وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33) } [الأحزاب] ، فظاهر هذه الآية دالٌّ على إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم عن سائر الأدناس على جهة المبالغة ، حيث صَدَّر الآية بـ(إنَّما) وهي موضوعة للتحقيق في الجملة؛ لأنها في معنى النفي والإثبات كأنه قال: ما يريد الله إلا إذهاب الرجس عنكم ، ولأنه أكد الفعل بالمصدر حيث قال: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} كأنه قال: تطهيراً لا زيادة عليه، ولا شك أن كل من أخبر الله عنه بإذهاب الرجس وتطهيره عن كل مكروه، فلا مرية في اختصاصه بالفضل على غيره.
وأهل البيت هم: أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وأولادهما في كل عصر بدليل خبر الكساء حيث خصهم به وقال : ((اللهم إن هؤلاء أهل بيتي)) . فدل ذلك على صحة ما قلناه ، فهاتان الآيتان قد دلتا على فضلهم وعلو مرتبتهم من الوجه الذي لخصناه وأشرنا إليه.
قال عليه السلام: وأما من جهة السنة فقد ورد في ذلك أحاديث نذكرها أولها:
قوله عليه السلام: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)) .
وثانيها: قوله عليه السلام: ((أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء فإذا ذهبت نجوم السماء أتى أهل السماء ما يوعدون، وإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون)) .

وثالثها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)) .
ورابعها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أهل بيتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)) .
وخامسها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أحبّوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله وأحبوا أهل بيتي لحبي)) .
وسادسها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما أحبّنا أهل البيت أحد فزلت به قدم إلا ثبتته أخرى حتى تنجيه)) .
وسابعها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أهل بيتي حطة فادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة يغفر لكم خطاياكم وهم كالكهف لأصحاب الكهف، وهم باب السلم فادخلوا في السلم كافة)) .
وثامنها: قوله عليه السلام: ((اللهم اجعل شرائف صلواتك على محمد وعلى آل محمد كما جعلتها على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)) .
وتاسعها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أسبغ وضوءه وأحسن صلاته، وأدى زكاة ماله، وكف غضبه، وسجن لسانه، وبذل معروفه، واستغفر لذنبه، وأدى النصيحة لأهل بيتي فقد استكمل حقائق الإيمان)) .
وعاشرها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((نحن أهل بيت شجرة النبوة، ومعدن الرسالة، ليس أحد من الخلائق يفضل أهل بيتي غيري)) .
وحادي عشرها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يبغض أحدٌ أهلَ بيتي إلا كبه الله على وجهه في النار)) .
وثاني عشرها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((احفظوني في عترتي)) .

وثالث عشرها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أعطيت الكوثر)) قيل: يا رسول الله وما الكوثر؟ قال: ((نهر في الجنة عرضه وطوله ما بين المشرق إلى المغرب لا يشرب أحد منه فيظمأ، ولا يتوضأ أحد منه فيشعث لا يشرب منه إنسان خَفَرَ ذمتي ولا قَتَلَ أهل بيتي)) .
ورابع عشرها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ثلاثة أن شفيع لهم يوم القيامة: الضارب بسيفه أمام ذريتي، والقاضي لهم حوائجهم حين اضطروا إليه، والمحبُّ لهم بقلبه ولسانه)) .
وخامس عشرها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((حرمات من حفظهن حفظ الله له أمر دينه، ومن ضيعهن لم يحفظ الله له شيئاً)) قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: ((حرمة الإسلام، وحرمتي، وحرمةَ رَحِمِي)) .
وسادس عشرها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((حُرِّمَتْ الجنة على من ظلم أهل بيتي وقَاتَلهم، وعلى المعين عليهم، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) .
وسابع عشرها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تزول قدم العبد حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه؟ وعن جسده فيما أبلاه؟ وعن ماله ممَّ اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن حبنا أهل البيت)) .
وثامن عشرها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أحبّ أن يحيا حياتي ويموت ميتتي فليتولَّ علي بن أبي طالب وذريته الطاهرين أئمة الهدى، فإنهم لن يخرجوكم من باب الهدى إلى باب الضلالة)) .

وتاسع عشرها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لما أسري بي رأيت على باب الجنة مكتوب بماء الذهب: لا إله إلا الله، محمد حبيب الله، علي ولي الله، فاطمة أمة الله، الحسن والحسين صفوة الله، على باغضهم لعنة الله)) .
العشرون: عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني أوشك أن أدعى فأجيب وإني قد تركت فيكم الثقلين، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي فإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفونني فيهما)) .
قال عليه السلام: فهاتان الآيتان اللتان تلوناهما، وهذه الأخبار التي أوردناها كلها دالة على فضلهم وعلو درجتهم عند الله تعالى، وعلى كونهم أحق بالمتابعة لما ورد من الثناء من الله تعالى، ومن جهة رسوله عليه السلام عليهم، وعلى التحذير عن مخالفتهم، وكما هي دالة على ما ذكرناه فهي دالة على كون إجماعهم حجة في الأحكام الشرعية، وقد قررناه في الكتب الأصولية.
فإذا تقرر هذا فوجه الاستدلال بما ذكرناه من الآيات والأخبار هو ورود الثناء من جهة الله تعالى ومن جهة رسوله عليه السلام وإبانة فضلهم، وفي هذا دلالة على تزكيتهم وإظهار عدالتهم ، ولا تزكية أعظم من تزكية الله، وتزكية رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأدنى الدرجات مما ذكرناه، كونهم أحق بالمتابعة وأولى بالتقليد في أمور الدين من غيرهم من سائر الفرق بما ذكرناه من هذه الشواهد الشرعية والأمور النقلية.

الطريقة الثانية: النظر في الخصال الغالبة والسير المحمودة وإحراز الشيم الفاضلة في العلم والورع، ولا شك أن ما هذا حاله من الخصال الدينية يدور عليها معظم الترجيح لمن ينبغي تقليده من العلماء ، ونحن نبين أنها في حقهم حاصلة على الكمال والتمام أكمل منها في حق غيرهم من علماء الأمة؛ وجملة ما نشير إليه من ذلك ضروب ثلاثة:
الضرب الأول منها: الفضل بإحراز العلم، وليس يخفى على منصف غوصهم في علوم الشريعة وتبحرهم في أسرارها ، واطلاعهم على حقائقها وإحاطتهم بأسرارها ودقائقها ، وينكشف غرضنا في هذه القاعدة بإيضاح مسلكين:
المسلك الأول منهما على جهة الإجمال، وذلك من أوجه خمسة:
أما أولاً: فلأن الآية واردة بالثناء عليهم في التطهير، وهي عامة في النزاهة لهم من كل ما يسوء، ولا مساءة أعظم من الجهل وعدم البصيرة في الدين، فيجب تنزيههم عن ذلك، وهذا هو الغاية إلى إحراز العلم النافع في الآخرة والسعادة الأبدية.
وأما ثانياً: فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قرنهم بالكتاب حيث قال: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي)) وأعظم الهداية في الدين، والنفع مأخوذ من كتاب الله تعالى فهكذا يكون حال العترة، وما كان حاله على حد حال كتاب الله في النور والشفاء من العمى والبيان وإيضاح كل ملتبس، ولا علم أنفع منه ولا شرف فوقه ولا مرتبة أعلى منه.

وأما ثالثاً: فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)) . فاستعار لهم أسم السفينة وشبههم بها فصاروا بذلك أماناً من الغرق في بحر الجهالات، كما أن سفينة نوح أمان من الغرق في بحر الماء، ولن يكونوا كذلك إلا بإحراز العلم الشافي من الجهل وهذا هو المراد.
وأما رابعاً: فقوله عليه السلام: ((إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي، إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) . فظاهر الخبر دال على أنهما مقترنان غير مفترقين فيما يدلان عليه، فإذا كان القرآن صحيحاً دالاً على كل العلوم الدينية والدنيوية فيجب ذلك في حق العترة.
وأما خامساً: فقوله عليه السلام: ((هم كالكهف، وهم باب حطة)) . وغير ذلك من الأحاديث التي تدل من جهة ظاهرها على كونهم أئمة الخلق دعاة إلى الله، هداة لخلقه، فهي بعينها دالة على علو درجاتهم في العلم وإحرازه، وأقوى دلالة على جهة الإجمال، على علمهم، قوله عليه السلام: ((الأئمة من قريش)) فما هذا حاله يكفي في الدلالة على إحرازهم للعلم من طريق الإجمال.
المسلك الثاني: من طريق التفصيل، وهذا إنما يكون بالوقوف على موضوعاتهم والاطلاع على مصنفاتهم في علوم الشريعة والفتاوى النقلية والمضطربات الاجتهادية، فالناظر متى وقف على ما ذكرناه لاح له على قُرب أنهم قد أحاطوا بعلوم الشريعة وقادوها بأزمتها، ودعوا أهلها وأصحابها وكانوا سادة لأئمتها.

ويشهد لذلك تصرفهم في المسائل الاجتهادية ومكالمة الخصوم في المضطربات الفقهية مع ما شغلوا به من عداوة أهل البغي في أزمانهم، وإقصاء أخدان الظلم في أوانهم، وإظهار حجة الله وإعلاء كلمته بالسيف لأجل تقلدهم للإمامة، ونهوضهم بأحكام الزعامة، فكانوا لهم في غاية الطرد والإبعاد عن الشغل بالتدريس وإظهار العلم خوفاً على دنياهم، ومحاذرة على انثلام ظلمهم الخلق، وإكبابهم على البغي وأنواع الفسوق، فهذا ما يتعلق بجانب العلم.

الضرب الثاني: ما يتعلّق بجانب الدين، وذلك أن كل من اطلع على أحوالهم وعرف طرفاً من سيرهم، عرف قطعاً ويقيناً مراقبتهم لله تعالى في الإقدام والإحجام، وشدة تحرزهم في الأخذ والإعطاء، ووقوفهم على حدود الشريعة في التحليل والتحريم، والجري على مراسمها والمحاذرة عن مخالفة شيء من أدلتها القاطعة، وحصروا نفوسهم على التدوار في مواردها ومصادرها، ولم يطمح لأحد منهم نظراً إلى مخالفتها، ولا تشوقت قلوبهم إلى غيرها، شددوا على أنفسهم بأخذ العزائم، وأخذوا للخلق بما فهموا من الله رخصه فيه لخلقه ، واقتحموا موارد الموت في نصرة دين الله وإعلاء كلمة الحق بين مقتول ومصلوب ومأسور ومطرود، لا يزيدهم ما يرون في أنفسهم وأهليهم من القتل والطرد إلا صبراً لله تعالى، واحتساباً في إعزاز دينه وعلو كلمته، وتصلباً على من خالف أمر الله وحكمه، ومن كانت هذه حالته فقد تمسك بالدين بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، ولا يخاف عليها نقض ولا يخشى لجانبها اهتضام.

الضرب الثالث: الورع، ومن أراد الاطلاع على رفضهم للدنيا وإعراضهم عنها، وحرصهم على إيثار الآخرة، وسلوكهم لجانب الحيطة في الأخذ والترك، وبعدهم عن المآثم، وازورارهم عن الوقوع في المحرمات والمكروهات، فليطالع سيرهم وأخبارهم، فإنه يتحقق لا محالة أن تعويلهم ما كان إلا على رفض الدنيا وإيثار رضوان الله تعالى، وإحراز طاعته، والعمل لوجهه وتحصيل مرضاته؛ فإن حصلت الدنيا آثروا بها، وإن زُوِيَت عنهم صبروا على ما أصابهم من مشقة لأْوَائها، علماً لما لهم عند الله من عظيم الزلفة، ورفيع المنزلة، فيزيدهم رغبة فيما عند الله وشوقاً إلى لقائه، وهذه هي حقيقة الورع وغاية أمره، وقصارى حاله وسره.
الطريقة الثالثة: تشتمل على نظر كلي بالإضافة إلى صحة العقائد في أمور الديانة، والسلامة عن الزلل، والعصمة عن الخطأ في مجاري الأنظار الاجتهادية في أحكام الشريعة.
واعلم أن الذين نصبوا أنفسهم للفتوى، واقتعدوا دست العلماء واشتهروا بالاجتهاد، وطبقت مذاهبهم طبق الأرض ذات الطول والعرض، هم هؤلاء العلماء الثلاثة مالك والشافعي وأبو حنيفة؛ فأما أحمد بن حنبل وسفيان الثوري فهما وإن بلغا مرتبة الاجتهاد، لكنهما لم يشتهرا كشهرة هؤلاء ولم يختصا بكثرة الأتباع مثلهم، وكل واحد من هؤلاء الثلاثة قد نأى عن الصواب نظره ، وأنمحى عن رسم الحق أثره، إما في عقيدته، وإما في أثناء تصرفه في المسائل الاجتهادية.

فنقول: أما مالك بن أنس؛ فإنه لا يُشَقُّ غباره في ضبط الأخبار وتمييز صحيحها، ومعرفة قويها من ضعيفها، وكان شديد الاحتراز في الرواية والتصون في النقل وحصر وقائع الصحابة رضي الله عنهم، ولا يدرك آثاره في انتقاد الرواة ومعرفة أحوالهم، وهو أول من عُنيَ في جمع الأحاديث وضبطها في كتابه (الموطأ).
وكان كثير التعظيم للعلم، شديد الورع، خلا أنه استرسل في القول بالاستصلاح حتى أدى ذلك إلى إهدار الدماء، وإتلاف الأموال لمصالح إياليه، وانتهى حاله إلى تقرير أمور منوطة بالسياسة، حتى آل نظره في ذلك إلى أن قال: (أقتل ثلث الأمة في استصلاح ثلثيها).
وهذا بُعْدٌ في الخطأ؛ فإنا نعلم بالضرورة من حال الصدر الأول انكفافهم عن مثل هذا وتصونهم عن الفتوى بمثل هذا، ويعلم من حالهم أنهم لا يتجاسرون على إراقة كفٍّ من دم إلاّ بحقها.
وأما الشافعي محمد بن إدريس، فنظره لا يجارى، وفضله لا يبارى في تقرير أصول الأدلة وتنزيلها منازلها وترتيبها على أحسن هيئة ، وفي ذلك دلالة على سعة علمه وتبحره في علوم الشريعة مع حدة نظره وجودة ذكائه، ويشهد بفضله مسائله التي أنشأها، وعِلَله التي قررها واستنبطها، ولقد كان عمره يقصر عن إحراز مثل فضله، فاختُرم وقد نَيّف على الخمسين.

14 / 39
ع
En
A+
A-