّ الحسن والحسين وعلياً وفاطمة عليهم السلام فقد فاز، وكان حرياً من أمير المؤمنين بالجواز، وقد أحسن من قال: [السريع]
بالخمسة الغرّ من قريش .... وسادس القوم جبرئيلُ
بحبهم ربّ فاعف عني .... فحسن ظني بك الجميلُ
والمعلوم أن هذه السمة سمة الزيدية دون غيرهم من أهل الملة الأحمدية، والنحلة المحمديّة.
[الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، (أبو عبدالله)]
(4-61هـ/ 625-680م)
وأما الحسين عليه السلام فإنه دعا بعد موت معاوية واستيلاء يزيد على الأمر، وبَعْثِه إلى المدينة من يأخذ له البيعة من الحسين بن علي عليهما السلام، فخرج إلى الكوفة في جماعة من أهل بيته بعد أن بلغت إليه كتب (أهل الكوفة) وكانوا شيعة أبيه وخلصانه.
فخرج إليهم الحسين وقام مجداً في حرب عدو الله ابن عدوه يزيد بن معاوية -لعنهم الله- حين تظهر بارتكاب الفجور وشرب الخمور.
فلما صار بكربلاء جهز إليه يزيد عبيدالله بن زياد -لعنه الله-، وأمر عبيدالله عمرو بن سعد بن أبي وقاص في جحفل جرار فأحاطوا بالحسين ومن معه، فقاتلهم بمن معه حتى قتلوه في أهل بيته، ولم يبق من أهل بيته إلا الأقل وقصتهم معروفة، وأخبارهم في غير هذا المكان مكشوفة، وإنما نذكر فضل الزيدية بانتسابهم إلى أئمة العترة الطاهرة المرضية.
وإذا أردت تعرف صحة ما ذكرنا فطالع كتب تواريخ الزيدية وأخبارهم تجدهم قاطبة يعظمون الحسين عليه السلام وينسبون إليه، ويذكرون مقتله ويبكون عليه، وغيرهم من سائر الفرق لا يذكرونه كذكرهم، ولا يجدون لمصرعه كوجدهم، والعاقل يعرف هذا من نفسه فلا يحوجنا إلى بسط كلام.
فمن الأحق بالانتساب إلى الحسين عليه السلام، مَنْ يعده له إماماً أم من لا يعده له إماماً ؟ طالع كتب الشافعية والمالكية والحنفية والحنبلية لا يعدون أحداً من أئمة العترة لهم إماماً لا من تقدم منهم ولا من تأخر، وإن ذكروا فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- ذكروه مجرداً عن اعتقاد إمامة أحد منهم من الأوائل والأواخر.
فصح بما قلناه أن الزيدية هم أتباع العترة دون مَنْ سواهم مِنْ هذه الأمة، وإنما لم نذكر علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام لأنه لم يدع إلى نفسه ويتجرد لمنابذة الظالمين، وحرب الفسقة المجرمين؛ والزيدية إنما تعد الإمام من أهل البيت عليهم السلام من جمع شروط الإمامة ، وخرج داعياً إلى الله مقاتلاً لأعداء الله، ومن أغلق عليه منهم بابه وأرخى حجابه لم يسموه إماماً، وإن كان في الفضل والعلم والزهد إماماً يقتدى به في الصلاح فإنه عندهم ليس بمفترض الطاعة.
ومن هذا القبيل كثير من أهل البيت وعلمائهم وفضلائهم؛ ومن لو ذكرناه لطال مساق الحديث في القديم من الزمان والحديث.
[الإمام الشهيد زيد بن علي بن الحسين (ع)]
(75- 122هـ / 694- 740م)
وأما زيد بن علي عليه السلام:
ففضله في العلم والدين، وكمال الخصال المحمودة والصفات الممدوحة مشهور بين العلماء، وفيه أحاديث ترويها الزيدية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد صنف علماؤنا -رضي الله عنهم- كتباً لأخباره، ومحاسن آثاره، وتبريزه في العلم على أهل زمانه، كان يشبه بأمير المؤمنين عليه السلام في الفصاحة والبلاغة والبراعة، ويعرف في المدينة (بحليف القرآن).
قال خالد بن صفوان: (انتهت الفصاحة والخطابة والزهادة والعبادة من بني هاشم إلى زيد بن علي).
[الآثار الواردة في الإمام زيد عَلَيْه السَّلام]
وقد وردت فيه آثار كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالإسناد الموثوق به إلى أمير المؤمنين قال: لما أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتل الحسين بن علي وصلب [ابنه] زيد بن علي [عليهم السلام] قلت: يا رسول الله أترضى أن يقتل ولدك؟ قال: ((يا علي ارضى بحكم الله فيّ وفي ولدي، ولي دعوتان أما أحدهما فاليوم، وأما الثانية فإذا عرضوا على الله عز وجل وعرضت عليّ أعمالهم، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: يا علي أمِّن على دعائي؛ اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، وسلط بعضهم على بعض، وامنعهم الشرب من حوضي ومرافقتي قال: فأتى جبريل وأنا أدعو عليهم وأنت تؤمِّن [على دعائي]؛ فقال: قد أجيبت دعوتكما)).
وبالإسناد إلى يحيى بن ميمون يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يصلب رجل من أهل بيتي بالكوفة عريان لا ينظر الله إلى أحد نظر إلى عورته متعمداً إلا أعماه الله عز وجل يوم القيامة)) .
وبالإسناد إلى أبي ذر الغفاري، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يبكي فبكيت لبكائه فقلت: فداك أبي وأمي قد قطعت أنياط قلبي ببكائك؛ قال: ((لا قطع الله أنياط قلبك يا أبا ذر، إن ابني الحسين يولد له ابن يسمى علياً أخبرني حبيبي جبريل أنه يعرف في السماء بأنه سيد العابدين، وأنه يولد له ابن يقال له زيد، وأن شيعة زيد هم فرسان الله في الأرض وأن فرسان الله في السماء الملائكة، وأن الخلق يوم القيامة يحاسبون، وأن شيعة زيد في أرض بيضاء كالفضة –أو كلون الفضة- يأكلون ويشربون ويتمتعون ويقول بعضهم لبعض: امضوا إلى مولاكم أمير المؤمنين حتى ننظر إليه كيف يسقي شيعته، فيركبون على نجائب من الياقوت والزبرجد مكللة بالجوهر أزمتها اللؤلؤ الرطب، رحالها من السندس والاستبرق؛ قال: فبينا هم يركبون إذ يقول بعضهم لبعض: والله إنا لنرى أقواماً ما كانوا معنا في المعركة؛ قال: فيسمع زيد عليه السلام فيقول: والله لقد شاركوكم هؤلاء فيما كنتم من الدنيا كما شارك أقوام أتوا من بعد وقعة صفين، وإنهم لإخوانكم اليوم وشركاؤكم)).
وروينا بالإسناد الموثوق به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((خير الأولين والآخرين المقتول في الله المصلوب من أمتي المظلوم من أهل بيتي سَمِيُّ هذا؛ ثم ضم زيد بن حارثة إليه ثم قال: يا زيد لقد زادك اسمك عندي حباً سَمِيُّ الحبيب من أهل بيتي)).
وروينا عن أنس عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يقتل رجل من ولدي يدعى زيد بموضع يعرف بالكناسة يدعو إلى الحق يتبعه عليه كل مؤمن)) .
وروينا عن حبة العرني قال: كنت مع أمير المؤمنين عليه السلام أنا والأصبغ بن نباتة في الكناسة في موضع الجزارين والمسجد والخياطين وهي يومئذ صحراء، فما زال يلتفت إلى ذلك الموضع ويبكي بكاء شديداً ويقول: (بأبي وأمي) فقال له الأصبغ بن نباتة: يا أمير المؤمنين، لقد بكيت والتفت حتى بكت قلوبنا وأعيننا، والتفتُّ فلم أر أحداً.
قال عليه السلام: حدثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إنه يولد لي مولود ما وُلِدَ أبوه بعد يلقى الله غضباناً وراضياً له على الحق، حقاً على دين جبريل وميكائيل ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإنه يُمَثّلُ به في هذا الموضع مثالاً ما مُثِلَ به أحد قبله، ولا يمثل بأحد بعده صلوات الله على روحه وعلى الأرواح التي تتوفى معه)) .
وروينا عن ابن عباس قال: بينما علي عليه السلام بين أصحابه إذ بكى بكاء شديداً حتى لثقت لحيته فقال له الحسين: يا أبه مالك تبكي؟ فقال: يا بني لأمور خفيت عليك أنبأني بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: وما أنبأك به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: يا بني لولا أنك سألتني ما أخبرتك لئلا تحزن ويطول همك، أنبأني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر حديثاً طويلاً.
ثم قال لي: ((يا علي كيف أنت إذا وليها الأحول الذميم الكافر اللئيم، فيخرج عليه خير أهل الأرض من طولها والعرض؟)) قلت: يا رسول الله من هو؟ قال: ((يا علي رجل أيده الله بالإيمان، وألبسه قميص البر والإحسان، فيخرج في عصابة يدعون إلى الرحمن، ثم يصلبه على جذع رمان، ثم يحرقه بالنيران، ثم يضربه بالعسبان، حتى يكون رماداً كرماد النيران، ثم يصير إلى الله عز وجل روحه وأرواح شيعته إلى الجنان)).
وروينا بالإسناد إلى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن الحسين بن علي عليهم السلام: أن علياً عليه السلام خطب خطبة على منبر الكوفة فذكر أشياء وفتناً، حتى ذكر أنه يملك هشام حتى قال: (مالي ولهشام جبار عنيد قاتل ولدي الطيب المطيب، لا تأخذه رأفة ولا رحمة، يصلب ولدي بالكناسة بالكوفة، زيد في الذروة الكبرى من الدرجات العلى؛ فإن يقتل زيد فعلى سنة أبيه، ثم الوليد فرعون خبيث شقي غير سعيد، يا له من مخلوع قتيل ، فاسقها وليد، وكافرها يزيد، وطاغوتها أزيرق، متقدمها ابن آكلة الأكباد، ذره يأكل ويتمتع ويلهه الأمل، فسوف يعلم غداً من الكذاب الأشر).
وروينا عن أمير المؤمنين أنه قال: (يخرج مني بظهر الكوفة رجل يقال له زيد في أبهة سلطان –والأبهة الملك- لم يسبقه الأولون ولا يدركه الآخرون إلا من عمل بمثل عمله، يخرج يوم القيامة هو وأصحابه معهم الطوامير [أو شبه الطوامير] ثم يتخطوا أعناق الخلائق؛ قال: فتلقاهم الملائكة فيقولون: هؤلاء خلف الخلف ودعاة الحق، ويستقبلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: قد عملتم بما أمرتم ادخلوا الجنة بغير حساب).
وروينا عن أمير المؤمنين أنه قال: (الشهيد من ذريتي والقائم بالحق من ولدي المصلوب بكناسة كوفان إمام المجاهدين، وقائد الغر المحجلين، يأتي يوم القيامة هو وأصحابه تتلقاهم الملائكة المقربون ينادونهم ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون).