وقال عليه السلام وقد أورد جملة من الأخبار النبوية الواردة في فضل العترة الطاهرة، حتى قال في آخر ما أورده من الأخبار: ومن (كتاب ابن المغازلي) رويناه عنه ورفعه بإسناده إلى علي بن أبي طالب عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يا علي إن شيعتنا يخرجون [من قبورهم] يوم القيامة على ما بهم من العيوب والذنوب ووجوههم كالقمر ليلة البدر، وقد فُرّجت عنهم الشدائد، وسُهّلت لهم الموارد، وأعطوا الأمن والإيمان، وارتفعت عنهم الأحزان، يخاف الناس ولا يخافون ، ويحزن الناس ولا يحزنون، شرك نعالهم يلألئ نوراً، على نوقٍ بيض لها أجنحة، قد ذللت من غير مهانة، ونَجُبت من غير رياضة، أعناقها من ذهب أحمر، ألين من الحرير؛ لكرامتهم على الله عز وجل)).
قال عليه السلام: هذا في فضل أهل البيت عليهم السلام وفضل شيعتهم، ووجوب اتباعهم، وفوز تابعهم بما لا يختص به غيره.
قال عليه السلام: ولو روينا ما روته الشيعة في ذلك بأسانيدها لطال الشرح، ولكنا نريد الوفاق بما شرطناه في أول الكتاب.
أراد عليه السلام أنه التزم في هذه الرسالة ألا يذكر من الأخبار النبوية الواردة في فضل العترة المرضية إلا ما رواه أهل العلم من رواة كتب الصحاح وفقهاء الأمة، كما ذكرناه فيما تقدم.

قال عليه السلام: وهل بعد هذا رحمكم الله من مطلب، وهل بعد وضوح المنهاج من مذهب، وإذا تقررت المحبة وظهرت، واستقرت الأدلة واشتهرت، فكيف المذهب وإلى أين المهرب، وهل تصح طاعة بغير ائتمار؟ وهل تثبت مودة مع معصية؟ قال الشاعر: [الكامل]
تعصي الإله وأنت تأمل حبه .... هذا محال في المقال بديعُ
هيهات لو أحببته لأطعته .... إن المحب لمن يحب مطيعُ
كيف يصح دعوى ولاية آل محمد ومودتهم مع بغضهم، والنفير عنهم وعن طاعتهم، وترك الاعتماد على قولهم ، وما قولكم فيمن استخان دليله ، وشتم هاديه، ونابذ مرشده، ونازع نصيْحَه؛ فنعوذ بالله من ضرر الفتنة، وفضوح المحنة، ومكابرة الدليل، ومعاصاة النصيح، ومخالفة الحبيب، وموالاة المضل.
قال عليه السلام: إذا تقرر وجوب التمسك بهم تصريحاً وتمثيلاً لقرنه لهم بالكتاب الكريم، كما أن الكتاب واجب الاتباع فكذلك هم، وأمّننا الصادق مع ذلك من الضلال بشرط التمسك بهم، وذكرهم بلفظ (لن) وهي لنفي الأبد فلا خوف مع ذلك، وجعلهم بمنزلة سفينة نوح، ومعلوم أنها العاصمة من القاصمة ، وأخبرنا بتطهيرهم وهو لا يخبر إلا بالحق، وأيد لنا ذلك رسوله بأنهم المرادون، وأُوجبت عليهم محبتهم في كتابه الكريم في آل حم، وفسره لنا وبينه برفع الالتباس لأن لا يقع عندنا أن المراد غيرهم، وبين لنا أنهم عترته وأهل بيته، ومنع من شاركهم في الإيمان أن يدخل معهم وبشره بالخير الصادق لسابق فضله.

فإن كان التقليد مخلصاً فَلِمَ لا نقلدهم أمرنا؟ وإن كان الدليل متبعاً فَلِمَ لا يقبل الدليل فيهم؟ وإذا كان ذلك كذلك فكيف نحسن الظن في معاديهم؟ وقد ثبت بما قدمنا عداوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاديهم، وولايته لمواليهم، وحربه لمن حاربهم، وسلمه لمن سالمهم.
إلى كلام طويل حذفناه، والقصد الإشارة من كلامه عليه السلام إلى ما ذكرناه من وجوب متابعة أهل البيت عليهم السلام، وتقليدهم فيما يسوغ فيه التقليد، وعدم الميل عنهم إما لأنه محظور لأنه خروج عن السفينة، أو مكروه لأنهم بالمتابعة أولى وبالرجوع إليهم أحق وأحرى.
وإذ قد نجز كلام هؤلاء الأئمة الطاهرين، وقد تركنا ما عداه من كلامات باقي الأئمة المعتبرين ملاحظة للاختصار، ولأن هؤلاء الأئمة الذين عليهم في التقليد المدار في سائر الأعصار.
ونعود إلى تمام الكلام في الفصل الرابع كما وعدنا به من قبل؛ فنقول:
* * * * * * * * * * * * * *

الفصل الرابع: [تاريخ أئمة العترة النبوية (ع) وأخبارهم]
وأما الفصل الرابع:
وهو في ذكر طرف من أخبار أئمة العترة النبوية، والتنبيه على علمهم وزهدهم وورعهم وجهادهم ، وما خصهم الله من فضيلة الجهاد ، ومباينة الظالمين، ومعاداة الفسقة العمين، وما إذا وقف عليه المنصف من نفسه بترك المكابرة؛ عرف أنهم سادة هذه الأمة وقادتها وأئمتها وأزمتها، وقد أحسن من قال: [الطويل]
سيُدْعى الورى يومَ اللقا بالأَئِمة .... ويَقْتَادُهم مُقْتَادُهم بالأَزِمَّةِ

ولسنا نبسط القول في هذا الفصل بسطاً، وإنما نختار من ذلك وسطاً، ونبدأ بالإمام الولي زيد بن علي بن الحسين بن علي سلام الله عليهم ما اعتقب الوسمي والولي:
اعلم أن الزيدية تميّز على سائر الفرق الإسلامية بانتسابها إلى أئمة الهدى ومصابيح الدجا، وليس لأحدٍ من فرق الإسلام مثل أئمة الزيدية، وهم يدينون ويعتقدون أن الإمامة بعد أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام ثابتة فيمن قام ودعا من ولد فاطمة عليها السلام، وهو جامع لخصال الإمامة من العلم والورع والفضل والسخاء والشجاعة والقوة على تدبير الأمر، فمن اجتمعت فيه هذه الخصال بكمالها ثم دعا، ولم يكن في زمانه إمام قد تقدمت دعوته على دعوته فإنه حينئذ يكون إماماً تجب طاعته فيما يلزم المأمومين إتباع الأئمة فيه.
وقد اجتمعت هذه الخصال بعد الحسين بن علي عليهما السلام في سبطه زيد بن علي، ثم في ابنه يحيى بن زيد، ثم في النفس الزكية محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، ثم في أخيه الإمام الرضي أبو الحسن إبراهيم بن عبدالله، ثم في الإمام السخي الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن المعروف بـ(الفخي)، قتل بشعب قريب من (مكة) يسمى الفخ.

ثم في الإمام الزكي يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن أخو محمد بن عبدالله النفس الزكية، ثم في الإمام الفاضل محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن، ثم في أخيه الإمام التقي القاسم بن إبراهيم.
ثم في سبطه الإمام الكامل الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم، ثم في إبنه الإمام العالم المرتضى محمد بن يحيى، ثم في أخيه الإمام الطاهر الناصر أحمد بن يحيى، ثم في الإمام الجامع لخصال الفضل الناصر للحق الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (صاحب الديلم) وهو المعروف بالأطروش لثقل كان في سمعه.
ثم في الإمام المهدي لدين الله أبي عبدالله محمد بن الحسن المعروف بالداعي، ثم في الإمام السيد أبي الحسين المؤيد بالله أحمد بن الحسين بن هارون بن الحسين بن محمد بن هارون بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ثم في أخيه الإمام السيد الناطق بالحق أبي طالب يحيى بن الحسين.
ثم في الإمام المتوكل أحمد بن سليمان بن الهادي عليهم السلام، ثم في الإمام أبي محمد المنصور بالله عبدالله بن حمزة بن سليمان.

هؤلاء عيون أئمة الزيدية الذين ذكرهم الإمام المنصور بالله عليه السلام في (كتاب الشافي) ووصفهم بالأوصاف العظيمة من العلم والفضل والورع والسخاء والشجاعة والقوة على تدبير الأمر، وذكر بإزائهم من عارضهم من الأموية والعباسية، وذكر عليه السلام جملاً من أوصاف علومهم، وطرائف أخبارهم، ومحاسن آثارهم لا يتسع لها هذا المختصر؛ ونذكر هنا لمعةً من ضوء ذلك السراج الوهاج، وغرفة من خليج ذلك البحر العجّاج.
[وجوه اختصاص الزيدية بالانتساب إلى أمير المؤمنين(ع)]
فأما أمير المؤمنين عليه السلام ففضله وقيامه ووجوب إمامته وتمييزه على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أشهر من أن يذكر، وأعظم من أن ينظم، وقد أحسن المتنبي حيث قال فيه عليه السلام: [الكامل]
وتركتُ مدحي للوصي تعمداً .... إذ كان نُوراً مُسْتَطِيلاً شاملا
وإذا استطال الشيء قام بذاته .... وكذا صفات الشمس تَذْهَبُ باطلا
وعلي عليه السلام وإن كان لجميع المسلمين سيداً، ولأهل ملة الإسلام ركناً وسنداً؛ فالزيدية تختص بالانتساب إليه عليه السلام لوجوه:
أما أولها: فلأنها تعتقد أنه الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من دون فصل، وسائر الفرق ما خلا الإمامية لا يقولون بهذه المقالة.

وثانيها: أنهم معروفون بمحبته، وموصوفون بالتدين بمودته، ولهم من الغرام به والتمسك بسببه ما ليس لغيرهم من سائر الفرق؛ ولهذا تجد اسم (علي) في الزيدية كثيراً وقليلاً في غيرهم، ليس ذلك إلاّ لولوعهم بمحبة أمير المؤمنين عليه السلام.
وثالثها: أنهم ينسبون في أصول الدين إلى أمير المؤمنين عليه السلام، ولا يشاركهم في هذه الفضيلة إلا المعتزلة فإنهم يعزون في أصول دينهم وأساس قواعد عقائدهم إلى أمير المؤمنين كرم الله وجهه.
ورابعها: أنهم ينتسبون أيضاً إلى أمير المؤمنين عليه السلام في فروع الدين وأبواب الفقه وأمور الشريعة؛ لأنهم يروون الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب)) فَأَتَوا المدينة من بابها، وتمسكوا من سفينة النجاة بأسبابها.
وخامسها: أن أئمتهم وهداتهم وقادتهم وسادتهم أبناؤه السابقون، وأولاده الطاهرون؛ فهم بينه وبينهم وسائط في عقائدهم الدينية ومذاهبهم الشرعية، فهم كالأدلة لشيعتهم إلى طريق نجاتهم، وباب حطتهم ومدينتهم.
فمن هاهنا كان أمير المؤمنين عليه السلام إماماً للزيدية خاصة، وهم شيعته وأتباعه والمرادون بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب)) ثم التفت إلى علي عليه السلام وقال: ((هم شيعتك وأنت إمامهم)) .

وقال صلى الله عليه وآله وسلم وقد أخذ بيد الحسن والحسين: ((من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة)) ، قال الحافظ محمد بن يوسف الكنجي، قال: أُخبرت عن الشافعي رضي الله عنه بسند يطول ذكره قال: هذا سند لو قرئ على مصروع لأفاق.
وروى [رحمه الله] عن أبي ذر الغفاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ترد علي الحوض راية علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وإمام الغر المحجلين فأقوم فآخذ بيده فيبيض وجهه ووجوه أصحابه وأقول: ما خلفتموني في الثقلين بعدي فيقولون: تبعنا الأكبر وصدقناه، ووازرنا الأصغر ونصرناه وقاتلنا معه؛ فأقول: رِدُوا رواء مرويين، فيشربون شربة لا يظمأون بعدها، وجه إمامهم كالشمس الطالعة، ووجوههم كالقمر ليلة البدر أو كأضوأ نجم في السماء)).
قلت: هذا الحديث شاهد للزيدية بأنهم هم المرادون به دون من عداهم من الأمة لأنهم الذين جمعوا هذه الصفات؛ تبعوا القرآن وصدقوه وهو الأكبر من الثقلين، ووازروا الأصغر منهما وهم العترة النبوية ونصروهم وقاتلوا معهم؛ ولم يجمع هذه الصفات أحد إلا الزيدية لأنهم شيعة العترة الهادية المهدية، والمعروفون بنصرتهم والمقاتلون معهم، والمقتولون بين أيديهم؛ فهذا الخبر بشارة لهم ونذارة لمن أبغض أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فانظر يا طالب النجاة لنفسك، ومهد لها قبل نزول رمسك؛ مَنْ المتبع لأهل البيت عليهم السلام من فرق الإسلام، الزيدية أو غيرهم؟ فإن كان المتبع لهم هم الزيدية فاحكم لهم بأنهم المخصوصون بهذه البشارة ، وإن كان المتبع لأهل البيت غيرهم فاحكم على من شئت بهذه النذارة.
وكل متبع للحق سالك منهج الإنصاف يعرف أن الزيدية هم شيعة أمير المؤمنين كرم الله وجهه، وقد قدمنا الوجوه الخمسة التي بها يعتزون إليه -سلام الله عليه-.
[الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (أبو محمد)]
(3- 50هـ/ 624-670م)
وأما ابناه الحسن والحسين عليهما السلام فإمامتهما بالحق مشهورة، ودعوتهما للخلق مأثورة؛ أما الحسن عليه السلام فإنه دعا بعد أبيه كرم الله وجهه، وتجهز لحرب معاوية وشهر سيف الجهاد، وأبرز نفسه لقتال أهل البغي والفساد، وقام في وجهه معاوية ابن آكلة الأكباد، وألَّبَ لحرب ابن رسول الله الحاضر والباد.

واتبع الناس الدنيا ورفضوا الآخرة، وباعوا هذه بهذه، فزايل الأكثر مراكز الهدى والإيمان، ومالوا إلى جانب الضلالة والطغيان، وراقتهم العاجلة فآثروها على الآجلة، وكانت الدنيا قد استتبت لمعاوية وانتظمت بعد وفاة أمير المؤمنين كرم الله وجهه، فلما رأى الحسن عليه السلام تخاذل أصحابه ، وتقاعد الناس عن نصرته، ورأى عليه السلام أنه إن استمر على القيام والجهاد ومنابذة العدو بالجد والاجتهاد وليس له ناصر بعد الله إلا نفر من أهل بيته وجماعة قليلة من شيعته؛ أدى ذلك إلى إلقائه بنفسه وأصحابه إلى التهلكة، ورميه بنفسه ومن معه في الهلكة، فرأى المصالحة أجدر، والمسالمة أسلم، ولزوم بيته ألزم من تعرضه لما لا يطيقه، وإهداره لدمه يريقه، فصالح وفي العين قذى وفي الحلق شجى، يرى تراثه كما قال أبوه عليه السلام نهباً؛ فعاش مغصوصاً مهموماً، ومات منقوصاً مسموماً.
وأما ما تهذي به الحشوية من أنه عليه السلام خلع نفسه من الإمامة وسلمها لمعاوية، فهذا لجهلهم بالآثار، وتعطلهم عن مودة آل النبي المختار؛ كيف يختلع عن إمامته مع قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا وأبوهما خير منهما)) ، وهذا يقتضي أنهما لا يخرجان عن الإمامة بحال من الأحوال.

18 / 39
ع
En
A+
A-