لكنه قال بالرؤية ونقلها عنه البويطي من أصحابه، وهذا خطأ في الاعتقاد؛ فإن كانت الرؤية مكيفة أدى ذلك إلى التشبيه لأن المرئي لا يُعْقَل إلا متحيزاً أو حاصلاً في المتحيز، وكله محال على الله تعالى، وإن كانت الرؤية غير مكيفة فهو لا يعقل وعلى كلا الوجهين فلا يخلو عن خطأ.
[وذكر الحاكم [الجشمي] رحمه الله في (عيون المسائل) أن إبراهيم بن أبي يحيى المدني -وكان شيخ الشافعي- نقم على الشافعي لما تولى ما تولى].
وأما النعمان بن ثابت، فلا ينكر فضله في اتقاد القريحة وجودة الفطنة، وإدراك الأسرار الشرعية واستنباط المسائل الدقيقة، واستيلائه على الإحاطة بأسرار الحكومات والأقضية، والتمكن من وضع المسائل والتصدي للأسئلة والجوابات في المضطربات الاجتهادية.
لكنه قد حُكِيَ عنه القول بإيجاب القدرة، وهذا خطأ، فإن مثل هذا يجر إلى الجبر وبطلان الاختيار للعبد، ويؤدي إلى تكليف ما لا يطاق، وهذا يطرق خللاً في قاعدة الحكمة، وحكي عنه بطلان القصاص بالمُثَقّل، وهذا يهدم عصمة الدماء، وحكي عنه حل المُثَلَّثِ والمُنَصَّفِ، وقد عُلم من جهة الشرع والعقل قطعاً صيانة العقول عن الإهدار والإفساد.

وإذا تأمّلتَ علوم العترة وجدتَها مصونة عن مثل هذه الأشياء التي حكيناها عن غيرهم، وفي هذا دلالة على عصمة الله لهم عن الوقوع في مثل هذه المواقع التي يعلم خطؤها، وأنهم باقون على رسوم الشريعة غير خارجين عن حدودها في اعتقاد ديني، ولا خطأ في مضطرب اجتهادي، وما ذاك إلا من لطف الله تعالى لهم، وتأييده لهم في كل إقدام وإحجام وقول وفعل، فحصل من مجموع ما ذكرناه صحة تقديمهم في هذه الخصال العالية في الدين والورع والتقوى.
قال عليه السلام: ومناقب العترة أكثر من أن تحصى وقد أفرد فيها العلماء كتباً على حيالها، ولكنا سمحنا من ذلك بمقدار ما يليق بترجيح تقليدهم على تقليد غيرهم من علماء الأمة في الأمور العملية، وكيف لا يكون تقليدهم راجحاً على تقليد غيرهم من علماء الأمة؟ وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((تعلّموا من قريش ولا تعلموها)) وفي حديث آخر: ((ولا تعالموها)) وأراد: ولا تغالبوهم في علومهم، وقال عليه السلام: ((عالم قريش يملأ الأرض علماً)) .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((الناس في هذا الشأن تبع لقريش، فمسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم)) .

فلا جرم كان اتباعهم أحق من اتباع غيرهم لما قررناه من الأدلة على فضلهم، وهم السر والخلاصة واللباب من قريش، ولم نرد بما ذكرناه من حال فقهاء الأمة وعلمائها في الاعتقادات الدينية وانحراف أنظارهم في المسائل المجتهدة حطّاً لما رفع الله من منارهم، ولا وضعاً لما أشاد الله من رفع أقدامهم، ولكن غرضنا الكشف عما اختص به علماء العترة من إصابة الحق، والهداية لوجه الإصابة في معتقداتهم ومجاري أنظارهم..إلى آخر ما ذكره عليه السلام في هذا الباب.
[وجوه أولوية تقليد أهل البيت(ع) على غيرهم]
وذكر سيدنا العلامة فخر الدين [عبدالله بن زيد العنسي] -قدس الله روحه-: أن تقليد أهل البيت أولى من تقليد غيرهم لوجوه:
أحدها: أن الله تعالى أثنى عليهم في محكم كتابه بآية التطهير وآية القربى.
وثانيها: ما اختصوا به من العصمة عند إجماعهم وأنه حجة.
وثالثها: أن الترجيح بين العلماء يكون من جهة العلم والدين والورع وهم في هذه الحال لا يلحق بهم لاحق، ولا يسبقهم سابق، وذلك معلوم عند بحث أحوالهم وأقوالهم.

[أحوال أئمة العترة وتنزهم عن مساكنة سلاطين الجور]
وأقول: معلوم من دين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن مساكنة أهل المعاصي ومرتكبي الكبائر من هذه الأمة، ومواصلتهم ومداناتهم ومعاشرتهم وموانستهم ومخالطتهم ومكاثرتهم، وقد نهى الله جل وعز عن هذا كله بقوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ} [هود:113] ، وقال جل من قائل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1] ، وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(22)} [المجادلة].

ومن تصفح أحوال أئمة العترة النبوية من أمير المؤمنين علي عليه السلام إلى زماننا هذا وجدهم على صفة واحدة في مناواة الفسقة، ومعاداة الظلمة، والتنزه عن مساكنة سلاطين الجور ومسالمة أئمة الضلال، لا يرضون لأنفسهم بمواصلتهم، ولا قبض صِلاَتهم، ولا يؤنسون وحشتهم، ولا يغشون مجالسهم، ولا يحضرون محاضرهم، ويترفعون عن مراشاتهم ومكاتبتهم.
كما روي ذلك عن الإمام الطاهر القاسم بن إبراهيم عليه السلام، فإن المأمون عرض عليه من المال وقر سبعة أبغل على أن يبتدئه بكتاب أو يجيب له كتاباً، فشمر عن ذلك جناحاً، ورأى قبول ذلك في الدين جُناحاً.
وأمثاله من سادة الرسوس، والعارفين لمواقيت الصلوات في ظلمات الحبوس، بما يعتادونه من تلاوة القرآن الكريم والذكر الحكيم.
وكانوا في الزهد عن الدنيا على مثل صفة الأنبياء، يفترشون المدر ويتوسدون الحجر، ويأكلون في بعض الحالات الشجر، وسرجهم في أكثر الليالي ضوء القمر، وهم يرون علماء زمانهم من فقهاء الأمة يقعون على ما في أيدي الظلمة من خلفاء بني أمية وبني العباس وقوع الذباب على العذرة.

وقال الزمخشري رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ} [هود:113] ، قال رحمه الله: والنهي متناول للانحطاط في أهوائهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم، والرضى بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزيي بزيهم، ومدّ العين إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيمهم.
قال [رحمه الله تعالى]: وتأمل قوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا} فإن الركون هو الميل اليسير إلى الذين ظلموا أي إلى الذين وجد منهم الظلم، وذكر الكتاب الذي كتبه إلى الزهري بعض إخوانه حين خالط الظلمة وهو كتاب عظيم، وفي الحقيقة كان أكثر علماء ذلك الزمان إلاّ من عصمه الله على رأي الزهري.
ومحمد بن شهاب الزهري من كبار علماء الحديث، وكان ملازماً لهشام بن عبدالملك.
قال: صاحب النبلاء فيه، راوياً عنه ما هذا لفظه: وفدت على عبد الملك بن مروان وقد نشأت وأنا غلام، ووصف ابتداء أمره واتصاله بعبد الملك ثم قال: وتوفي عبد الملك فلزمت ابنه الوليد ثم سليمان ثم عمر بن عبد العزيز ثم يزيد فاستقضاه على قضائه.
قال: ثم لزمت هشام بن عبد الملك وصير هشام الزهري مع أولاده يعلمهم ويحج معهم، وذكر له اختصاصاً بهم كلياً حتى كان لهم كالجندي بهذا اللفظ؛ فإذا كان هذا الزهري على جلالة قدره وسعة علمه فكيف غيره؟!
وعن الأوزاعي: (ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملاً).

وعن محمد بن مسلمة: (الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه)) .
ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في بَريّة هل يُسقى شربة ماء؟ قال: لا، فقيل له: يموت، قال: دعه يموت.
فهذا نهاية الاحتراز في أمر الدين، ومن لنا بمثل هذا في أكثر العلماء المتقدمين، ومن طالع السير والأخبار، وعرف التواريخ والآثار، ولم يُعْم التعصب عين بصيرته عرف صحة ما ذكرناه، وعلم فضل العترة النبوية على علماء الأمة الأحمدية، ولولا ملاحظة الاختصار لذكرنا من ذلك ما يعرف به صحة ما قلناه، ويميز به بين أئمة العترة وغيرهم ممن ذكرناه، وهو بحمد الله موجود لمن أراده.
وانظر إلى صلابة أهل البيت عليهم السلام في عقائد دينهم وعزائم يقينهم. من كلام القاسم عليه السلام: (من شاقّ الله بكبيرة فواجب ألا يتخذ ستره) قيل: إنه أراد به سد الجناح في الصلاة. وزهدهم وتقشفهم وبعدهم عن موالاة الظلمة معروف في كتبهم المجردة لأخبارهم، ولم يكن لأحد من علماء الأمة ما لهم في ذلك.
وزيادة في فضلهم وصحة أديانهم، وهو أن المعلوم من شريعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بإجماع من الصحابة رضي الله عنهم اشتراط الأوصاف المعروفة في الإمام من: العلم، والفضل، والورع، والشجاعة، والقوة على تدبير الأمر، واعتبار المنصب على حسب الخلاف في أهله، وهذه قاعدة من قواعد الدين المعتبرة شرعاً.

وفقهاء الأمة برمتهم إلا من تمسك بأئمة العترة منهم رافضون للإمامة الصحيحة، ومطبقون على القول بالإمامة الفاسدة، ومتقلدون للقضاء وولاية الأحكام من سلاطين الجور وأئمة الضلال، هذا مع وجود الإمام الفاضل الجامع لشرائط الإمامة من العترة النبوية في الأزمنة المتقدمة، فلا يعولون عليه، ولا يصلون إليه، ولا يجيبون دعوته، ولا يلتزمون إمامته، ويذكرون في تصانيفهم شرائط الإمام ويدرسونها، ويهملونها بَعدُ ويضعونها.
فأما الجهاد مع إمام الحق من العترة النبوية فهذا من أبعد الأشياء منهم، ولهذا قال هارون المكنى (بالرشيد) فيما يروى عنه: (إني والله لا أخاف الإمامية ولا أخاف أحداً من أهل الملة الإسلامية إنما أخاف هؤلاء الزيدية كلما قام من آل علي بن أبي طالب قائم سلوا سيوفهم دونه، وحملوا أكفانهم معه).
وهذا صحيح فإنه لم ينصر الأئمة من العترة الطاهرة إلا هذه الفرقة الناجية، وكل فرقة لها خاذلة أو مقاتلة فأي خير يلتمس فيمن هذا حاله، وانظر إلى صلابة مذهب العترة لا يُصَلّون على صاحب كبيرة ولا تارك فريضة كما يفعله غيرهم من المتمسكين بالدين والمنتسبين إلى العلم، ولا يصلون خلف من هذه حاله، ولا يعتقدون إمامة من لم تكمل فيه خصال الإمامة لو ملك الأرض بحذافيرها، وانقادت له الدنيا بأزمتها ما اعتقدوا صحة إمامته، ولو أنه أعطاهم ملكه كله، ولو ملأ لهم طبق الأرض ذهباً.

وأكثر من تراه من علماء الطوائف يدينون بولاية أئمة الضلال ويناضلون عنهم، كما فعل (صاحب الخارقة) في زمان الإمام المنصور بالله عليه السلام.
ومن أحب أن يكون زيدياً مخلصاً وعن شبه الأقاويل متخلصاً فليطالع (كتاب الشافي) للمنصور بالله عليه السلام في جواب صاحب الخارقة، فإنه –أعني صاحب الخارقة- من علماء أهل مذهبه المبرزين وعيونهم المعتبرين، وقد أودع رسالته جميع ما يتمسك به مخالفونا في مسائل الاعتقاد وغيرها من تأويل الأحاديث.
فقيض الله لمذهب (الزيدية) ورعاية حمايته الإمام المنصور، والعلم المشهور؛ فأزال ما تمسك به الجبري من الشبه، وميز له في العلم بين الذهب الخالص والشبه، واحتج لمذهب العترة بما يدهش العقول، ويصحح المنقول والمعقول، فصار (كتاب الشافي) كاسمه شفاء لما في الصدور، ودواء لكل قلب مصدور ، فإذا تأمله المنصف عرف أن العترة وأئمتها هم سفن النجاة وماء الحياة، وأن من خالفهم من الخطر في مهواه، وأنه في الحقيقة تابع لهواه.

قال عليه السلام في شيء من كلامه وقد أشار إلى فضل الزيدية: لا يعتقدون إمامة من لم تكمل فيه خصال الإمامة بخلاف سواهم ممن يشهد لإمامه بالزور. وهو معتكف على الفجور، بالصوّام والقوّام ولعله في تلك الحال لا يفرّق بين القيام والقعود من السُكر، ولا يعتقدون إمامة من يدعي الإمامة حتى يختبروه في كل خصلة من خصال الإمامة، فمتى صحّت لهم تابعوه وبايعوه، وقاموا دونه وشايعوه، على ذلك مضى أولهم وتبع آخرهم، فهم سيوف الحق وأنصار أئمة الهدى، لا يقبلون في دين الله الرُّشا، ولا يبتغون الدين بالدنيا، ورعهم ظاهر، وعلمهم باهر..إلى آخر كلامه عليه السلام في هذا المعنى.
فبهذه الصفات الصالحة والمزايا الراجحة يظهر لك أيها المقلد الطريق الواضحة، وتعرف فضل العترة على غيرهم بالأدلة اللائحة ، فلا ينبغي لعاقل أن يهمل النظر في هذه الأوصاف الحميدة والطرائق السديدة، فإن دينه لا عوض به، ونفسه لا ثمن لها إلا الجنة، والجنة لا يدخلها إلا المتقون، والمتقون لا يكمل لهم التقوى إلا بالتمسك بالعروة الوثقى من عترة محمد المصطفى وعلي المرتضى.
فلينتبه النائم عن نومته، وليستيقظ الوسنان من رقدته، فإن الأمر ليس بالهوينا، ومن وثق بالرائد لم يظما، ومن كذّبَه لم يجد الماء، وأئمة العترة عليهم السلام رواد الشريعة، وهم إلى الله تعالى أوثق وصلة وذريعة.

15 / 39
ع
En
A+
A-