فأخبر بما ذكرنا من اصطفائهم على الخلق، ثم ميزهم فذكر الظالم لنفسه باتباعه هوى قلبه وميله إلى لذته، وذكر المقتصد منهم في علمه المؤدي إلى الله لفرضه، المقيم لشرائع دينه، المتبع لرضى ربه المؤثر لطاعته، ثم ذكر السابق منهم بالخيرات، المقيمين لدعائم البركات، هم الأئمة الطاهرون والمجاهدون السابقون القائمون بحق الله، المنابذون لأعداء الله، المنفذون لأحكام الله، الراضون لرضاه، الساخطون لسخطه، والحجة بينه وبين خلقه، المستأهلون لتأييده، المستوجبون لتوفيقه ، المخْصُوصُون بتسديده في كل حكم به حكموا، أو قياس في شيء من الأحكام به قاسوا، حجة الله الكبرى، ونعمته العظمى، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)} [الأحزاب] ، وفي طاعتهم، وفيما أمر الله به من رد الفتيا بين المفتين وما فيه يتنازع المتنازعون إليهم؛ ما يقول سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ..إلى آخر الآية} [النساء:59] ، وما جاء من الله تبارك وتعالى لآل رسوله من الذكر الجميل والحض للعباد على طاعتهم، واقتباس من علمهم ، فكثير غير قليل، يجزي قليله عن كثيره، ويسيره عن جليله، مَنْ كان منهم

ذا علمٍ واهتداء ، ومعرفة بحكم العلي الأعلى، وكل ذلك أمر من الله سبحانه للأمة برشدها، ودلالة منه على أفضل أبواب نجاتها.
فإن اتبعت أمره رَشُدَت، وإن قبلت دلالته اهتدت، وإن خالفت ذلك غوت، ثُمّ ضلت وأضلّت، وهلكت وأهلكت، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ(42)} [الأنفال] ، وفي أمر الأمة باتباع ذرية المصطفى ما يقول النبي المرتضى: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) .
ويقول صلى الله عليه وآله وسلم في تفضيلهم، والدلالة على اتباعهم، وما فضلهم الله به على غيرهم: ((النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهب النجوم من السماء أتى أهل السماء ما يوعدون، وإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون)).
وفيما ذكرنا من أمرهم ما يقول صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)) ، وهذا ومثله فكثيرٌ عنه صلى الله عليه وآله وسلم، يفهمه من يروي عنه عليه السلام، ونحن نستغني بقليله عن كثيره.

إلى قوله: ثم اعلم من بعد كل علم ومن قبله، وعند استعمالك لعقلك في فهمه، أن الذين أمرنا باتباعهم من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحضضنا على التعلم منهم، وذكرنا ما ذكرنا من أمر الله برد الأمور إليهم؛ هم الذين أخذوا بكتاب الله من آل رسول الله، واقتدوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذين اقتبسوا علمهم من علم آبائهم وأجدادهم جداً عن جد وأباً عن أب، حتى انتهوا إلى مدينة العلم، وحصن الحلم ، الصادق المصدق، الأمين الموفق، الطاهر المطهر، المطاع عند الله المُقّدّر، محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فمن كان علمه من آل رسول الله على ما ذكرناه، منقولاً إلى آبائه، مقتبساً من أجداده، لم يزغ عنهم، ولم يقصد إلى غيرهم، ولم يتعلم من سواهم، فَعِلْمُهُ ثابت صحيح لا يدخله فساد ولا زيغ، ولا يحول أبداً عن الهدى والرشاد، ولا يدخله اختلاف، ولا تفارقه الصحة والائتلاف.
[كلام الإمام الهادي(ع) في الاختلاف وأسبابه]
قال عليه السلام: فإن قلت أيها السائل: قد تجد علماء كثيراً منهم [ممن] ينتسب إليه علمهم؛ مختلفين في بعض أقاويلهم، متفرقين في بعض مذاهبهم، فكيف العمل في افتراقهم، وإلى من يرجع إليه منهم، وكيف نعمل باختلافهم وقد حضضتنا عليهم، وأعلمتنا أن كل خير لديهم، فإن الفرقة التي وقعت بين الأمة هي من أجل مفارقة الأئمة من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قلنا: قد تقدم بعض ما ذكرنا لك في أول هذا الكلام، ونحن نشرح ذلك بأتم التمام: إن اختلاف آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم -أيها السائل عن أخبارهم- لم يقع، ولن يقع أبداً إلاّ من وجهين:
فأما أحدهما: فمن طريق النسيان للشيء بعد الشيء، والغلط في الرواية والنقل، وهذا أمر يسير حقير، يُرْجِع الناسي منهم عن نسيانه إلى القول الثابت المذكِّرُ له عند الملاقاة والمناظرة.
والأمر الثاني: فهو أعظم الأمرين وأكبرهما، وأجلهما خطراً وأصعبهما، وهو أن يكون بعض من يؤثر عنه العلم تعلم من غير علم آبائه، واقتبس علمه من غير أجداده، فلم يستنر بنور الحكمة من علمهم، ولم يستض عند إظلام الأقاويل بنورهم، ولم يعتمد عند تشابه الأمور على فقههم، بل جَنَب منهم إلى غيرهم، واقتبس ما هو في يده من أضدادهم، فصار علمه لعلم غيرهم مشابهاً، وصار قوله لقولهم مجانباً، إذ عِلْمُه من غيرهم اقتبسه، وفهمه من غير زنادهم ازدنده، فاشتبه أمره وأمر غيرهم، وكان علمه كعلم الذين تعلم من علمهم ، وقوله كقول من نظر في قوله ، وضوء نوره كضوء العلم الذي في يده، فكان هو ومن اقتبس منه سواء في المخالفة لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والاقتداء، وإن كان منهم في نسبه، فليس علمهم كعلمه، ولا رأيهم فيما اختلف فيه الحكم كرأيه.

والحجة على من خالف الأصل من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كالحجة على غيرهم من سائر عباد الله ممن خالف الأصول المؤصلة وجَنَب عنها، والأصل الذي يَثْبُت علم من اتبعه، ويبين من قال به، ويصح قياس من قاس عليه، ويجوز الاقتداء بمن اقتدى به؛ فهو كتاب الله تبارك وتعالى المحكم، وسنة رسول الله اللذان جُعِلا لكل قول ميزاناً، ولكل نور وحَقّ برهاناً، لا يضل من اتبعهما ولا يغوى من قصدهما، حجة الله القائمة ونعمته الدائمة، فمن اتبعهما في حكمهما واقتدى في كل أمر بَقدْوهما، وكان قوله بقولهما ، وحكمه في كل نازلة بهما دون غيرهما، فهو المُصِيْبُ في قوله، المعتمد عليه في علمه، القاهر لغيره في قوله، الواجب على جميع المسلمين من آل رسول الله وغيرهم أن يرجعوا إلى قوله، ويتبعوا من كان كذلك في علمه؛ لأنه على الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا دَخَل، والحمد لله عليه.
فمن كان على ما ذكرنا، وكان فيه ما شرحنا من الاعتماد على الكتاب والسنة والاقتباس منهما والاحتجاج بهما، وكانا شاهدين له على قوله، ناطقين له بصوابه، حجةً له في مذهبه، فواجب على كل أحد أن يقتدي به، ويرجع إلى حكمه.

فإذا جاء شيء مما يختلف فيه آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مَيّزَ الناظر المميِّز السامعُ لذلك بين أقوالهم، فمن وجد قوله متبعاً للكتاب والسنة، وكان الكتاب والسنة شاهدين له بالتصديق، فهو على الحق دون غيره، وهو المتَّبعُ لا سواه، الناطق بالصواب، المتبع لعلم آبائه في كل الأسباب.
وإن ادعى أحدٌ من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه على علم رسول الله، وأنه مقتد بأمير المؤمنين والحسن والحسين صلوات الله عليهم، فاعلم هُدِيتَ أن علم آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يخالف أمر [الله و]وحيه ، فأعرض قول من ادعى ذلك على الكتاب والسنة، فإن وافقهما ووافقاه فهو من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن خالفهما وخالفاه فليس منه صلى الله عليه وآله وسلم ، كما قال فيما رويناه عنه حين يقول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((سيكذب علي كما كذب على الأنبياء من قبلي، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فهو مني وأنا قلته، وما خالف كتاب الله فليس مني ولم أقله)) .
وهذا أصل في اختلاف آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثابت، ودليل على الحق واضح، فاعتمد فيما اختلفوا فيه عليه، واستعمله في ذلك يتبين لك الحق حيث هو، ويصح لك المقتبس من علم آبائه صلوات الله عليهم، والمقتبس من غيرهم.

ويصح لك الحجة في جميع أقوالهم، وتهتد به إلى موضع نجاتك، وتستدل به إلى مكان حياتك، وتقف به على الذين أمرناك باتباعهم، فقد شرحناهم لك شرحاً واضحاً، وبيناهم لك تبييناً صحيحاً، حتى عرفتهم إن استعملت لُبَّك فيما بينا لك من صفاتهم، كما تعرفهم بالرؤية بأعيانهم، وتقف عليهم بأسمائهم وأنسابهم، والحمد لله على توفيقه وإرشاده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
تم كلامه عليه السلام وهو في نهاية الإفادة والبيان لمن أراد اتباع أبنا المؤيد بالهدى ودين الإيمان.
[كلام الإمام المرتضى (ع)]
وقال ولده الإمام العالم محمد بن يحيى عليه السلام: ودل على أولي الأمر من حيث يقول عز ذكره: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ثم قال تعالى: {وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، فدل على طاعة ثالثة.
إلى قوله: فالواجب على الرعية إذا وثقت بعدالة إمامها وصحت عندهم إمامته، أن يعلموا أن علمهم يقصر عن علمه، ولا يقعون من الغامض على ما يقع عليه؛ فإذا علموا ذلك وجب عليهم التسليم.
وقال عليه السلام في مسائله: إن إجماع العترة منعقد على أنهم أفضل الخلق، وأن الواجب على جميع أهل الملل الرجوع إليهم، والانقياد لأمرهم.

[كلام الإمام المؤيد بالله (ع)]
وقال الإمام المؤيد أحمد بن الحسين الهاروني عليه السلام: والخلاف شائع بين آل الرسول -عليه وعليهم السلام- ولذلك قال الناصر عليه السلام في (الألفاظ): سألت محمد بن منصور أن يجمع اختلافات أهل البيت عليهم السلام، وثبوت الخلاف لا يمنع من الموالاة واتباع بعضهم لبعض كما ظهر عن السلف الأمر في ذلك.
وحكى محمد بن منصور، أن القاسم وأحمد بن عيسى وعبدالله بن موسى والحسن بن يحيى اجتمعوا في بيته (بالكوفة) وبايعوا للقاسم عليه السلام مع ظهور الخلاف بينهم، ومع رواياته عنهم الاختلافات الكثيرة، ولم يمنعهم ذلك من متابعة القاسم عليه السلام ومبايعتهم له.
وما يُحكى عن بعضهم من التشدد في القول الذي اختاره فإنه يتأول ولا يسوغ إلا ذلك؛ لأن بإزائه من هو مثله في فضله وبراعته يختار خلاف قوله ويقول هو حق، ولا معتبر بما يُؤخذ عن البعض من القول الشديد في ذلك.
وقال: فإن قيل إن محمد بن علي وزيد بن علي عليهم السلام أخذا العلم عن أبيهما، فكيف وقع الخلاف بينهما؟
قال عليه السلام: قلنا: الاختلاف الذي ترويه الإمامية عن محمد فإن روايتهم عندنا ضعيفة، وما ترويه الزيدية عن زيد وغيره هو الصحيح.
حتى قال: والرواة الذين يروون عن الناصر للحق والقاسم عليهما السلام فإنهم بحكم الشهود، فكما أن للقاضي ألاَّ يقبل ولا يحكم بشهادة من لا تثبت عدالته عنده، وإن كان قاضي آخر له أن يحكم بشهادته إذا علم عدالته، فكذلك الرواة.

قال عليه السلام: ووجه وقوع الخلاف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم روي عنه الناسخ والمنسوخ، ولم يعلم أيهما المتقدم على الآخر، واختلف الرواة في نسخه وتاريخه إن لم تكن المسألة واقعة في أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم كمسألة العول ونحوها، أو وقع لواحد فلم ينتشر الأمر فيه، فروي على وجه الآحاد، فعلم أن المصلحة في مثل هذه المسائل أن تجعل إلى اجتهاد المجتهدين، فهذا كلامه عليه السلام يشير إلى تصويب آراء المجتهدين من العترة المطهرين وأهل البيت الأئمة الهادين.
وقوله: وما يحكى عن بعضهم من التشدد في القول الذي اختاره إلى آخره؛ فأحسب أنه أراد الناصر للحق عليه السلام.
دليله: قوله، لأن بإزائه من هو مثله في فضله وبراعته يختار خلاف قوله، وهو يريد بهذا نفسه عليه السلام، وهو بإزاء الناصر أي بالقرب منه بلداً وأصحاباً، والزيدية في بلاد الجيل في سهلها وجبالها أربعة مذاهب: (قاسمية) (ويحيوية) (وناصرية) (ومؤيدية)، والناصرية معهم أكثر.
ورأيت في ترجمة ذكرها بعض علماء الزيدية أن المؤيد صنف كتاباً على مذهب الناصر في الفقه سماه (الحاصر في فقه الناصر) وصنف عليه السلام في مذهب الهادي كتابه المشهور (بالتجريد) وشرحه بستة مجلدة، واختار بعد هذا مذهباً لنفسه، وكلامه يشير بأن الكل صواب، وأن من أخذ بقول من كلام أئمة العترة فهو مصيب.

وقد أشار في (كتاب البلغة) إلى أن الرجوع إلى أهل البيت أولى بقوله في أول الكتاب: وصلى الله على النبي المجتبى محمد المصطفى، وآله الطاهرين الذين جعلهم الله معادن وحيه، وحفظة علمه، ورعاة دينه.
فنبّه بكلامه هذا على أن معادن الوحي وحفظة العلم ورعاة الدين أولى بالرجوع إليهم دون غيرهم، يعرف هذا من تدبر الكلام وعلم مفهوم الخطاب، والله الهادي إلى الصواب.
[كلام الإمام المنصور بالله(ع)]
وقال الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة بن سليمان عليه السلام في (الرسالة الناصحة) وقد ذكر حديث السفينة فقال: ومن (مناقب الفقيه ابن المغازلي) رفعه إلى أبي ذر الغفاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنما مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق)) .
قال عليه السلام: (وهذا الخبر مما تلقته الأمة بالقبول فصح أن يحتج به، وإذ قد علمنا أن أمة نوح كلها هلكت إلا من ركب السفينة فكذلك هذه الأمة تهلك إلا [من] تمسك بالعترة، وجب على الأمة الرجوع إليهم، فإذا لم يمكن الرجوع إليهم عموماً وقع الرجوع إلى الصالح، ولا بد للصالحين من إمام يكون هو المفزع وإليه المرجع، والكل كالمضاف إليهم) فهذا كلامه عليه السلام مصرح بوجوب الرجوع إلى العترة.

17 / 39
ع
En
A+
A-