[كلام عالم الزيدية: القاضي جعفر رضي الله عنه]
ونذكر هاهنا كلام القاضي الإمام شمس الدين جعفر بن أحمد بن عبد السلام -رضي الله عنه- قال: اعلم أن الناس مع اختلاف مذاهبهم وتباين طرقهم، وأعني بهذا أمة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- المصدقين له، والمنتحلين لملته؛ فإن كل فرقة منهم تدعي أن الحق معها وأن الباطل مع مخالفها، وتروي عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أنه قال: ((ستفترق أمتي نيفاً وسبعين فرقة كلها هالكة إلا فرقة واحدة)) ، فادعت كل فرقة من الأمة أنها هي الفرقة الناجية، وهذا شيء قد قَرَّ عندهم.
واعلم أن أحوالهم إذا طُولِبت بإقامة برهان على صحة دعواها ضاقت عليهم المذاهب، واسْتَدَّت المسالك والمطالب، ونحن نعلم أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- لم يكن ليترك الناس في جهالة من أمرهم، وحيرة من سُبُلِهم، مع أنه بُعثَ مُبيّناً لسبل النجاة، فاصلاً بين الحق والباطل، مميزاً بين الصحيح والسقيم؛ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ(42)} [الأنفال] .
فقضينا لذلك أنه عليه السلام لا بد أن يكون قد أقام على سبيل النجاة برهاناً صحيحاً، وعَلَماً بَيّناً، ليتمكن من الوصول إلى النجاة من أرادها، ويجد السبيل إلى السلامة مَنْ قصدها، ووجدنا أهل المذاهب المختلفة من أمته، والمقالات المتباينة من أهل ملته يروون عنه -عَلَيْه السَّلام- أنه قال: ((مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق)) .
فعلمنا أنه عليه السلام قد بيّن لأمته بذلك أن اتباع أهل بيته هو طريقة النجاة، وأن مخالفتهم هي سبب الهلاك، لأنه لما مثلهم بسفينة نوح وقد علمنا أن أمة نوح هلكت كلها إلا من ركب السفينة؛ عَلِمْنَا أن كل أمته يهلكون إلا من اتبع أهلَ بيته عليهم السلام، وأن الملتزم بطريقة غيرهم من الفقهاء الذين خالفوا طرائقهم لا ينجو مع الناجين؛ كما أن أمة نوح -عَلَيْه السَّلام- لم ينج منهم من إلتجى إلى غير السفينة.
وفي هذا دلالة مقنعة على أن إتباع أهل البيت -عليهم السلام- هو الواجب الذي لا رخصة فيه، واللازم الذي لا محيص عنه، والسبب الذي لا نجاة إلا به، وأنهم والمتبعون لهم هم الفرقة الناجية دون من سواهم، ولا شكّ أن الذين اتبعوا أهل البيت -عليهم السلام، وضبطوا مذاهبهم ولزموا طرائقهم هم طائفة الزيدية دون من عداهم ممن ينتسب إلى أهل البيت وهم عنه براء، أو يدعي التعلق بحبلهم وهو عنه بعيد، وظهور بطلان دعاوي من ينتسب إلى أهل البيت سوى الزيدية يغني عن تكلف الكشف والبيان عنه: [الوافر]
وليس يَصحُّ في الأفهام شيءٌ .... إذا احتاج النهار إلى دليلِ
هذا كلامه رضي الله عنه، وهو كما ترى مصرح بوجوب متابعة العترة، وأورد على ذلك ما ترى من الحجة.
ومن أنصف الحق من نفسه، وعمل لحلول رمسه، كفاه هذا الدليل، وقد أحسن من قال: [الطويل]
إذا كان في الإسلام سبعون فرقةً .... ونَيٍفٌ على ما جاء في مسند النقلِ
ولم يكُ ناجٍ منهم غير فِرْقَةٍ .... فماذا ترى يا ذا التبصر والعقلِ
أفي الفرقة الهُلاَّكِ آلُ محمدٍ .... أم الفرقةُ اللاَّتِي نَجَتْ مِنْهم قُل لِّي
فإن قلت: في الناجين فالقول واحد .... وإن قلت في الهُلاَّكِ حِفْتَ عن العدلِ
فدع لي علياً والأئمة بعده .... وأنت من الباقين في أوسع الحلِّ
[نقولات من كتاب بيان الأوامر المجملة]
وقال السيد الإمام مجد الإسلام المرتضى بن المفضل -قدس الله روحه- في كتابه (البيان)، وقد ذكر نكتاً من كلام أئمة العترة في الرجوع إليهم، وأنهم بذلك أولى؛ حتى قال:
فإن قيل: فقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((العلماء ورثة الأنبياء)) وما روي عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- من قوله: ((كل مجتهد مصيب)) وهذا عام للعلماء منهم -رضوان الله عليهم- ومن غيرهم فهل جاز الرجوع إليهم على العموم؟
قال: قلنا: إن صح ذلك فهو مخصوص بما تقدم، ولأنه لا يخلو إما أن يراد به علماء كل فرقة على العموم، أو يراد به علماء الفرقة الناجية.
لا يجوز أن يراد به علماء كل فرقة؛ لوجهين:
أحدهما: أن في تجويز نجاة علماء كل فرقة رَدٌّ لما أخبر الله تعالى من ضلال كثير من الأحبار والرهبان.
والثاني: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- قال فيما روينا عنه: ((ستفترق أمتي من بعدي على ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلا فرقة)) فَحَكَم -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- بهلاك جميع الفرق إلا من استثناه، فلا يصح الرجوع إلى من حكم بهلاكه، فلم يبقَ إلا من استثناه من الهلاك، وهي الفرقة الناجية وهم آل محمد ومن تبعهم ولم يخالفهم.
وقد نبهنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- بقوله: ((أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)) .
وبقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي..الخبر)) .
قال [رحمه الله]: والأصل فيه ما روي عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أنه قال في خطبة الوداع: ((أيها الناس إني امرء مقبوض وقد نعيت إلي نفسي، ألا وإنه سيُكذب عليّ كما كُذب على الأنبياء من قبلي فما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب الله فما وافق كتاب الله فهو مني وأنا قلته، وما خالفه فليس مني ولم أقله)) .
وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((أمة أخي موسى افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت أمة أخي عيسى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي من بعدي على ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلا فرقة واحدة)) فلما سمع ذلك منه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- ضاق به المسلمون ذرعاً، وضجوا بالبكاء وأقبلوا عليه وقالوا: يا رسول الله كيف لنا بعدك بطريق النجاة، وكيف لنا بمعرفة الفرقة الناجية حتى نعتمد عليها؟
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) .
قال [رحمه الله]: والأمة مجمعة على صحة هذا، وكل فرقة من فرق الإسلام تتلقاه بالقبول وتزعم أنها هي الفرقة الناجية فثبت ما ذكرناه من بيانها، وصح بما تقدم ذكره أيضاً من الآي الشريفة والآثار النبوية أنهم -سلام الله عليهم- هم وشيعتهم الفرقة الناجية.
قال [رحمه الله]: وفيهم وفي شيعتهم ما ذكره الفقيه العلامة عبدالله بن زيد: أن الله تعالى ناجى نبيه محمداً -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فقال: ((أنت شجرة، وعلي أغصانها، وفاطمة ورقها، والحسن والحسين ثمارها؛ خلقتها من طينة عليين وخلقت شيعتكم منكم إنهم لو ضربوا على أعناقهم بالسيوف لم يزدادوا لكم إلا حباً)) .
قال [رحمه الله]: ومثل ذلك قد تقدم من طريق زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام- ذكره في مجموع الفقه، وهو لنا إجازة، ومثله ذكره المنصور بالله عليه السلام في الشافي.
قال [رحمه الله]: وقد روينا عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أنه قال: ((شيعتنا منا)) يريد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- من شايع وتابع ولم يخالف.
ولا بد أن يكون اجتهاده موافقاً لاجتهاد أحدهم كما تقدم، لأن لهم سلام الله عليهم خصائص وألطاف في إصابة الحق من الله تعالى كما جعل لآبائهم من الأنبياء صلوات الله عليهم جميعاً لمكان الهداية والتبليغ، وهم يقومون مقامهم.
قال [رحمه الله]: فإذا ثبت أنهم سفن النجاة كان الراجع مخيّراً في الاقتداء بأيهم أحب، متى كان على الصفة المعتبرة من العلم والدين والورع وسائر الأوصاف بحيث يرجع إليه في المسائل الاجتهادية، لأنهم كالنجوم، إلا أنه قد ورد في جماعة منهم تخصيصٌ من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم- ، مما يدل على زيادة الفضل العظيم، والشرف الجسيم، فلا يمتنع أن يكون الرجوع إليهم أولى، والله أعلم.
قال [رحمه الله]: فإن قيل: بما تحصل هذه الصفة المعتبرة لمن يطلبها؟
قلنا: ذلك على وجهين: أما العالم فبالبحث والنظر، وأما الجاهل فمنها ما يمكنه تحصيله، ومنها ما يرجع فيه إلى خبر العلماء المشهور علمهم فيما هذا حاله، ودينهم وعفتهم فإن العلم إنما يُعْرفُ من العالم بما يظهر منه في الأوقات المختلفة، وعند الفتاوى المضطربة ، وعند التعليم على وجه الابتداء بحيث يحصل له العلم فإذا حصل له العلم ثبت الرجوع، ووجبت الطاعة بعد انعقاد الولاية.
قال [رحمه الله]: فإن أراد التقليد الذي هو الرجوع إلى أقوالهم في المجتهدات هل يفتقر إلى ترجيح كما قد قيل أم لا؟
قال [رحمه الله]: لا يمتنع والله أعلم أن لا يفتقر إلى ذلك لما تقدم من ترجيح أبيهم صلى الله عليه وآله وسلم وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أهل بيتي كالنجوم)) .
قال [رحمه الله]: والأخبار في ذلك كثيرة متى حصل ما تقدم من ثبوت الصفة المعتبرة.
قال [رحمه الله]: فإذا التزم الملتزم بأحدهم هل يجوز له الرجوع إلى غيره منهم أم لا؟
قال [رحمه الله]: ذكر بعض العلماء أنه لا يجوز، ولعلهم جعلوا ذلك كالحكم، وفيه نظر لأنه التزام من غير مُلزِم فلا يلزم، بل يكون حاله حال المستفتي فيخالف الحكم، والله أعلم.
هذا كلامه بلفظه منقول من خطه.
[نقولات من ديباجة كتاب الإنتصار]
وقال الإمام المؤيد بالله أمير المؤمنين يحيى بن حمزة عليه السلام في كتابه (الانتصار)، وقد ذكر في ديباجة الكتاب من هو أحق بالتقليد، فقال: المطلب الثاني: من هو أحق بالتقليد، ومن يكون أولى بالمتابعة ممن حاز منصب الاجتهاد من العلماء.
قال عليه السلام: اعلم أن العوام لما كانوا لا هداية لهم إلى القيام بهذه التكاليف الشرعية، وتأدية هذه العبادات العملية بأنفسهم فلا بد لهم من قدوة يعتمدونها وإمام يهتدون بهديه، ثم هل يكون العامي مخيراً في تقليد من شاء من أهل الاجتهاد، أو لا بد له من مزيد نظر في طلب الأفضل؟ فيه تردد ونظر.
والمختار عندنا أن عليه تكليفاً في طلب الأفضل، لأن الذي دل على أنه واجب عليه التقليد فهو بعينه دال على أن عليه مزيد تكليف في تعرّف مَنْ يكون أحق بالتقليد في الفضل، وهذا ظاهر.
فإذا تمهدت هذه القاعدة فلنذكر ما يكون معتمد التقليد من المذاهب؛ فنقول: أجمع العلماء واتفق رأي الفضلاء من أئمة الزيدية، والجماهير من المعتزلة والأشعرية، وغيرهم من سائر فرق الأمة على أن الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم- وإن كان فضلهم لا ينكر، ومزيد علمهم لا يجحد، لعلو منصبهم في الدين، وإحراز المناقب، واختصاصهم بالصحبة، فإنه ليس للعوام ولا من كان فرضه التقليد من أنواع الخلق تقليدهم؛ لوجهين:
أما أولاً: فلأنهم لم يكن من جهتهم اعتناء بتذليل مسالك الاجتهاد وترتيب أبوابه وإيضاح طرقه، وتأسيس أصول النظر فيه، وإنما كان همهم إحياء معالم الدين، وتقرير قواعد الإسلام بالذب عنه بالسيف.
وأما ثانياً: فلم يُدوّنوا أبواب الفقه، ولا كان من جهتهم اهتمام بتقرير مسائله بل كان همهم من ذلك إرسال الاجتهاد وإيضاح الفتاوى في الأقضية والأحكام على جهة الإجمال من غير نظر في التفاصيل.
قال عليه السلام: نعم إنما الذين خاضوا غمرات الاجتهاد، وسبروا مسالك الأدلة بالتفصيل والتهذيب، وترتيب المسائل وتبويب الأبواب وسطرها في الكتب وإثباتها في الصكوك، هم العلماء مِنْ بعدهم من زمن التابعين وتابعيهم إلى يومنا هذا من أئمة العترة وفقهاء الأمة، فإن عنايتهم في ذلك غير خافية على من له أدنى مسكة من الفضل، وكَفَوْا مَن بعدهم النظر في مذاهب الصحابة -رضي الله عنهم-، لأن السابق وإن كان له حق الوضع والتأصيل فللمتأخر الناقد حق التكملة والتنخيل والتفصيل، ولأجل ذلك كان مَنْ بعدهم أحق بالاتباع، فإذا وضحت هذه الجملة فنحن الآن نعلو ذروة لا يُنَال حضيضها في ترجيح مذاهب العترة على غيرهم من فقهاء الأمة وعلماء العامة، ونوضح بالبراهين الباهرة والأدلة القاهرة، أنهم أحق بالتقليد وأولى بالمتابعة، وجملة ما نشير إليه من ذلك طرق أربع نذكر ما يتوجّه في كل واحدة منها:
الطريقة الأولى: ورود الثناء عليهم من جهة الله تعالى، ومن جهة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أما من جهة الله تعالى؛ فقوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] .
ووجه الاستدلال بهذه الآية على فضلهم: هو أن الله سبحانه لما كان من أعظم نعمه على الخلق وأجلها وأعلاها وأكملها هو بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهداية الخلق وإرشادهم إلى السعادة الأخروية وإزاحتهم عن العمى، وهدايتهم إلى طريق الهدى به صلى الله عليه وآله وسلم، فما يكون في مقابلة هذه النعمة يكون لا محالة جليل القدر عظيم المنزلة؛ لكونه جعل في مقابلته هذه النعمة، والله عز وجل قد جعل في مقابلة النعمة بالرسول والجزاء على عنايته في الخلق، هو المودة والمحبة لمن كان قريباً إليه.
وما هذا حاله فليس يخفى مزيد فضله، وعلوّ حاله وأمره من جهة كونها واردة في معرض المدح، والتنبيه على مزيد فضلهم وعلوّ قدرهم واهتمام أمر الله بهم حتى قال فيهم ما قاله.