[دلائل وجوب بقاء طائفة من الأمة على الحق]
لنا أن الأمة إذا افترقت على أقوال وبطلت إلا أحدها، فلا بد من بقاء طائفة منها على الحق وإلا خرج الحق عن أيدي الأمة، وخروج الحق عن أيدي الأمة لا يجوز، وهذه الطائفة هي طائفة العترة النبوية ومن اتبعها، وهذه الدلالة مبنية على أصول:
أولها: أن الأمة إذا افترقت على أقوال وبطلت إلا أحدها، تعين الحق في قول طائفة منها.
والثاني: أنه لو لم يكن ذلك كذلك لخرج الحق عن أيدي الأمة.
والثالث: أن خروج الحق عن أيدي الأمة لا يجوز.
والرابع: أن هذه الطائفة المشار إليها ببقاء الحق في أيديها هي العترة الطاهرة دون من عداها.
أما الأصل الأول: فالذي يدل عليه ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)) .
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلا فرقة واحدة)) . فاقتضى الحديث أن بقاء طائفة على الحق ونجاة أمة واحد.
وأما الأصل الثاني: وهو أنه لو لم يكن ذلك كذلك لخرج الحق عن أيدي الأمة؛ فالذي يدل على ذلك أنه لولا هذا التخصيص لهذه الطائفة والاستثناء لهذه الأمة لخرج الحق عن أيدي الأمة، ولصارت كل طائفة وكل أمة تقول في دينها ومعتقدها بالباطل، ولسنا نعني بخروج الحق عن أيدي الأمة أكثر من هذا.
وأما الأصل الثالث: وهو أن خروج الحق عن أيدي الأمة لا يجوز؛ فالذي يدل على ذلك أن شريعة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم باقية إلى انقطاع التكليف، فلو حكمنا بخروج الحق عن أيدي أمته صلى الله عليه وآله وسلم كنا قد حكمنا ببطلان شرعيته.
وأما الأصل الرابع: وهو أن هذه الطائفة المشار إليها ببقاء الحق في أيديها وأنها هي الأمة الناجية، فالذي يدل على ذلك أمران: جملي، وتفصيلي.
فالجملي: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأخبار المقتضية لذلك، نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)) .
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء فإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون)) .
وقد علمنا أن أمة نوح عليه السلام هلكت إلا من ركب معه في السفينة؛ فكذلك أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم هالكة إلا من تمسك بكتاب الله وعترة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
يزيده بياناً: حديث التمسك وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) وهذا الحديث كاف في الدليل على بقاء العترة النبوية على الحق، واتباعها معها لما قدمناه في ذلك.
فإن قيل: فإن هذه الدلالة إنما تستقيم فيما كان الحق فيه واحداً، فأما مسائل الاجتهاد فكل مجتهد فيها مصيب فلا يتميز في هذا الباب أهل البيت من غيرهم؟
فالجواب: أن حديث السفينة أوجب الرجوع إليها والكون معها في اعتقادها ودينها، فما كان الحق فيه واحداً كمسائل الاعتقاد فبضرورته، وما كان من مسائل الاجتهاد فبأولويته؛ فإذاً الرجوع إليهم واجب فيما الحق فيه واحد، وأولى فيما يجوز فيه الاجتهاد، ولا يجهل هذا إلا معاند.
* * * * * * * * * * * * * *
[أقاويل أهل البيت في وجوب الرجوع إليهم وأولوية التقليد لهم]
فصل:
نذكر فيه جملاً من أكاليم عيون أهل البيت [عليهم السلام] فيما ذكرناه من وجوب الرجوع إليهم وأولوية التقليد لهم.
فمن ذلك: كلام أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب عليه السلام قال كرم الله وجهه : (فأين يتاه بكم بل كيف تعمهون، وبينكم عترة نبيكم، وهم أَزِمَّةُ الحق، وألسنة الصدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن، وَرِدُوهُم ورود الهيم العطاش).
وقال عليه السلام: (لا يعادل بآل محمد من هذه الأمة أحد، ولا يساوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة).
وقال عليه السلام: (أيها الناس، اعلموا أن العلم الذي أنزله الله على الأنبياء من قبلكم في عترة نبيكم، فأين يتاه بكم عن أمر تنوسخ من أصلاب أصحاب السفينة [هؤلاء مثلها فيكم، وهم كالكهف لأصحاب الكهف،] وهم باب السلم فادخلوا في السلم كافة، وهم باب حطة من دخله غفر له، خذوها عني عن خاتم المرسلين حُجة من ذي حُجَة ، قالها في حجة الوداع: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) .
وقال زيد بن علي [عليهما السلام]: الرد إلينا نحن والكتاب الثقلان.
[كلام الإمام القاسم بن إبراهيم (ع)]
وقال القاسم بن إبراهيم عليهما السلام: وكلما ذكر الله في السور فله وجوه متصرفة يعرفها من عرّفه الله إياها.
إلى قوله: فليسأل عنها وليطلب ما خفي عليه منها عند ورثة الكتاب الذين جعلهم الله معدن ما خفي فيه من الأسباب، فإنه يقول سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32] .
إلى قوله: وليكن مساءلته منهم للسابقين بالخيرات، فإن أولئك أمناء الله على سائر الخفيات من منزل وحي كتابه، وما فيه من خفي عجائبه، فقد سمعت قول الله سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)} [النحل] .
وقال عليه السلام: وأبين دليل وأنور تنزيل في وجوب الإمامة وما يجب فيها على الأمة قول الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا(59)} [النساء] ، فأمر الله تعالى بطاعة أولي الأمر مع ما أمر به من طاعته وطاعة رسوله.
[كلام الإمام الناصر الأطروش (ع)]
وقال الناصر للحق الحسن بن علي عليه السلام: ولله أدلة على الحوادث على المكلف إصابتها، التي الأمة فيها سواء.
فأما ما سوى هذه الأصول من الأحكام في الحوادث النازلة التي يصوغ فيها الاجتهاد، إذ لا نص عليها من كتاب ولا سنة ولا إجماع من الأمة والأئمة، فالاجتهاد فيها إلى علماء آل الرسول عليهم السلام دون غيرهم، لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [النساء :59] ، وقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ..الآية} [النساء:83] .
[كلام الإمام محمد بن القاسم الرسي (ع)]
وقال محمد بن القاسم في (شرح دعائم الإيمان): فأولئك هم الذين أمر الله تعالى بطاعتهم، وهم العترة الطاهرون من آل نبيه عليه السلام، وأقامهم أئمة يهدون بأمره، وأمر الخلق كلهم أن يسألوهم إذا جهلوا، وأن يَرُدُّوا إليهم علم ما اختلفوا فيه، لأنهم أهل الاستنباط والبحث والنظر الذين أمر الله بالرد إليهم.
[كلام الإمام الهادي (ع)]
وقال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام: اعلم أيها السائل علماً يقيناً، وافهم فهماً ثابتاً مبيناً، أن العلماء تتفاضل في علمها، ويتفاوت قياسها وفهمها، وفيما قلنا به من ذلك ما يقول الله سبحانه: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ(76)} [يوسف] .
وأنه ليس أحدٌ من المخلوقين أولى بفهم أحكام رب العالمين؛ ممن اختاره الله واصطفاه، وانتجبه وارتضاه، فجعله مؤدياً لدينه، قائماً بحكمه، راعياً لبريته، حائطاً لخليقته، منفذاً لإرادته، راغباً إلى حجته، مبيناً لشريعته، آمراً بأمره، ناهياً عن نهيه، مقدماً لطاعته، راضياً لرضاه، ساخطاً لسخطه ، إماماً لخليقته، هادياً لها إلى سبله، داعياً لها إلى نجاتها، مخرجاً لها من عمايتها، مثبتاً لها على رشدها ، مقيماً لها على جوآدِّ سبله، ناصحاً لله فيها، قائماً بحقه سبحانه عليها.
وذلك وأولئك فهم صفوت الله من خلقه، وخيرته من بريته، وخلفاؤه في ارضه، الأئمة الهادون والقادة المرشدون من أهل بيت محمد المصطفى وعترة المرتضى، ونخبة العلي الأعلى المجاهدون للظالمين والمنابذون للفاسقين، والمقربون للمؤمنين والمباعدون للعاصين.
ثِمَاُل كل ثِمَال، وتمام كل حال، والوسيلة إلى الجنان، والسبب إلى الرضى من الله والرضوان، بذلوا أنفسهم للرحمن، وأحيوا شرائع الدين والإيمان، لم يهِنُوا ولم يَفْتُروا ولم يقصروا في طلب ثأر الإسلام ولم يغفلوا، نصحوا المسلمين وأحبوا المؤمنين، وقتلوا الفاسقين، ونابذوا العاصين ، وبَيَّنوا حجج رب العالمين على جميع المربوبين، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)} [الأنفال] ، عملوا فَجُوْزُوا، ونصحوا فقبلوا، وتقربوا من الله فَقُرِّبُوا، وأخلصوا لله سبحانه الديانة فأخلص لهم المحبة، طلبوا منه التوفيق فوفقهم، وسألوه التسديد فسددهم، وقاموا له بأمر فأرشدهم، واهتدوا إلى قبول أمره فزادهم، وهداهم وضاعف لهم كل خير وتقوى، كما قال جل جلاله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد:17] .
قصدوا الحق فأرشدوا له، وأتَمُّو بالصدق فعملوا به، فوجبت لهم حقائق التوفيق، ونالتهم بحمد الله موقضات التحقيق، وقصدتهم منه سبحانه قواصد النعمة، وشملتهم منه شوامل الحكمة، فنطقوا بالبيان في قولهم ، وحكموا بالحق في حكمهم، واهتدوا بالله سبحانه، وثبتوا بزيادة [هدى] الله على الحق الفاصل ، وتناولوا شكايم العلم الفاضل، فنالوا بعطاء الله الأكبر ما لم ينل غيرهم ، وقدروا على ما عجز عنهم سواهم، فحكموا باختيار الله لهم بتوفيقه، وإرشاده لهم وتسديده في كل نازلة بالصواب، وبعد عنهم فيها كل شك وارتياب، فكان علمهم لما ذكرنا من اختيار الله لهم، واصطفائه إياهم، ورضاه باستخلافهم في أرضه، واسترعائه لما استرعاهم من بريته -علماً جليلاً، وكان قياسهم قياساً ثابتاً أصيلاً، إذ هم وأبوهم –صلى الله عليه- أصل كل دين، وعماد كل يقين، ومنه صلوات الله عليه تفرعت العلوم المعلومة، ونيلت أصول الأحكام المفهومة، ومنه ومن ذريته نيلت العلوم الفاضلة، وبلغت الأصول الفاصلة، فمن علمهم صلوات الله عليهم تفرعت الأحكام، ومن بحر فهمهم استقى جميع الأنام، فهم أصل الدين، وشرائع الحق المبين، فكل علم نِيْلَ أو كُسِب فمن فضل علمهم اكتسب، وكُلّ حق به حُكِم فمن حكم حقهم علم، فهم أمناء الله على حقه، والوسيلة بينه وبين خلقه.
المبلغون للرسالات، الآتون من الله سبحانه بالدلالات، المثبتون على الأمة حجته البالغة، المسبغون بذلك على الأمة النعم السابغة، لا يجهل فضلهم إلا جهول معاند، ولا ينكر حقهم إلاَّ معطل جاحد، ولا ينازعهم معرفة ما أَتَوا به عن الله إلاَّ ظلوم، ولا يكابرهم فيما ادعوه من الله إلا غشوم، لأنهم أهل الرسالة المبلَّغة، والآتون من الله سبحانه بالحجة البالغة، الذين افترض الله على الأمة تصديقهم، وأمروا باتباعهم ونهوا عن مخالفتهم، وحُضُّوا على الاقتباس من علمهم ، ألا تسمع كيف يقول الرحمن فيما أنزل من النور والبرهان ، حيث يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)} [النحل] ، فأمرت الأمة بسؤالهم عند جهلها، والاقتباس منهم لفروض علمها، ثم قال سبحانه : {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا(83)} [النساء] .
فأخبر سبحانه أنهم لو ردوا ما يجهلون علمه ولا ينالون فهمه إلى الله بالتسليم له في حكمه، وإلى الرسول من معلوم علمه، وإلى الأئمة من عترته فيما التبس من ملتبسه، واشتبه على الأمة من متشابهه، لوجدوه عند الله في كتابه مُبَيّناً، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم التي جاء بها من الله مثبتاً، وعند الأئمة من عترته صلى الله عليه وآله وسلم نيراً بيناً.
ثم أخبر سبحانه أنه لولا فضل الله على الخلق بإظهار من أظهرهم من خيرته، وتولية من ولّي عليهم من صفوته، إذن لاتبعوا الشيطان في إغوائه، ولشاركوه في غيه وضلاله، فامتن عليهم سبحانه بأئمة هادين، غير ضالين ولا مضلين، صفوة الله من العالمين، وخيرته من المخلوقين، نور الأمة وسراج الظلمة المدلهمة، ورعاة البرية، وضياء الحكمة، ومعدن العصمة، وثبات الحجة، ومختلف الملائكة، اختارهم الله على علمه، وقدمهم على جميع خلقه، علماً منه تعالى بفضلهم، وتقديساً لهم على غيرهم، وفي ذلك ما يقول سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32)} [فاطر] .